الأمير طاز.. قصة قصر الحي الأرستقراطي الذي أنقذه زلزال 1992 من الفناء

آخر تحديث: الجمعة 20 يناير 2023 - 4:27 م بتوقيت القاهرة

منال الوراقي:

القصور التاريخية في مصر ليست مجرد أمكنة وجدران وشوارع، إنما هي تاريخ لا يزال حيا، سجل يخلد أسماء وشخوصا وأحداثا، رمز لنمط عمارة ساد، وظروف عصر خال، وثقافة مجتمع تقلبت عليها السنوات، لكنها ظلت تحمل شيئا من توقيعه، لا يزال محفورا في ومضة هنا أو أخرى هناك.

تلك القصور ما هي إلا تاريخ لم تطوه كتب أو مجلدات، فلا يزال حيا نابضا يثبت أنه أقوى من كل محاولات العبث التي بدأت بعشوائية المصادرات ومحو أسماء أصحاب القصور من فوق قصورهم، ولافتات الشوارع التى حملت يوما أسماءهم تخليدا لدور قدموه للوطن أو خدمة جليلة قاموا بها لنهضة مجتمعهم.

في كتابها «قصور مصر»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذي اطلعنا على نسخة منه، أرسلتها لنا مؤلفته سهير عبدالحميد، تحدثت الباحثة عن قصر الأمير طاز فاستشهدت بلمحة من وقائع الاحتفال بافتتاح القصر التي التقطها المقريزي وسجلها في كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار).

وقال المقريزي في كتابه: «في يوم السبت السابع عشر من جمادى الآخر سنة سبعمائة وأربع وخمسين، أقام الأمير طاز في هذه الدار وليمة عظيمة، حضرها السلطان الملك الصالح وجميع الأمراء؛ فلما كان وقت انصرافهم قدم الأمير طاز للسلطان أربعة أفراس بسروج من ذهب وكنابيش ذهب، وقدم للأمير سنجر فرسين للأمير صرغتمش فرسين»

وعنها قالت عبدالحميد: "هذه أحداث مرت عليها نحو سبعة قرون تغير فيها حال القصر وتبدل عشرات المرات وتلونت المنطقة المحيطة به بلون السنين التي مرت.. ليعود الزمن إلى الوراء وهلة في لحظة عادت فيها الروح إلى القصر المملوكي الذي كان يفصله عن الفناء مجرد خطوة".

زلزال 1992 ينقذ القصر من الفناء

وتابعت عبدالحميد متحدثة عن القصر لتقول إنه جاءته الحياة من بعد الموت، وأتته الفرصة للبقاء في اللحظة الأخيرة، وكان الفضل - يا للعجب - لزلزال 1992 م الذي أنهى صمت المسؤولين وتجاهلهم لقصر طاز الذي كاد ينسحق هو وسيرة صاحبه للأبد في بئر النسيان لولا أن الزلزال هدم كثيرا من أعمدة القصر وأركانه وجانبًا كبيرا من جداره الخلفي المطل على حارة الشيخ خليل شديدة الضيق التي لا يزيد عرضها على المترين وبها عشرات البيوت المتراصة المتهالكة المكدسة بسكانها.

وهنا أصبحت المصيبة مزدوجة؛ البشر الذين أصبحت حياتهم مهددة، والأثر الذي يمثل روائع العمارة المملوكية في بناء القصور خصوصا أن معظم القصور المملوكية قد آلت إلى الزوال، ولننظر إلى ما قاله "الرمال" عن المماليك وقصورهم، والتي تبين إلى أي مدى كان السعي لإنقاذ البشر والأثر معًا مهما.

وصف ابن زنبل الرمّال، المؤرخ المصري المسلم، الذي عاش في القرن الخامس عشر، القاهرة في وقت المماليك حينما كانت قصورهم مزدهرة بقوله: «وكانت مصر بهؤلاء الأمراء كالعروس المجلية، كل أمير من هؤلاء كالملك المنفرد بنفسه، وكل من في حارته عائش في رزقه وفي حمايته».

وأحصى ابن زنبل 32 قصر للأمراء المماليك عند دخول العثمانيين مصر لا يقوم منها الآن قصر واحد، ومنها قصور: أنسي باي الحاج بشارع الصليبة، بكتمر الزردكاش بالشارع نفسه، تاني بك بقلعة الكبش، أزبك المكحل بالمدابغ، قانصوة الفاجر بباب زويلة ونجشباعي بمواجهة باب زويلة.

• إنقاذ القصر وتاريخه بعد زلزال 1992

بعد زالزال 1992، دخل القصر غرفة الإنعاش ونجا ونجت معه قصص أحداث جرت كان جزًء من إحيائه، وبدا وكأن التاريخ يسري في عروق إحياء سيرتها منطقة القلعة بأسرها.

فتسرد عبد الحميد قصة من هذا التاريخ قائلة: عندما تزور شارع السيوفية بحي الخليفة حيث يقع قصر الأمير طاز قد تشعر بالفعل بأن زمن المماليك قد عاد وأنك في سنة 1489 م، ها هي الخيول تصهل فزًعا، والنـاس تجري يمينًا ويسارا، والباعة يحملون بضائعهم فرارا، وأصحاب الدكاكين أغلقوا أبوابها بالضبة والمفتاح والناس في حالهم لا ناقة لهم ولا جمل، حينما وقعت مشاجرة بين المماليك؛ سببها أن المماليك الجلبان ضربت أحد مماليك جارقطلوا، والذي دافع عن نفسه وشج رأس أحد المماليك السلطانية فتجمعوا على المملوك الذي هرب إلى دار أستاذه في "قصر طاز" واحتمى به.

وتجمع المماليك على باب الدار فأغلقت الدروب وانتشر قطاع الطرق، وأرسل الأشرف برسباي إلى المتقاتلين يأمرهم ألا يستمروا في القتال لكنهم لم ينصتوا إليه، وسار الجميع إلى قصر طاز، وكان الأمير جارقطلوا قد أغلق باب القصر وتجمع مماليكه على طبلخاناته فوق باب الدار لكي يمنعوا المماليك السلطانية من أن يكسروا باب القصر أو يحرقوه، وترامى الفريقان بالنشاب، ولم يقدر المماليك الجلبان طوال اليوم على هزيمة جارقطلوا لمناعة قصر الأمير طاز.

• الأمير طاز وقصره الأرستقراطي

إنها حادثة من الحوادث التي شهدها القصر والمنطقة التي كانت من أهم مناطق مصر المملوكية، فهي الحي الأرستقراطي في ذلك الزمن؛ سكنه أفراد الطبقة الحاكمة وصفوة المماليك ثم البكوات وضباط الأوجقات في العصر العثماني.

ولهذا لم يكن عجيبًا أن يختار الأمير طاز بناء قصره في هذا المكان بشارع السيوفية وهو رجل كان له شأنه في عصره؛ فمنشئ هذا القصر الأمير سيف الدين عبد الله طاز بن قطغاج، وهو أحد أبرز أمراء دولة المماليك البحرية، صعد نجمه في فترة حكم الصالح إسماعيل بن الناصر محمد 1343-1345 م، وفي عهد أخيه المظفر كانت مقاليد الدولة بيده وزادت مكانته خلال فترتي حكم الناصر حسن بن الناصر محمد الذي جعل من طاز دوادار دولته ثم ولاه نيابة حلب.

وتصف وثائق التاريخ الأمير طاز بأنه كان حسن الشكل، طويل القامة، بطلا شجاعا محبا للعلم، كثير الخيرات، قوي العزم، ظاهر الحشمة، لكن نجم طاز الذي علا في السماء سرعان ما هوى عندما خرج على السلطان وحاول الاستقلال بحلب فثار عليه أمراؤها حتى هزم وعزل عن نيابتها، وأمر بالعودة إلى القاهرة ورحل عن دمشق، ولكن أدركه نائبها فأمسكه وأمر بكحل عينه فأصابه بالعمى ونقل إلى الإسكندرية فسجن بها حتى أفرج عنه الأمير يلبغا فعاد إلى القدس ومنها إلى دمشق حتى توفي في 1361 م.

• القصر شُيد على أنقاض البيوت بالرضا والإجبار

وأمير مثل طاز له جاهه وسلطانه في عصر كان المماليك هم السادة، لم يكن هناك ما يقف أمام رغباته؛ لذا لم يكتف بشراء أنقاض البيوت من أهلها ليقيم قصره بل أخذ بعضها عنوة، وعن هذا يقول المقريزي: "هذه الدار بجوار المدرسة البندقدارية تجاه حمام الفارقاني على يمنة من سلك من الصليبة يريد حدرة البقر، وباب زويلة، أنشأها الأمير سيف الدين طاز في سنة سبعمائة وثلاث وخمسين وكان موضعها عدة مساكن هدمها برضا أربابها وبغير رضاهم، وتولى الأمير منجك اليوسفي عمارتها وصار يقف عليها بنفسه حتى كملت فجاءت قصرا مشيدا واصطبلا كبيرا وهي باقية إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء".

لم يأت اختيار طاز لهذا الموقع لقصره بمحض مصادفة بل ليتسنى له مراقبة مجريات الأمور في هذا الشارع المسمى (السيوفية) الذي كان من الشوارع المهمة بمصر الإسلامية وهو جزء من الشارع الأعظم الذي يبدأ من تقاطع شارع محمد علي وينتهي عند تقاطعه مع شارع الصليبة؛ فلقد كان هذا الشارع ضمن المنطقة المحيطة بالقلعة التي كانت سكنًا لصفوة المماليك والأعيان آنذاك.

والشائع أنه اكتسب اسم "السيوفية" من تركز تجار السلاح به، وقد جاء ذكره في وثائق ابن إياس عند سرده لحوادث عام 1495 م حيث قال إن أحد الأمراء زمن الناصر محمد بن قايتباي ويدعى تمراز جزت رأسه على دكان السيوفية وتقع عند رأس صليبة ابن طولون عند السكاكينيين.

وقد كان شارع السيوفية في نشأته الأولى جزءا من مدينة القطائع امتدت إليه يد العمران في العصر الأيوبي، وكان حينها عبارة عن بساتين تحيط ببركة الفيل ومع بناء القلعة 1176م زاد العمران في المنطقة العمرانية بالقلعة إلى أن أضحت سكن الصفوة في العهدين المملوكي فالعثماني.

• الأمير طاز لم يعش بقصره الضخم سوى ثلاث سنوات

تذكر المراجع التاريخية أن الأمير طاز لم يعش بقصره الضخم الذي احتل مساحة فدانين سوى ثلاث سنوات تقريبًا حتى دخل في دائرة الصراعات السياسية، وبعدها تحول القصر إلى مقر لنزول الباشوات المعزولين عن حكم مصر منهم الوزير خليل 1709 م ثم ولي باشا المتولي لباشوية مصر 1713 م.

في عصر محمد علي استخدم القصر كجزء من مدرسة حربية ثم استأجرته وزارة التربية والتعليم من الأوقاف لتحوله إلى مدرسة للبنات فأعيد تشكيل مساحة المبنى الشاسعة لتتحول إلى فصول، وبعد أن نالت الشيخوخة من البناء - وهو الذي لم ينفق على صيانته وترميمه طوال نصف قرن من 1918 م حتى 1940 م سوى مبلغ لم يزد على 671 مليما - قررت الوزارة تحويل المدرسة إلى مخزن لمئات الألوف من الكتب ومئات الأطنان من الخردة ولجأ إليه سكان المنطقة بالتالي لدفن حيواناتهم النافقة.

وجاء الزلزال ليدق ناقوس الخطر فتحرك المجلس الأعلى للآثار لعمل صلبات لوقف انهيار المبنى حتى فوجئ الجميع صباح العاشر من مارس 2002 بانهيار حائط من حوائط القصر على أحد بيوت حارة الشيخ خليل الذي تهدم منه جزء كبير، وهنا كان البد من التحرك فتم تشكيل فريق طوارئ لاتخاذ كافة الإجراءات للحيلولة دون أي انهيار جديد من شأنه تهديد أمن وحياة أي من سكان المنطقة.

وتم التقييم ووضعت الخطة التي تنقسم إلى جزأين: الأول: عمل التداعيات لإيقاف الانهيارات وإزالة الردميات عن الأسقف، والثاني: فك الأجزاء الآيلة للسقوط حتى يتوافر الأمن للأهالي، ومع أن رحلة العلاج كانت شاقة ومتعددة الخطوات لكن الناتج كان يستحق العناء.. عندما عادت الروح إلى قصر طاز.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved