أسامة غريب يكتب: الزراعة في الأرض البور
آخر تحديث: الجمعة 18 يوليه 2025 - 8:28 م بتوقيت القاهرة
تلقيت منذ فترة رواية مشفوعة بإهداء كريم من كاتبة شابة. عرفتُ أن عملها هذا ليس الأول وإنما سبقته سبع روايات أخرى. أسعدنى الإهداء الذى حمل إطراء لا أستحقه، لكنى لاحظت أن كلمات الإهداء تتضمن مجموعة أخطاء منها ما هو إملائى وما هو نحوى، غير التركيب المفكك للجمل.لا أنكر أن الخطأ وارد بالنسبة للجميع، لكن ليس بهذا الشكل بالنسبة لمن تُقدم نفسها للناس بحسبانها كاتبة. لقد دلت كلماتها دون قصد منها على أنها لا تقرأ، وهذا فى الحقيقة شأن الكثير من الكُتّاب الذين يعتقدون أن رءوسهم من تلقاء نفسها ودون حاجة للقراءة أو البحث تنتج أفكارا أدبية لا ينقصها سوى مصحح لغوى ثم يدخل الكتاب المطبعة ويخرج معلنا مولد روائى جديد!. وكنت قد لاحظت بالخبرة أن الراغبين فى دخول دنيا الكتابة بغير أن تكون لديهم أدواتها يستسهلون كتابة الروايات دون غيرها من الأجناس الأدبية، ولاحظت كذلك أن أكثر من صديق وعدد لا بأس به من المعارف ما إن تسأله عن أخباره حتى يخبرك أنه عاكف على كتابة الرواية الجديدة التى تأخذ كل وقته ولا تترك له مساحة للتنفس. كنت فى البداية أتساءل فى براءة: أى رواية؟..لكنى تعلمت بعد ذلك ألا أبدى الاندهاش وأن أتماهى مع حديث الرواية «المعصلجة» التى تأخذ وقت الأخ وتشغل أيامه ولياليه.
عندما تمعنت فى الأمر أظننى عرفت السبب وهو أن الرواية هى بناء تراكمى ضخم، وكلما كبر حجمها وكثرت فصولها وزاد عدد صفحاتها كلما سهل على الكاتب أن يوارى ضعفه ويدفنه داخلها، على العكس من القصة وبالذات القصيرة وكذلك المقال وقصيدة الشعر، ففى الأجناس الثلاثة الأخيرة سوف يتضح التهافت والقصور بسهولة، خاصة بالنسبة لقصة من ثلاث صفحات أو مقال قصصى فى صفحتين أو قصيدة من عدة أبيات، ولو ضربنا مثلاً بالقصيدة فإن الشاعر ما إن يشرع فى إلقاء أول بيتين حتى يكتشف الجمهور حقيقته. أما الرواية الضخمة فلديها القدرة فى حالة الكاتب الفالصو على أن تخدع القارئ غير المتمرس الذى قد يلوم نفسه ويظن بها العجز عن متابعة العمل، وقد يتخيل أن الرواية تمثل مدرسة أدبية جديدة تحتاج منه إلى أن يرتقى ليصبح مؤهلاً لاستقبال هذا النوع من الإبداع!.. هنا يكون الكاتب المتواضع قد حقق ما يصبو إليه، فحتى لو ظهر من بين القراء الواعين من يجاهر بأن هذه الرواية سخيفة ومملة فإن الكاتب لن يجفل ولن يهتز.. هو لا يتوقع أن يحصل على نوبل، لكنه يرمى إلى أن يضع نفسه فى سجل الروائيين، ومجرد ترديد أقاويل عن الرواية المملة يصلح مدخلاً لكى يعرفه الناس ككاتب روائى، أما مسألة الملل والسخافة فالناس ستنساها مع الوقت، ومعظم الذين لم يقرأوا العمل سيظنون أنها وجهات نظر فى عمل أدبى أو أنها غيرة مهنية!
فاتنى أن أقول أن هؤلاء السالف ذكرهم منهم من له تجارب أدبية، ومنهم الموظف بهيئة البريد ومنهم الطبيب والصحفى والمحامى وصاحب محل الحلويات. ومن الطبيعى أننى لا أنكر على أى صاحب مهنة أن يشتغل بالأدب ما دام الله قد حباه الموهبة والثقافة والحرفة، لكنى أتحدث عن أصدقاء ومعارف لا علاقة لبعضهم بالكتابة، ومن كان منهم صحفيا مثلا فإن شغلته هى مندوب للصحيفة فى إحدى الوزارات يأتى منها بالأخبار ثم يقدمها للديسك حتى يُعاد صياغتها حيث إن مهاراته فى القراءة والكتابة محدودة!. فهل هى صرعة أصابت الناس جميعا حتى حسب معظمهم أن الله قد خلقه روائيا راصدا وقادرا على سبر أغوار البشر وفك شفرة العلاقات بين الكائنات، وصياغة هذا كله فى عمل أدبى وتحديدا الرواية؟. لا شك أن ما شاع بين الناس عن أننا نعيش فى عصر الرواية التى صارت لها الغلبة على غيرها من الأجناس الأدبية هو سبب من أسباب حلم الكثيرين بكتابة رواية دسمة يحفر بها اسمه بين الكتاب، وحتى لو لم تُصب نجاحا فقد وضعته فى كادر كُتاب الرواية أصحاب الأعمال المنشورة. لا أنكر أن هذا الأمر يحيرنى حيرة مزدوجة.. النوع الأول منها يتعلق بأصحاب الأعمال المعقولة الذين أهملوا ما كان يمكن أن يصدر عنهم من أعمال قصصية أو مسرحية أو شعرية لصالح الرواية التى تغريهم بإمكانية الحصول على الشهرة والمال والجوائز فى زحمة حياة أدبية فقدت البوصلة وافتقدت نقاد الشعر والمسرح ولم يبق بها سوى بعض نقاد الرواية المتطلعين لنفس مكاسب المقبلين على كتابة الرواية!. أما النوع الثانى من الحيرة فيتعلق باختفاء شعراء القصيدة الفصحى من مصر بشكل شبه تام، وهذا قد يعود بالأساس إلى جهل الشعراء باللغة العربية واستسهالهم الكتابة بالعامية..فكيف بهذا الجيل الذى يحتاج للعودة للمدرسة من جديد أن يتجاسر على كتابة الروايات وهم يزعمون اهتمامهم بالأدب بينما لا يمتلكون أدواته؟
يا سادة.. إن الحواديت التى تملأ رءوس الناس جميعا والتجارب الشخصية التى عاشوها لا تكفى لكتابة رواية، ويوسف إدريس بجلالة قدره لم يكن روائيا جيدا رغم تفرده فى كتابة القصة القصيرة.
أعلم أن البعض سيقول لى: دع مائة زهرة تتفتح، وأنا من جانبى لا أخاصم الزهور، لكنى أندهش من الزراعة فى الأرض البور!