كان وأصبح (17): قصر الجزيرة.. سراي ملكية حولتها الديون إلى فندق سياحي

آخر تحديث: الأربعاء 22 مايو 2019 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

إنجي عبدالوهاب

لا ينفصل تاريخ الفنون عمارة وتصويرًا ونحتًا عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا تقتصر قيمته على الجمال والإبداع والاحتراف، بل هي شهادة حية على أيام خلت وأحداث مضت وشخصيات كان يمكن أن تتوه في غياهب النسيان.

وفي سلسلتنا الجديدة «كان وأصبح»، التي ننشر حلقاتها على مدار شهر رمضان، نعرض نماذج لحكايات منشآت معمارية أو قطع أثرية مصرية تنتمي لعصور مختلفة، تسببت التحولات السياسية والاجتماعية في تغيير تاريخها، أو إخفاء معالمها، أو تدميرها بالكامل، لتخبو بعدما كانت ملء السمع والبصر.

وتنشر الحلقة الجديدة من هذه السلسلة يوميًا في الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة.

ونتناول في هذه الحلقة «سراي الجزيرة» الذي يعد أحد أعرق قصور العصر الحديث، ونورد كيف بدا هذا القصرالأسطوري وقت إنشائه، وكيف أصبح.

بدأت قصة «قصر الجزيرة» فى عام 1863، عندما اجتمع عدد من خبراء المعمار من فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا لتلبية رغبة الخديوي إسماعيل، وتشييد سراي على ضفاف النيل في منطقة الجزيرة التي شرع في إعمارها وتطويرها فور توليه الحكم، وشاء القدر أن يستقبل هذا السراي أهم ضيوف مراسم الاحتفال بافتتاح قناة السويس، وهي الملكة أوجيني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، ملك فرنسا آنذاك.

"قصر ولي النعم"

بدأت أعمال البناء في القصر في العام 1963 بعدما وضع تصميمه الأساسي المعماري ‏المجري‏ الإيطالي ‏جوليوس‏ ‏فرانز، وهو مقام على مساحة 60 فدانًا وانتهت عقب 5 أعوام بانتهاء أعمال الزخرفة وجلب الأثاث بالتعاون مع الألماني كارل ويلهلم فون ديبيتش، والفرنسي الشهير، كوريل‏ ‏ديل‏ ‏روسو‏ ‏عام 1868 اللذين بدورهما أشرفا على صناعة الأرابيسك المنفذ بأيادي مصرية على الطرازالإسلامي، كما أشرفا على الزخارف الخارجية للقصر وجلب الأثاث والديكورات والإكسسوارات الداخلية له من أعرق المحال الباريسية، وتكلف ذلك نحو 750 ألف جنيه، لكن تلك التكلفة لم تشمل تكاليف هندسة المناظر الطبيعية المحيطة بالقصر، وحماية المناطق المحيطة به من مخاطر حدوث الفيضانات، والتي اعتنى بها الخديوي يشكل شخصي نظرًا لشغفه بعلوم الهندسة.

قالوا عن القصر!

كان للقصر الأسطوري الذي خرج عقب 5 أعوام كقطعة معمارية فريدة تمزج بين الطرز المعمارية الأوروبية والطابع الإسلامي، قصة درامية بسبب تفرده، إذ راجت إشاعات أن الخديوي إسماعيل، أعده خصيصًا للملكة أوجيني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث ملك فرنسا بسبب عشقه لها، لكن هناك رأي آخر أورده المؤرخون مفاده أن الخديوي إسماعيل عرف عنه أنه مضيف رائع، وفضلًا عن كون أوجيني أحد أهم ضيوف الاحتفال، لكونها زوجة إمبراطور فرنسا وابنة عم فيرناند ديليسبس صاحب فكرة انشاء قناة السويس، إلا إنها قدمت إلى مصر من دون زوجها لذا فضل الخديوي إسماعيل استضافتها بهذا القصر بمعزل عن بقية الملوك والأمراء الذين قدم معظمهم برفقة زوجته، وكان ضمن حضور الاحتفال‏ ‏الأمير‏ ‏عبد‏ ‏القادر‏ ‏من‏ ‏الجزائر‏، والأميرة‏ ‏أماليا‏ ‏من‏ ‏هولندا‏ ‏والأمير‏ ‏هنري‏ ‏أخو‏ ‏الملك‏ ‏وليم‏ ‏الثالث‏ ‏من‏ ‏هولند‏ ‏وأمير‏ ‏عرش‏ ‏بروسيا‏ ‏فريدريك‏ ‏وليم‏ ‏والإمبراطور‏ ‏جوزيف‏ ‏من‏ ‏المجر‏، لكن أوجيني كانت ضيفة الشرف الأولى.

كيف بدا القصر وقت إنشائه

كان القصر الذي استوحى طرزه من الفن الإسلامي مقامًا على مساحة 60 فدانًا، وشمل لوحات ومنحوتات ثمينة أنجزها أشهر النحاتين والرسامين الأوروبيين، وتناغمت تصاميمه الداخلية بين أقمشة وأثاث ومشغولات من مدارس فرنسية وألمانية وإيطالية وبين الطرز العربية الإسلامية.

ألحق بالقصر عدة حدائق ضمنها الحديقة التي تحولت إلى نادي الجزيرة الرياضي لاحقًا، وحديقة الأسماك النادرة التي تحولت بعد بيعه إلى حديقة عامة، ولإظهار ثروات مصر الزراعية خصص بداخله صالون ملكي كانت جميع نقوشاته تصور محاصيل مصر الزراعية.

ومن أبرز موجودات القصر، التي أعيد ترميم بعضها ، نافورة مصقولة من المعدن المشغول، وسلم من الرخام، و6 ساعات جدارية قديمة ولوحات متنوعة، منها رسم للإمبراطورة أوجيني، وطاولة من الرخام تعود لعهد الملك لويس الرابع عشر .

مراحل مر بها القصر

لم يكن هذا القصر بمعزل عن الأحداث السياسية والاقتصادية في مصر بل شاهدًا على ديناميكيتها، فبعدما شهد احتفالات قناة السويس الأسطورية وكان جزء منها باستضافته ضيفة الشرف الأولى لها، كان أيضًا شاهد على تراجع الاقتصاد المصري وإرهاصات غرقها في الديون، فبحلول أغسطس عام 1879 بيع القصر إلى شركة فنادق مصرية بحجة سداد بعض ديون الخديوي إسماعيل، وعقب عزل الخديوي من الحكم افتتح الفندق وأطلقت عليه الشركة اسم «فندق الجزيرة».

نال القصر نصيبا من الحروب أيضًا فخلال الحرب العالمية الأولى (1914 : 1918) تدهورت حالته بعدما حوله الإنجليز إلى مستشفى عسكري لجنودهم، ثم تحول إلى مقر لشركة المياه.

وبيع القصر عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى عائلة الأمير الشامي حبيب لطف الله 1919 بمبلغ 140 ألف جنيه، الذي حوله لسكن خاص وعاش به برفقة عائلته وقام على خدمتهم أكثر من 400 حارس وخادم وطاهي وبستاني من جنسيات مختلفة.

وتحول القصر في أعقاب ثورة يوليو 1952 مجددًا إلى فندق سياحي وسمي بـ «فندق عمر الخيام»، وبحلول عام 1977 انتقلت إدارته إلى شركة ماريوت العالمية التي بدورها قامت بترميمه وإقامة توسعات يإضافة برجين حديثين يسعان 1087 غرفة، حتى افتتح كـ«فندق ماريوت» عام 1982 باعتباره أحد أكبر فنادق الشرق الأوسط.

لا يزال القصر يحتفظ بشخصيته الملكية رغم اختفائه وراء أسوار الـ"ماريوت" الشاهقة فبهوه الرئيسي وزخارفه الإسلامية لا تزال تحتفظ بنزعتها الخديوية العائدة من الماضي، كما صمدت بعض موجوداته القديمة كنافورة بهوه المصقولة من المعدن المزخرف، وسلمه الرخامي، فضلًا عن 6 ساعات جدارية وطاولة رخامية تعود لعهد الملك لويس الرابع عشر، فرغم مروره بمراحل عديدة إلا أنه لا يزال مهيبًا.

وغدًا حلقة جديدة..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved