تغير مسار النيل.. أحدث الاكتشافات الأثرية البلجيكية في مصر

آخر تحديث: السبت 19 سبتمبر 2020 - 2:29 م بتوقيت القاهرة

منال الوراقي

في قرية دير البرشاء التابعة لمركز ملوي بمحافظة المنيا، ما زال الفريق البحثي بجامعة لويڤن البلجيكية ينقب عن الآثار ويواصل اكتشافاته الأثرية، على رأسها وصوله إلى عينات رواسب النيل التي تدل على مكان نهر النيل في مصر القديمة، إذ اتضح أن النهر هاجر مكانه وتغير مساره خلال فترة سابقة.

وأجرى الفريق البحثي بقيادة عالم المصريات هاركو ويليامز، بحثا أثريا على مدار العشرين عامًا الماضية، في المقابر الصخرية المصرية القديمة في منطقة دير البرشاء، الموقع الذي يشتهر بمقبرة جحوتي حتب، الحاكم الذي عاش في مصر الوسطى، منذ 4 آلاف عام، لتسفر أعمال الحفر والتنقيب التي أجراها الفريق البحثي عن اكتشافات جديدة كل عام، وحاليا يستخدم الباحثون علم الآثار الرقمي لإعادة بناء الموقع.

كانت أزمة فيروس كورونا انتكاسة للفريق البحثي، الذي لم يستطع الوصول إلى الموقع الأثري لإجراء التنقيب هذا العام، لكن الفريق بقيادة الجعرافي وعالم الآثار ويليم تونين، جمع بيانات مهمة، في السنوات الماضية؛ ليرسم خريطة تكشف كيفية تطور المناظر الطبيعية -وخاصة موقع نهر النيل- على مر القرون، حسب الموقع الإلكتروني للجامعة.

تغيير نهر النيل لمجراه

السلسلة الأولى من عمليات التنقيب والبحث، التي قام بها العالم جيرت فيرستريتن، كانت تهدف في المقام الأول إلى رسم خريطة لنهر النيل القديم، للعثور على المواقع الأثرية التي كانت أنشئت على ضفافه، فبدأ الفريق أعمال الحفر في قرية دير البرشاء لمعرفة مكان ضفة النهر بالضبط في القرون السابقة، بعدما توصلوا لعينات من رواسب النيل في القرية التي تقع في الصحراء حاليا.

وعندما انضم العالم ويليم تونين إلى الفريق، في عام 2015، بدأ بإجراء أبحاثه على عينات من تربة القرية على أمل العثور على اكتشافات أثرية، كالكأس المقدس وهو تمثال ضخم لجحوتي حتب، رسم على جدار قبره، وكان يظهر في النقش أنه كان قائمًا على ضفاف النيل في ذلك الوقت، الأمر الذي دفع الباحثين للبحث عن مكان مجرى نهر النيل قديما قبل هجرته.

واستكمالا لعمل العالم فيرستريتن، أراد العالم تونين أيضًا رسم خريطة لموقع نهر النيل قديما، فبدأ بحفر ثقوب منتظمة في أرض القرية، على عمق 10 أمتار، لمعرفة نوع الرواسب المطمورة أسفل الأرض، فنوع الرواسب يعد مفتاح اكتشاف الماضي، إذ تعطي الرواسب أدلة ومؤشرات على طبيعة البيئة في الماضي.

العالم أوضح أن نهر النيل كان خلال فيضانه الطبيعي في القرون الماضية يرسب كل سنة طبقة من الطمي، يبلغ سمكها مترا واحدا كل ألف سنة، متابعا أن العثور على طمي النيل في مكان ما تحت الأرض على عمق مترين يشير إلى أن النهر كان يرسب في هذا المكان قبل ألفي سنة أي في عهد الرومان، بينما يشير العثور على الطمي على عمق أربعة أمتار إلى ألفي سنة قبل الميلاد في أحد عصور الدولة المصرية القديمة.

البعثة البلجيكية قامت بحفر آبار استكشاف بشكل منتظم كل 200 متر، في مسافة ما بين 10 إلى 15 كم في منطقة المقابر الفرعونية في دير البرشا وما حولها في اتجاه السهل الفيضي، وهو ما أنتج سلسلة من التحليلات مكنتهم من معرفة الموقع القديم الذي كان يسير فيه نهر النيل.

خريطة المناظر الطبيعية لمصر القديمة

وفي سبعينيات القرن الماضي، توصل الجغرافي وعالم الآثار الألماني الأمريكي كارل بوتزر، المعروف باسم مبنى الهجرة الشرقي، إلى نظرية توضح أن النيل قد تعرَّج عن طريق تآكل منحنياته الخارجية وتحول بمرور الوقت إلى شرق الوادي، ورسم خريطة مناظر طبيعية لمصر يعتمد عليها معظم علماء المصريات حاليا.

لتأتي نتائج العالم تونين، وتسلط الضوء مرة أخرى على تطور مجرى النيل، ولكن من منظور آخر، إذ يقول عالم الآثار: "لم يرتكب بوتزر أي خطأ، لكن نموذجه كان يعتمد على مجموعة بيانات محدودة من الخرائط التاريخية والمصادر النصية والصور الجوية وستة عينات من التربة فقط، لكن نتائج دراستنا الحالية، ونتائج عدد من الدراسات الأخرى باتت لا تتناسب مع هذا النموذج التقليدي لخريطة مصر قديما".

ومن خلال عمليات البحث والتنقيب، حصل العالم تونين على صورة أكثر دقة للقفزات العملاقة والتغييرات الكبيرة لمجرى نهر النيل، إذ يقول "لم نجد أثار لطمي نهر النيل في بعض المناطق التي كان يسير فيها النهر في نموذج بوتزر، ولكن وجدنا رواسب في مناطق تبعد حوالي كيلومتر عن المجرى في النموذج، وتحديدا في أشمونين وقرب دير البرشاء، لذلك توصلنا إلى أن النيل كان يجري في هذين المكانين".

العالم البلجيكي أوضح أنه يمكن تتبع هجرة نهر النيل من مكانه عن طريق الخريطة التاريخية لوادي النيل في زمن الحملة الفرنسية قبل 220 عاما، إذ يُظهر المسار البرتقالي مجرى نهر النيل في عهد الدولة المصرية القديمة، حيث تظهر المدينة الشهيرة "الأشمونين" عاصمة الإقليم وأشهر مدن مصر القديمة في المنيا، والتي يرمز لها بدائرة بيضاء وسط المجرى البرتقالي.

وتابع العالم أن النهر السابق ترك مجراه مهاجرا نحو الشرق ليأخذ مسارا جديدا، عبر عنه باللون البنفسجي، أقيمت عليه المنطقة الأثرية في "دير البرشا"، التي وضع لها رمز المربع، والتي كانت تعرف بأنها مدينة الموتى لكبار شخصيات العصر الفرعوني، لكنها تبدو اليوم بعيدة في الصحراء بينما كانت وقت هجرة النهر واقعة على مشارف ضفة النهر بمياهه المهيبة التي أعطت مواقع المقابر قداسة وبهاء.

أما اللون الأخضر فقد أوضح عالم الآثار أنه يشير إلى هجرة مجرى النيل غربا مرة أخرى وذلك في العصر اليوناني الروماني، بينما يشير اللون السماوي إلى مجرى نهر النيل في العصر الحالي.

مجرى النهر تغير فجأة

علماء الآثار البلجيكيين أكدوا أن النيل لم ينتقل تدريجيًا نحو الشرق، بل تغير موقعه فجأة أو بالأحرى أنشأ قناة جديدة لنفسه في مرحلة ما أثناء الفيضانات، إذ وجد النهر مسارًا جديدًا أكثر ملاءمة، قد يكون تشكل في فترة تتراوح من 100 إلى 200 عام، والتي تعتبر من الناحية الجيولوجية "مفاجئة".

العلماء أوضحوا أنه نتيجة لتغيرات نهر النيل لم تعد أشمونين موجودة على ضفاف النهر، ووجدت دير البرشاء نفسها ملقاة بعيدا عن ضفاف النهر الجديد.

موقع الجامعة البلجيكية أكد أن العلماء سيعملون على مواصلة الحفر في السنوات القادمة من أجل توسيع وتحسين صورة المناظر الطبيعية التاريخية لمصر، بل ويقترحون إنشاء شبكة تدريب أوروبية حتى يمكن للعاملون في مواقع تنقيب أخرى في مصر تبادل المعرفة وتقنيات البحث والمساهمة في إعادة بناء المناظر الطبيعية.

العلماء أكدوا أن اكتشافاتهم ستساهم في معرفة تأثير تغير المناخ على "سلوك" الأنهار والعلاقة بين الطبيعة والإنسان في الماضي، فيقول العالم تونين: "على سبيل المثال، كانت هناك فترات متكررة من الجفاف الشديد في مصر القديمة، أشهرها في نهاية الدولة القديمة، فلم تشهد البلاد فيضانات النيل، التي كانت مهمة في عملية الزراعة، لعدة قرون، ربما كان هو السبب الذي أدى إلى المجاعة والاضطرابات السياسية حينها".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved