بعد وصوله للمريخ.. مهندس الفضاء الفلسطيني يعجز عن إنقاذ والديه بغزة
آخر تحديث: الثلاثاء 21 نوفمبر 2023 - 10:56 ص بتوقيت القاهرة
محمد نصر
في أبريل عام 2021، ذاع صيت المهندس الفلسطيني، لؤي البسيوني، بعدما ساهمت جهوده في دفع مهمة وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) 2020 للوصول إلى الكوكب الأحمر (المريخ)، لكنه الآن ومع احتدام الحرب الإسرائيلية ضد المدنيين في قطاع غزة، يقف عاجزا عن مساعدة والديه وإجلائهما من أتون النار في القطاع المحاصر الذي مزقته الحرب.
ويقول البسيوني، 44 عاما، لصحيفة لوس أنجلوس تايمز: "أرسلت طائرة هليكوبتر إلى المريخ، لكنني الآن لا أستطيع حتى إرسال الطعام أو الماء إلى والديّ في غزة".
وبالرغم من تلك المحنة التي يعيشها لكنه استمر في عمله، ومن مكتبه المتواضع في منزله بمدينة سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، كان يستعد لمراجعة تصميمات محركات الصواريخ، لعرضها في اجتماع متعلق بالمركبة الفضائية (Blue Moon)، والتي من المنتظر إطلاقها في المستقبل غير البعيد، حاملة رواد فضاء لاستكشاف سطح القطب الجنوبي للقمر، في مهمة (Artemis V)، التابعة لناسا، والمقرر إجراؤها عام 2029، وهي بحسب الصحيفة الخامسة في سلسلة من الجهود المخطط لها للعودة إلى القمر، لأول مرة منذ برنامج أبولو.
قبل عمله الحالي كمدير أول للتصميم الكهربائي للمحركات في شركة تكنولوجيا الفضاء (Blue Origin)، المملوكة للملياردير جيف بيزوس، ساعد البسيوني في تصميم طائرة هليكوبتر روبوتية خفيفة الوزن لمهمة بيرسيفيرانس روفر المريخ 2020 التابعة لناسا، والتي أطلق عليها اسم "إنجينيويتي Ingenuity - الإبداع" وقد دخلت التاريخ عام 2021، عندما حلقت في سماء المريخ وسجلت مناظر مذهلة للتضاريس الصخرية للكوكب الأحمر خلال رحلتها الأولى.
وبالرغم من الخطر المحدق بوالديه في غزة جراء العدوان الإسرائيلي، يقول البسيوني: "أحد الأشياء التي تعلمتها من الفضاء أن الأرض مكان مميز للغاية، أسوأ مكان على وجه الأرض أفضل في الحفاظ على الحياة من أفضل مكان على المريخ".
في بيت حانون، بقطاع غزة، المكان الذي نشأ فيه البسيوني، جعلته طائرة "إنجينيويتي" فخرًا لفلسطين، وبحسب الصحيفة ظهرت صورته في المدارس وعلى اللافتات المعلقة على طول الشارع الرئيسي المؤدي إلى المدينة، وأقام عمه احتفالا كبيرا على شرف ابن أخيه، مع قائمة ضيوف ضمت رئيس بلدية المدينة، "كانت لحظة فخر عظيمة" بحسب البسيوني الذي يعتقد أن صدى رحلة المروحية في أجواء المريخ ربما تردد في غزة أكثر من أي مكان آخر.
كانت تلك فترة رائعة وفقا للصحيفة، قبل أن تؤدي أحداث السابع من أكتوبر إلى حرب ساحقة وضعت البسيوني في مهمة برية أكثر إيلاما. ففي ذلك اليوم استيقظ البسيوني على سيل من الرسائل النصية، بعدما شنت حماس هجوما مباغتا على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة.
شعر البسيوني بالقلق على والديه، محمد وعلياء، اللذين كانا يزوران بيت حانون، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 35 ألف نسمة في شمال شرق غزة، بعد إقامة طويلة في موطنهما الجديد في ألمانيا. ووفقا للصحيفة فبحلول الوقت الذي تواصل فيه معهم عبر الهاتف، كان سلاح الجو لجيش الاحتلال الإسرائيلي، قد شن هجومًا مضادًا بغارات جوية عقابية على بيت حانون، وحينها أخبره والده بوجود قصف في شارعهم، وبعدها انقطع الاتصال.
في الأسابيع التي تلت ذلك، قطعت إسرائيل الغذاء والوقود والكهرباء والمياه عن قطاع غزة. ونفذ جيشها حملة قصف متواصلة على القطاع، ومؤخرا شنت هجوما بريا على شمال غزة، وشهدت بيت حانون قتالا عنيفا. وقتل أكثر من 13 ألف فلسطيني في الهجمات، وفقا لوزارة الصحة في غزة.
خلال الأيام الأولى للهجوم الإسرائيلي، غادر والدا البسيوني بيت حانون ولجئوا مع عشرات آخرين في عيادة طبية في مدينة غزة أنشأها وما زال يمتلكها والده، الذي يعمل جراحا. ووفقا للصحيفة سعى البسيوني إلى إقناع الحكومة الألمانية بوضع والديه، اللذين يحملان الجنسية الألمانية، على قائمة الإجلاء الطارئة لإخراجهما من غزة، لكن على الرغم من بذل قصارى جهده، ما زالوا عالقين هناك.
ومع ما يعانيه والده محمد، البالغ من العمر 75 عاما، وخضع لعملية جراحية في الظهر مؤخرا، وأمه علياء، 68 عاما، وتعاني من إصابة في الورك، فإن مطالبتهما بالسير مسافة تزيد عن 30 كيلو مترا، إلى معبر رفح الحدودي المغلق، إلى مصر لطلب المرور أمر غير وارد. ويقول البسيوني: "أخبرني والدي أنه يفضل الموت في مكانه".
من أحد المطاعم المملوكة لفلسطينيين وسط مدينة لوس أنجلوس، روى البسيوني للوس انجلوس تايمز جذور عائلته في غزة، ففي عام النكبة 1948، ولد أبوه في مخيم جباليا للاجئين بغزة، وقد أدى هجوم إسرائيلي على المخيم إلى إصابة الطفل محمد البالغ من العمر أسبوعًا بشظية. ويوضح البسيوني قائلا: "جدتي اعتقدت أنه مات، تركته عائلتي عندما وقع القصف، لكنهم بعد ذلك سمعوا صراخه، فعادوا وأخذوه".
ولكن بعكس والده، وُلد البسيوني في إحدى ضواحي فرانكفورت بألمانيا، بينما كان والده يدرس الطب، لكنه أمضى سنوات تكوينه في بيت حانون بعد أن أوقفت سلطات الاحتلال الإسرائيلية جواز سفر والده خلال زيارة لغزة عام 1984. نشأ في بلدة حدودية تخضع لحراسة مشددة، وشعر بخطر الاحتلال. يتذكر الوقت الذي كان يسير فيه إلى مدرسة الأونروا التابعة للأمم المتحدة والتي كان يرتادها مع إخوته، عندما اندفع زملاؤه فجأة داخل أحد المنازل، وتبعهم دون أن يعرف السبب، إلى أن نظر من خلال شقوق الباب ليرى سيارة جيب عسكرية إسرائيلية تمر وبجوارها جندي يحمل رشاشًا.
يتذكر أيضا جنود الاحتلال الفارين وسط الضباب الحارق للغاز المسيل للدموع الحارق في مدرسته، كان ذلك في وقت مبكر من الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت عام 1987، وقتها قذف بعض زملاءه الحجارة على سيارات الجيب العسكرية الإسرائيلية، وبينما جرى هو وآخرون، قال البسيوني إنه رأى أمامه زميلًا يُصاب بالرصاص في ظهره.
تلك التجارب المروعة وجهها البسيوني، وفقا للصحيفة إلى مشاريع فنية أنبأت بمستقبله في الهندسة، وقد حرك يديه ليبين كيف كان يحول صواني حلوى الكنافة الدائرية إلى ساعات عندما كان مراهقًا، يحتفظ بصورها على هاتفه، إحداها زينها بتصميم شبكة الصيد المميز للكوفية الفلسطينية.
عندما كان يتأمل النجوم من شواطئ غزة، كان يتخيل الوصول إلى الفضاء قال: "أردت فعلا أن أقود مكوك الفضاء، لقد أحببت أي شيء سريع". تعهد والده بدعم تعليمه في الخارج بالمال الذي تجنيه الأسرة من بساتين أشجار الليمون والبرتقال والزيتون في بيت حانون.
وفي عام 1998هاجر البسيوني إلى الولايات المتحدة، بتأشيرة طالب والتحق بجامعة بنسلفانيا. وواصل دراسته بجامعة كنتاكي، ثم جامعة لويفيل، بولاية كنتاكي، وللمساعدة في الرسوم الدراسية عمل في توصيل البيتزا. وأوضح قائلا إن تغطية النفقات أصبحت أكثر صعوبة بعد أن دمرت الدبابات الإسرائيلية بساتين عائلته في غزة.
بعد شهر من هجمات 11 سبتمبر، ذهب لتوصيل أحد الطلبات في وقت متأخر من الليل في سكن طلاب جامعة كنتاكي، لكن مجموعة رجال شتموه وضربوه وقالوا له "ارجع لبلدك يا عربي"، تم التحقيق في الحادث باعتباره جريمة كراهية، بحسب الصحيفة.
بعد حصوله على درجة الماجستير في الهندسة من جامعة لويفيل، اعتقد البسيوني نتيجة تأثره بالقضايا البيئية أن التكنولوجيا يمكنها أن تحسن من علاقة البشرية بالبيئة، ولسنوات عديدة، تولى وظائف تعمل في مجال السيارات الكهربائية وطاقة الرياح، ثم جاءته فرصة العمل مع وكالة ناسا على مشروع "إنجينيويتي" في مختبر الدفع النفاث في مدينة باسادينا، وهو ما وضعه على الطريق نحو الفضاء. وقال: "نُظر إلى المريخ باعتباره مهمة مستحيلة، لكننا حققناها".
ساعد البسيوني في تصميم نظام الدفع وبرنامج الطيران الخاص بطائرة إنجينيويتي، المصممة بدون مسامير وفي خفه لاب توب، ولها مروحتان قادرتين على الدوران 2400 دورة في الدقيقة، وهي السرعة اللازمة للإقلاع في الغلاف الجوي للمريخ الأرق بمئة مرة من الغلاف الجوي للأرض، مع سخان مدمج يحمي المروحية من شده البرودة أثناء الليل والتي يمكن أن تنخفض إلى ما دون -130 درجة فهرنهايت. ويقول ضاحكا: "لا أريد أن أقول إنه الجزء الأكثر أهمية، لكنني أعتقد أنه كذلك، فلا يمكنك قيادة سيارة دون محرك".
وفي الصباح الباكر من يوم 19 أبريل 2021، واجهت سنوات عمله لحظة الحقيقة على بعد عشرات الملايين من الأميال، فأي خطأ غير متوقع يمكن أن يفشل المهمة. كان البسيوني في منزله نتيجة لقيود كوفيد-19، لكنه كان يتابع من خلال تلفزيون ناسا، وعندما ظهرت لقطات المروحية وهي ترتفع إلى الغلاف الجوي للمريخ، هب طاقم غرفة التحكم بالتصفيق، ويتذكر أنه في تلك اللحظة فكر: "يا الله، لقد طارت بالفعل!".
لحظة انتصار كتلك تبدو بعيده الآن، وسط حرب كشفت الحقيقة الوحشية للأرض، ويشير البسيوني إلى أنه: "عندما ننظر إلى الأرض من الفضاء، فإننا لا نرى الحدود أو اللغات أو الدين، وها نحن ندنس قدسية الحياة البشرية ونرتكب الفظائع ضد أنفسنا".
كان البسيوني حزينًا وهو يستمع إلى تغطية قناة الجزيرة العربية للغارة الإسرائيلية على مستشفى الشفاء. بدت ممرات أكبر مستشفى في غزة مألوفة له، حيث عمل والده مديرًا لأقسام الجراحة هناك لعدة سنوات. والمستشفى الذي يقوم جنود الاحتلال الإسرائيلي بتفتيشه بزعم أنه يضم قاعدة لحماس، بالكاد يعمل الآن، حيث نفد الغذاء والدواء وأدوية التخدير.
كانت آخر مرة سمع فيها البسيوني صوت والديه، عندما اتصل بهم شقيقه عبر الهاتف في 13 نوفمبر، يومها قالوا إنهم يعيشون على مياه الصنبور والأغذية المعلبة، لكن الإمدادات في العيادة التي لجأوا لها كانت على وشك النفاد.
ووفقا للصحيفة فبعد يومين، تلقى البسيوني أخيرًا ردًا على طلب الإجلاء من مكتب الممثلية الدبلوماسية العُليا الألمانية في مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة. قال مسئول في رسالة بالبريد الإلكتروني إن والديه أضيفا إلى قائمة المواطنين الألمان المؤهلين للإجلاء، لكن السلطات الإسرائيلية والمصرية سيكون لها الكلمة الأخيرة في الموافقة على أي تصاريح خروج عبر معبر رفح الحدودي. وقد أدى نقص الوقود بسبب الحصار الإسرائيلي إلى انقطاع الاتصالات، لكن المسئول وعد بإيجاد طريقة لتنبيه والدي البسيوني بأي تطورات.
وبحسب الصحيفة يكافح البسيوني من أجل البقاء متماسكا خلف ابتسامته اللطيفة، انتصر على المريخ، وهو كوكب غير مضياف يقع على بعد 293 مليون ميل. لكن بالعودة إلى غزة، فإن مسافة 30 كيلو مترا، التي يمكنها تحرير والديه من ويلات الحرب تبدو أبعد بكثير.