محمد موافي يكتب عن رمضان بلا مخدة أبي

آخر تحديث: السبت 23 مايو 2020 - 1:14 ص بتوقيت القاهرة

بعد السحور، وبهدوء، تسرح يدي تحت مخدته. أحيانا يصحو فيبتسم. أنتشل ورقات نقدية، يعلم جيدا أنني سأنفقها على الكتب. وبين الظهر والمغرب، أطوف بوسط البلد. أتسلل بخفة، وكما يليق بتلميذ مؤدب أوزع الابتسامات والأسئلة الساذجة على العاملين بمكتبة الشروق. كانوا عادة اثنين أو ثلاثة بين الممرات، وموظف الكاشير.
أقضي ساعتين أو أكثر، أقلب بين دواوين الشعر. في الشعر أستلم ديوانا واحدا، أقرأ كل قصيدة مرتين، وقتها ما زلت صغيرا لم تلوثني الهموم، فأكاد أحفظ بمجرد القراءة،. أقرأ واقرأ، ثم أغادر بكيس به كتاب أو اثنان، حسب ما تيسر من فلوس.
وفي المساء أجلس جوار أبي مع أصحابه، فأسبح في حكايا القرآن الكريم. يأتي بعجائب وتلميحات تُدهش خيال صبي، أشرب منها وأعود بعد الفجر ظمآن، أفتش عما قاله، أبحث وأدون كأنني أذاكر.
مرت رمضانات كثيرة، وهدأ الشغف قليلا، وما عادت مخدة أبي تحفظ النقود، وإن كان مكانها يحفظ ذكريات هي عندي كنوزٌ.
هذا رمضان مختلف، رمضان الحظر والجائحة. رمضان محبوسون فيه كأننا شياطين لا يجوز لها التخلص من سلاسلها في الشهر الكريم. وكريمة هي الذكريات، كلما مرت السنون صارت ذكرياتنا مثل مقتنياتنا الغالية النادرة، لا نسمح لغبار النهارات أن يعلوها، ولا نقبل أن تختفي في هموم الليالي
بعد عقود، أتمنى لو عُدت فأطوف بين ممرات المكتبة، حالما بأنني بعد كل سحور، سوف تتسلل يدي، وتندس تحت مخدته.
مخدة أبي كانت عامرة، كانت كنزا ملآنا بالفلوس والبركة.
تذكرته وأنا أؤدي عادة رمضانية صعبة وجميلة.. أرتب مكتبتي، أزيح الغبار، وأتأمل صورته جوار كتب التفسير.
فلئن فقدت مخدتك يا أبي، فما خلعت جلبابك، ولا فقدت الطريق للمكتبة
أنا من كُتّابها يا معلم، ولك الفضل الجميل، يا من علّمتني أن السكوت نافذة الخيال، وأن الحروف صلصال في يد خزّاف مبدع موهوب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved