إيران والغرب ووكالة الطاقة الذرية.. مواجهة على حافة الغموض النووي

آخر تحديث: الجمعة 21 نوفمبر 2025 - 2:21 م بتوقيت القاهرة

فيينا- خالد أبو بكر

قرار مجلس محافظي الوكالة ضد إيران قد يدفع بالملف النووي نحو مجلس الأمن

الغرب يطالب طهران بكشف مخزون اليورانيوم والمواقع المدمرة.. ومصر في طليعة 12 دولة امتنعت في تصويت كشف الانقسام الدولي

طهران تلغي "تفاهم القاهرة" وتلوّح بخيارات صعبة.. والقلق يتصاعد من فجوة رقابية على المنشآت الإيرانية ير مسبوقة منذ هجوم يونيو

لم يكن قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في العشرين من نوفمبر 2025 مجرد خطوة تقنية عادية في دورة الصراع النووي الإيراني. لقد شكّل نقطة انعطاف استراتيجية أعادت صياغة مستقبل البرنامج النووي برمته؛ فالقرار الصادر بدفع مشترك من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا لا يركّز فقط على المطالبة بالحصول على إجابات حول مخزون إيران من اليورانيوم المخصب، بل يعيد رسم الإطار القانوني والسياسي الذي ستُحاكم من خلاله طهران في المرحلة المقبلة. وتكمن خطورة القرار في أنه يرد في لحظةٍ تغيّر فيها المشهد النووي من الأساس، ليس فقط بسبب غياب التفتيش منذ خمسة أشهر، بل لأن البرنامج نفسه تعرض لانتكاسة هي الأكثر عمقاً منذ بداية القرن.

الواقع الذي شكّل خلفية القرار أكثر تعقيدا مما يبدو في ظاهر النص؛ فبحسب تقرير المدير العام للوكالة، رفائيل جروسي علقت إيران منذ يونيو إمكانية التحقق من وضع منشآت استراتيجية مثل نطنز وأصفهان وفوردو، وهي المنشآت التي تعرضت لهجمات إسرائيلية وأمريكية واسعة.

التقرير يكشف أن الوضع ليس مجرد خلاف سياسي أو نزاع توقيت حول تنفيذ الضمانات، بل أزمة تحقق غير مسبوقة. فعندما يتحدث التقرير عن أن المعلومات من إيران "متأخرة بشكل كبير" فإن ذلك يعني في لغة الوكالة أن قدرة المجتمع الدولي على تتبع المواد النووية ذات الحساسية العالية باتت شبه معدومة.

وفي عالم الضمانات، غياب القدرة على تتبع المواد أخطر بكثير من امتلاكها. لأنه ينقل الخطر من حالة القدرة إلى حالة الغموض. والغموض هو البيئة الطبيعية للسيناريوهات الأكثر تطرفاً.

إلغاء تفاهم القاهرة

رد إيران على القرار لم يكن دفاعا تقليديا، إعلان وزير الخارجية عباس عراقجي أن "تفاهم القاهرة" - الموقع بين إيران والوكالة في سبتمبر الماضي والذي سمح بعودة جزئية للمفتشين - أصبح "منتهيا رسمياً" يعني أن إيران لم تعد تعترف بأي التزام سابق بعودة مسار التفتيش تدريجياً. وهذا التحول يحمل دلالة استراتيجية خطيرة. إذ يعني أن طهران لم تعد مقتنعة بأن مسار التعاون مع الوكالة مفيد لها. أو أنها تعتقد أن أي عودة للتفتيش الآن ستكشف الحجم الحقيقي للأضرار التي لحقت ببنية البرنامج وبتجهيزاته.

وقد كشف عراقجي نفسه في حديثه إلى "الإيكونوميست" المنشور أمس الخميس أن التخصيب قد "توقف" عملياً في المواقع التي تعرضت للضربات، وأن المواد المخصبة بنسبة عالية "مدفونة تحت الأنقاض". هذه التصريحات تعزز القراءة التي تقول إن البرنامج النووي، من الناحية التقنية، لم يعد قادراً على استعادة نشاطه الكامل في المدى القصير. وإن أي دخول للمفتشين سيحمل تداعيات سياسية داخلية وخارجية لا ترغب طهران في مواجهتها قبل بلورة اتفاق جديد.

انقسام دولي يفتح مشهدا جديدا

من زاوية أخرى، نجحت الصين وروسيا في رسم حدود واضحة لرفضهما التصعيد الغربي، إذ صوتتا ضد القرار في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واعترضتا صراحة على تجاهل الهجمات التي استهدفت منشآت تخضع لضمانات الوكالة.

ورغم أن هذا الاعتراض يوفر لطهران غطاءً سياسيا، فإنه لا يغيّر حقيقة أن القرار مرّ وأن تأثيره القانوني سيبقى قائماً. ففي منظومة الوكالة، ليست الأغلبية هي المعيار الوحيد للأثر، بل اللغة التي يعتمدها القرار، ومدى ارتباطها بقواعد الضمانات، واستعداد القوى الكبرى لتوظيفها. والغرب هذه المرة حصل على قرار يمكن أن يستخدمه لفتح الباب أمام إحالة الملف إلى مجلس الأمن إذا لم تستجب إيران سريعاً. وهذا هو لب الأزمة الجديدة.

ما يزيد من تعقيد الموقف هو التحرك الإيراني نحو الرياض للبحث عن مخرج تفاوضي. فوفق التسريبات، طلب الرئيس مسعود پزشكيان من ولي العهد السعودي قبل سفره إلى واشنطن ومقابلة الرئيس ترامب التوسط لدى واشنطن لإعادة إطلاق المفاوضات. وهذه الإشارة تكشف أن طهران تدرك حجم الخطر على مستقبل برنامجها؛ لأن أي فشل في احتواء الأزمة قد يعيد تشغيل دائرة الضغوط القصوى، وربما يفتح الباب أمام ضربات أوسع. كما أن حديث ترامب عن أن الإيرانيين "يريدون اتفاقاً بشدة" يعزز الانطباع بأن الدبلوماسية باتت خط الدفاع الأخير قبل انزلاق الملف نحو مسار أكثر تصعيدا.

برنامج فقد توازنه ويبحث عن هوية جديدة

هذا المشهد لا يمكن فهمه بمعزل عن المتغيرات التي طرأت على بنية القوة النووية الإيرانية بعد الهجمات. فقبل يونيو، كان البرنامج يتجه إلى وضع "دولة العتبة". أما اليوم، فإن البرنامج يعاني من ثلاثة اختلالات جوهرية بحسب الخبراء: أولها اختلال القدرة التقنية نتيجة تعطّل منشآت رئيسية وصعوبة إعادة تشغيلها بالسرعة المطلوبة، وثانيها اختلال القدرة التفاوضية نتيجة انكشاف الضعف الذي لحق بالمواقع الأكثر تحصينا، وثالثها اختلال القدرة الردعية، وهو الأخطر، إذ فقدت إيران القدرة على الادعاء بأنها قريبة من إنتاج مادة انشطارية كافية لصنع سلاح نووي، بل إن تراكم المواد أصبح تحت حصار مزدوج من الأنقاض ومن الضغط الدولي.

لكن الصورة ليست خطا واحدا؛ فالقرار رغم قوته، لم يحصل على إجماع دولي. ووجود مجموعة دول نامية امتنعت عن التصويت، وصوتت أخرى ضده، يعني أن هناك كتلة واسعة غير مقتنعة بأن الضغوط هي الطريق السليم، وأن الهجمات العسكرية على منشآت تخضع للضمانات تشكل سابقة خطيرة، وهذا الانقسام قد يستخدمه الإيرانيون لتأخير أي خطوات متقدمة ضدهم، خصوصا أن موسكو وبكين توفران غطاءً يمنع انفراد الغرب باستخدام إطار الوكالة كمنصة للضغط.

في المقابل، تستعد إيران لإعادة صياغة خطابها النووي. تصريحات عراقجي بأن "صفر تخصيب مستحيل، لكن صفر سلاح ممكن" تكشف محاولة جديدة لإعادة تسويق الطرح الإيراني القديم حول التخصيب تحت إشراف دولي. وقد تلمح هذه الفكرة إلى أن طهران تريد فتح الباب أمام صيغة معدلة للاتفاق النووي، تسمح لها بالاحتفاظ ببعض القدرات، مقابل رقابة أوسع وأعمق. لكنها هذه المرة تريد أن يكون المسار عبر مفاوضات مباشرة غير مرتبطة بتفاهم القاهرة الذي سقط عملياً.

اللحظة الحاسمة المقبلة

من زاوية التحليل الاستراتيجي، يمكن القول إن قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير يعيد تحديد النقطة التي يقف عندها البرنامج النووي الإيراني. وهو يضع الغرب في موقع هجومي قانوني، ويضع إيران في موقف دفاعي سياسي وتقني، لكنه في الوقت نفسه يفتح نافذة تفاوضية قد تكون الأخيرة قبل العودة إلى مربع المواجهة.

وفي هذا السياق، تبدو الأسابيع المقبلة حاسمة، لأن الوكالة ستطلب وصولا سريعا للمواقع المقصوفة، وإذا استمرت طهران في الرفض، فقد تتحول "فجوة التحقق" الحالية إلى أزمة قانونية تبرر خطوات أكثر صرامة، وربما إحالة الملف إلى مجلس الأمن. وفي هذه الحالة، قد يصبح السؤال ليس كيف سيعود البرنامج إلى وضعه السابق، بل كيف سيُعاد رسم مستقبله من الأساس، وهل ستظل إيران قادرة على الاحتفاظ بهوية دولة العتبة، أم ستجد نفسها مضطرة للقبول بصيغة أقل طموحا وأكثر انفتاحاً على الرقابة الدولية.

بهذا المعنى، فإن قرار مجلس المحافظين ليس مجرد ضغط إضافي. إنه بداية مرحلة جديدة يحاول فيها كل طرف إعادة تعريف خطوط الاشتباك. والنتيجة ستحدّد ليس فقط مستقبل البرنامج النووي، بل موقع إيران داخل معادلة الأمن الإقليمي، والحدود المقبولة دولياً لأي قدرة نووية في الشرق الأوسط.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved