أسامة عرابى يكتب: فى وداع روبرت فيسك

آخر تحديث: الجمعة 20 نوفمبر 2020 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

ــ قال: ينبغى على الصحافة مراقبة التاريخ وتسجيله بأقصى ما تستطيع من أمانة رغم المخاطر ونقائص الإنسان
تُوفيَ فى العشرين من أكتوبر الماضى أبرز مراسلى صحيفتى «التايمز» و«الإندبندنت» البريطانيتيْن فى الشرق الأوسط «روبرت فيسك» (1946ــ2020) عن أربعة وسبعين عامًا؛ إثر إصابته بسكتة دماغية. فخسرنا بموته واحدًا من أهم الكُتَّاب الصحفيين الذين جابوا العالم من أقصاه إلى أقصاه، محاورًا ومساجلًا حول أدقّ شئونه وقضاياه، مثيرًا الأسئلة عن علاقات القوة، وخطابات الهيمنة والكولونيالية، والتحرُّر السياسى وتمثيل البدائل؛ ما جعل كتاباته تُشكِّل مدوَّنة لتاريخ يمور بالتحولات، فى رحلة اكتشاف المعنى وترسيخ قيم الحرية والاستقلال. لهذا نطالع فى مراياه دومًا سمت المثقف العصرى النقدى الحامل قيمًا إنسانية رحبة، والمعنى «بربط الفكر بالحقيقة وبالفهم وباستكمال نمو الروح» وفق تعبير لسقراط، مدركًا طبيعة القوى التى تُشكِّل خارطة الصراع العالمى، وماهية المتغيرات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى الإشكاليات والقضايا السياسية الكبرى والأساسية فى عالمى الأمس واليوم، وما سادَ ميدان العلاقات الدولية من جِدَّة واتساع، مازجًا بين الكتابة الصحفية الاستقصائية وبين النظرة النقدية القادرة على التقييم والتقويم. الأمر الذى يلفت الانتباه إلى ظاهرة روبرت فيسك، وما تمثِّله من جدية وانضباط ومهنية عالية، وموقف جاد ومسئول عُرفَ دومًا بمساندته الحية لقوى التغيير والتحرُّر. لذا نعتَ نفسه بأنه «مارسَ غريزة الصحفى الجمَّاع الشبيهة بغريزة العقعق (وهو غراب طويل الذيل)»، مضيفًا: «فلم أقتصر على تجميع الرسائل العاجلة إلى التايمز ــ ثلاثة تقارير فى اليوم الواحد تقريبًا ــ بل كل رسالة على الكمبيوتر، وحتى كل مذكرة، وكل ملاحظة شخصية دوَّنتها، وحتى الخربشات على الأوراق القديمة والمظاريف ــ إنها فضلات عيش الصحفى. كما حفظت أكوامًا من دفاتر الجيب وقصاصات الصحف ورسائل القرَّاء اللطيفة والمهينة على حدٍّ سواء، فضلًا عن البيانات الصحفية والصور»، بل «احتفظتُ بأجزاء من القنابل الإسرائيلية والسورية وبأجزاء من قنبلة عنقودية إسرائيلية، وبشظية ضخمة من قذيفة أطلقتها البارجة نيوجرسى على جبال الشوف؛ وهى السفينة الحربية الضخمة التى يعود تاريخ صنعها إلى الحرب العالمية الثانية وتعتبر أقوى قطعة بحرية عائمة، إلَّا أن مدافعها أثبتت عدم جدواها فى حرب لبنان، وكانت تمامًا كالسياسة الخارجية للدولة التى أرسلتها إلى هناك». ووضع نصب عينيْه هدفًا وحيدًا لا محيد عنه ولا مَعْدى وهو «أن أكون شاهدًا على التاريخ، أى أننى سأشاهد بأمِّ العين جزءًا يسيرًا من ملحمة الأحداث التى رسمت ملامح الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية». ذلك «أن أقصى ما يستطيع الصحفيون عمله هو الوقوف على حافَّة التاريخ، كما يفعل علماء البراكين الذين يصعدون إلى فوهة البركان الذى يتصاعد منه الدُّخَان، وتشرئب أعناقهم محاولين النظر فوق حافَّته عبر الدُّخَان والرَّماد، مُحدِّقين من خلال الحافَّة المنهارة فيما يجرى فى داخله». متسائلًا بحقٍّ: ما الذى يدفع المراسل الصحفى إلى المجازفة بحياته؟ هل هو الشعور بالرضا عند كتابة تقرير إخبارى، أو قصَّة كما نسميها خطأ نحن معشر الصحفيين؟ أمن أجل فهمنا السخيف للسبق الصحفى الذى لا يودّ المشاركة فيه إلَّا قلة من الزملاء؟ مُجيبًا بصدق: من المؤكَّد أنه لم يكن بهدف الإثارة. راميًا إلى تقديم روايته الحقيقية للأحداث، فى مواجهة الرواية الرسمية؛ حيث «تسعى الحكومات إلى أن تبقى الأمور على هذه الحال». فالصحافة «أو ما ينبغى أن تكون عليه الصحافة، هو أن تراقب التاريخ وتشهد عليه، وأن تسجِّله بأقصى ما تستطيع من أمانة، على الرغم من المخاطر والضغوط، وعلى رغم نقائص الإنسان». وهذا هو الدَّرس الذى أفاده روبرت فيسك من رحلته الصحفية التى بدأها فى جريدة «صنداى إكسبرس»، ثم مراسلًا لصحيفة «التايمز» فى إيرلندا (1972ــ1975)، ومراسلها فى الشرق الأوسط حتى عام 1987، ثم انتقل للعمل فى صحيفة «الإندبندنت» حتى وفاته، بعد حياة حافلة بالإنجازات ومتعة البحث عن الحقيقة؛ ما أهَّله لأن يفوز بأكبر عدد من الجوائز البريطانية الكبرى عن مقالاته عن الشرق الأوسط. كما حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ترينيتى عن حياد إيرلندا خلال الحرب العالمية الثانية بعد رحلة بحث مضنية فى الأرشيفات البريطانية والإيرلندية، فاشتمل على ست وخمسين صفحة من المراجع، وعلى ملحقيْن اثنيْن وأربع صفحات بيبليوجرافية. كما حصل على درجات دكتوراه فخرية من جامعات عالمية عدة. وفى عام 2009 مُنحَ الميدالية الذهبية لجمعية كلية ترينيتى دبلن التاريخية، التى تذهب إلى أولئك الذين قدَّموا مساهمة كبيرة فى المجال العام، وتوجيه المثل العليا للمجتمع فى النقاش والخطاب. وبذلك استطاع روبرت فيسك بحاسته الصحفية المرهفة، وقدرته على مواكبة الأحداث ورفدها بالتحليلات المُعمَّقة، استطاع أن يوجد ويكون حيث الحدث الأهمّ فى أى بقعة من بقاع المعمورة، فكان واحدًا من أربعة صحفيين ظلوا فى لبنان طوال سنوات الحرب الأهلية بعد أن أجاد العربية وأتقنها، وأمضى أكثر من أربعين عامًا يغطى الحروب فى المنطقة، خصوصًا فى لبنان وسوريا، إضافة إلى الاجتياحات الإسرائيلية للبنان والحرب العراقية ــ الإيرانية، واحتلال صدام للكويت، والحرب الأهلية بالجزائر، والاحتلال الأمريكى للعراق، والثورات العربية فى العام 2011، والتدخل السوفيتى فى أفغانستان، ومجزرة حماه، واصفًا النظام السورى بالوراثى، مثله فى ذلك مثل الدول الخليجية. فضلًا عن مواكبته اضطرابات إيرلندا الشمالية فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، وتغطيته ما يُعرف بـ«ثورة القرنفل» البرتغالية. ما كشف عن رحابة كتاباته، وقدرتها على المحاججة، والانفتاح على الغير، والعودة إلى الذات ومراجعتها، كما نلمسها فى كتبه «نقطة اللاعودة: الضربة التى حطَّمت البريطانيين فى أولستر»، و«الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة» فى ثلاثة مجلدات، و«ويلات وطن.. صراعات الشرق الأوسط وحرب لبنان»، وهو كتاب عن لبنان الذى عاش فيه شطرًا طويلًا من حياته. غير أنه ما إن التقى بالعائلات الفلسطينية فى لبنان وفلسطين المحتلة، واطَّلع على جوازاتهم الفلسطينية الأصلية، وكامل صكوك الملكية لديهم، ورسوم الضرائب فى زمن الانتداب، حتى لامسَ فلسطين فى عيونهم، كما رأى صورة فلسطين أمام المرآة، ومعها صورة اليهودى الذى تتداخل فى وعيه الهوية الدينية وخصوصيتها الثقافية، بمشروع الدولة اليهودية الميتافيزيقى، ومشروعها الاستعمارى العنصرى.فكتبَ مقالات عشرًا بعنوان «أرض فلسطين» نشرها فى أعداد صحيفة «التايمز» الصادرة بين 15و24 (ديسمبر)1980. سردَ فيها قصص داود دميانى وكنعان أبوخضرا وفاطمة زمزم ورفقة بولس التى فقدت أرضها فى القدس». وكانت زيارة بيوتهم وأراضيهم السابقة بمثابة لقاء مع التاريخ» على حدِّ تعبيره. فكانت ذات دلالات عميقة. بَيْدَ أنه مع ظهور آخر مقال له فى هذه السلسلة، نظَّمَ الاتحاد الصهيونى مظاهرة خارج مكاتب «التايمز» فى لندن، حمل خلالها لافتات تتهم الجريدة بأنها باتت «سلاحًا عربيًّا سريًّا جديدًا، وبأن منظمة التحرير ستكون المالك للتايمز. وندَّدَ شلومو أرجوف السفير الإسرائيلى فى لندن وقتذاك، بمقالاته هذه، وعدَّها «دفاعًا وقحًا عن العقيدة الأساسية لمنظمة التحرير الفلسطينية لا غير». ودخل فايك جروس السكرتير الفخرى للاتحاد الصهيونى فى جدال شديد فى الشارع خارج مبنى التايمز مع لويز هيرين الذى كان نائب رئيس تحرير الجريدة ومراسلها السابق فى الشرق الأوسط. خاصة بعد أن روى الجرائم البشعة التى ارتكبتها عصابة الأرجون التى كان يتزعمها مناحيم بيجن فى دير ياسين.
لهذا عارض روبرت فيسك بجسارته المعهودة، ولغته الصحفية الراقية، خطة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب المعروفة بـ«صفقة القرن»، وعلّق عليها بالقول إن خطته «قالت وداعًا لحقِّ اللاجئين الفلسطينيين فى العودة، ووداعًا للقدس عاصمة لفلسطين، ووداعًا للأونروا، لكنها رحَّبت بالاحتلال الإسرائيلى الدائم للضفة الغربية والضمِّ الكامل للمستوطنات الإسرائيلية التى أقيمت هناك منتهكة القانون الدولى». وهو ما سبق له رصد إحدى محطاتها (خطة القرن) فى الاجتياح الإسرائيلى للبنان، وقيام حلفاء العدو الصهيونى من الميليشيات اللبنانية بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، وقتل طونى فرنجية الذى «رفض فى عام 1977 أن يوافق على العلاقات النامية بين الكتائب وإسرائيل» على حدِّ تعبيره، ودعم شخصيات إجرامية من طراز إتيان صقر الملقَّب بأبى الأرز، الذى «يقود جماعة مختصَّة بالأعمال الوحشية مثل ربط المساجين الفلسطينيين وراء السيارات، وجرِّهم مسافة اثنى عشر ميلًا على الطريق إلى جونية، وإلقاء جثثهم بعد ذلك فى قعر أحد الوديان الجافَّة». حتى إن زاهى البستانى أحد أبرز مراقبى الصحف فى الحكومة اللبنانية صرَّح يومًا بأنهم «لم يعودوا يُشيرون فى لبنان إلى الناس بوصفهم يساريين أو يمينيين. بل نكتفى بتسميتهم بأحزابهم السياسية فنقول: حزب الوطنيين الأحرار وحزب الكتائب. فسأله روبرت فيسك: فكيف نُميِّز بين المسلم والمسيحى؟ فأجاب: لقد كانت الحرب بين اللبنانيين وبين الفلسطينيين! لهذا ظلَّ روبرت فيسك «باحثًا عن جذور العنف الذى كنتُ شاهدًا عليه»، لدرجة أن «رصاصة واحدة فى لبنان، أو قنبلة واحدة، تُخلِّد قضية، وتُرسِّخ حقيقة الكلمة، وتُثبت صحة البرهان»، حتى بدا «وكأن الأموات فى لبنان يبنون ممرًّا خاصًّا بين عالم الحياة وعالم الموت». أما سرُّ بيروت فيكمن فى قدرتها على «التكيُّف، وعلى البقاء، وعلى التجدُّد الدائم». أجل.. لقد سخَّر روبرت فيسك كتاباته من أجل تأسيس فهم أو اقتناع جديد بدور الصحافة ومهامها المنوطة بها فى البحث عن الحقيقة، وإنتاج رؤية قادرة على محاورة المعرفة الإنسانية، والاتكاء على تفاؤل الإرادة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved