عن زهرة جيل الستينيات: رضوى عاشور.. الضوء القادم لكل المقهورين

آخر تحديث: الجمعة 22 مايو 2020 - 8:28 م بتوقيت القاهرة

سامح سامي

فى واحدة من زيارات كلية الآداب جامعة عين شمس شهدت قاعة كبرى مملوءة حيوية كأنها من روحها أخذت ونمت. يقال إن الأماكن تحتفظ بأصوات الراحلين، وتشهد لهم وتأخذ منهم، فحين تدخلها تشعر برهبة وجودهم المؤثر. رهبة ممزوجة ببسمة خفيفة للحيطان التى من المؤكد احتفظت بضحكات هؤلاء، متذكرة أيضا صرخاتهم ونضالهم الأكاديمى العلمى والمجتمعى. شهدت قاعة كبرى فى الدور الثالث تحمل اسم الدكتورة رضوى عاشور؛ ولأن هذا الجيل دائما مدهش، يضيفون بعد رحيلهم، كما فى حياتهم، شيئا من العظمة لكل ما يرتبط بأسمائهم.

هى واحدة من وجوه جيل الستينيات الأدبى والنقدى، تاركة تاريخا مملوءا مجدا من الأدب والثقافة والنضال، مما جعل مجايلوها يطلقون عليها «زهرة الجيل». الثلاثاء المقبل 26 مايو الجارى تحل ذكرى ميلادها. ويطيب هنا الإشارة إلى أحدث الكتب الصادرة لها ــ بعد الرحيل عن دار الشروق ــ وهو كتاب «لكل المقهورين أجنحة» الموصوف بأنه «استكمالا لدرجات الضوء القادم من شخصية رضوى عاشور. إنه الضوء المطل من اشتباكها مع النظريات النقدية ومع النقد التطبيقى. والضوء القادم من مساءلتها لتجربتها الروائية وإعادة تعريفها لا لفن الرواية بل للتاريخ أيضا؛ حتى لا يستسهل أحد بعد اليوم التورط فى كليشيه «الرواية التاريخية» بتبسيط لا يليق. والضوء القادم من معارضة شجاعة للأوضاع الضاغطة على الجامعات المصرية، وتصديها المبكر لممارسات سياسية وأكاديمية واجتماعية لم تسكت عنها يومًا حتى وهى فى العمر السارى بين الطفولة والشباب. والضوء القادم من بوح شخصى عن بواعثها للكتابة وعلاقتها باللغة العربية تراثا وجمالًا. وضوؤها الذى قاوم التطبيق قبل أن يلتفت الكثيرون لمخاطره المتعددة».

للدكتورة رضوى عاشور عدة كتب وروايات تعد علامة فارقة فى تاريخ الأدب العربى، خاصة روايتها «الطنطورية»، و«ثلاثية غرناطة»، و «أطياف»، و«تقارير السيدة راء»، و«أثقل من رضوى»، إلا أن فى ذكراها دائما ما يأتى على ذهنى كتابها الصرخة النص الذى صدر بعد رحيلها بقليل، لتستكمل جزءها الأول من سيرتها الذاتية «أثقل من رضوى». و«الصرخة» عنوان اختارته د.رضوى عاشور قبل الرحيل بل اختارت غلاف الكتاب أيضا للفنان النرويجى «إدفارد مونتش»، إلا أنها لم تستطع استكمال تأملاتها فى فصول تركتها هى بيضاء، وأخرى بها بعض الإشارات لعناوين صغيرة «معركة تميم»، و«الرحلة إلى باريس»، و«بدء العلاج بأشعة جاما».

فى مقدمة «الصرخة»، تقديم يخبر القارئ بأن: «هذا هو الجزء الثانى من كتاب «أثقل من رضوى» الصادر عن دار الشروق فى القاهرة عام ٢٠١٣ والذى روت فيه الكاتبة تجربتها مع المرحلة الأولى من المرض والعلاج وما كان يجرى فى مصر من أحداث بين عامى ٢٠١٠ و٢٠١٣.

فى هذا النص تكمل رضوى عاشور رواية تجربتها مع عودة المرض ومع ما جرى فى مصر، وقد توقفتْ عن الكتابة فى سبتمبر ٢٠١٤ ووافتها المنية فى 30 نوفمبر من العام نفسه. وتم نشر النص كوثيقة، كما هو، بدون تدخل، إلا من بعض الحواشى التى تشرح إشارات فى النص تحيل إلى كتاب «أثقل من رضوى»، كما قد يجد القارئ والقارئة، رءوس أقلام أو عناوين فصول، بعدها صفحة بيضاء، كانت الكاتبة تتأمل تتبعها أو الكتابة عنها ولم تفعل. كانت الكاتبة اختارت عنوان هذا الكتاب، وعينت الفصل الختامى منه كما يرى القارئ والقارئة، وإن كان تأملها لإضافة فصولٍ داخليةٍ فيه ظاهرا. وعلى غير العادة، لم تسمح الكاتبة لأسرتها وأصدقائها بالاطلاع على النص أثناء كتابته.

ويبدو الآن أن سيرتها الذاتية «أثقل من رضوى»، دار الشروق 2013، كانت المأدبة التى قررت رضوى أن تجمع حولها أحباءها تمهيدا لرحيلها، الذى كانت تعلم بحدسها أنه سيكون بالغ الألم، فاستبقت الألم بوقفة «لا أحتاج فى حالة كتابة السيرة، الصريح الذى أكتبه سوى النظر حولى وورائى وفى داخلى لأرى أو أتذكر». ولعل أرادت رضوى عاشور أن تستكمل جمع الأحبة حول جزئها الثانى «الصرخة» الذى لا يستقيم قراءته إلا بقراءة الجزء الأول «أثقل من رضوى».

والسيرة الذاتية لرضوى عاشور، برغم ما يعج فيها من حكايات عن المرض، وعمليات جراحية صعبة، ولحظات ضعف، إلا أنها فى مجملها معركة تفاؤل تطل بوجه صبوح، معركة تصلح؛ لأن تقتدى بمفرداتها النضالية «هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا».

للمرء نصيب من اسمه. اختار اسمها جدها لأمها على اسم جبل «الرضوى» الكائن بالقرب من المدينة المنورة، الذى كان العرب يضربون به المثل فى الرسوخ فيقولون «أثقل من رضوى»، وتتوارى على مدى السيرة الذاتية قصة الجبل، تتماهى فى قصة رسوخ موازٍ بطلته سيدة «تستيفظ فى الصباح مرهقة كأنها فى نهاية يوم عمل مضن، تظن أنها غير قادرة على مغادرة الفراش والذهاب إلى عملها، ولكنها فى نهاية المطاف، تقوم وتستعد للخروج إلى العمل وتخرج، تذهب إلى الجامعة تدرس، تحتفى بطلابها وزملائها، تبدو مشرقة ومقبلة، تمنح الأمل، كأنما بدأت يومها بقطف ثماره وأودعتها سلتين كبيرتين خرجت بهما لتوزيع ما فيهما على من يطلب ومن لا يطلب».

وتقاطعت فى سيرة رضوى عاشور تجربتا المرض والثورة، تراها تستقبل زلزال الثورة التونسية وهى لا تزال رهينة المشرط «تصادف إذن أن أكون فى مسرح العمليات بين أيدى جراحين يُعملان مشارطهما ومعارفهما فى رأسى، وتونس تشتعل بعد أن أحرق البوعزيزى نفسه»، عز عليها كثيرا أن تكون فى بلد بعيد يصعب أن تجد فيه قناة إخبارية تواكب تفاصيل ما يحدث، عز عليها أنها لم تستطع أن تستمع جليا لذلك الهتاف الأثير «الشعب يريد إسقاط النظام».

فى جزئها الثانى «الصرخة» تحاول رضوى إشراك القارئ فى التفاصيل، ثم كتبت وكأنها متوقعة أنها لن تعيش حتى صدور جزئها الثانى: «قلت هل يقبل الناشر فكرةَ استنساخ هذه الصورة (تقصد لوحة الصرخة) على غلاف الجزء الثانى من «أثقل من رضوى»؟ هل تعجبه أم يرى فيها رسالة قاتمة؟ هل يفضل النسخة الملونة على نسخة الليتوجراف المرسومة بالأسود؟ والأهم، هل أتمكن من كتابة جزء ثانٍ من «أثقل من رضوى»؟ قلت ربما أتراجع عن العنوان وشكل الغلاف حين أتم الكتاب. نعم كنت منشغلة بالكتابة، ولكننى لا أعرف إن كنت قادرة عليها. ها أنا ذى المُغرمة بالمتاحف، أسافر من مكان إلى مكان لمشاهدة لوحة أُحبها، غير قادرة على زيارة متحف على بُعد خمس دقائق من الفندق الذى نقيم فيه!».

هل هناك كلمات من الممكن تصف عظمة تلك السيدة أم الأفضل هنا ترك القارئ ليقرأ جزءا من الفصل الحادى عشر من كتابها «الصرخة»: «وإلى يمين شجيرات الليمون، فى الحَيِز الأقرب إلى نافذة غرفة المكتب، شجرة فستق بقيت لسببٍ أو آخر صغيرة لا تُثمر، تجاورها شجرة مشمش. وأنا أجلس إلى المكتب أحاول وصف الحديقة، لمحت مجيد، شقيقَ مُرِيد يروى الحديقة. قلت له عبر النافذة: صباح الخير، قال صباح النور. قلت لنفسى: ربما يتواصل مع أمه بسقى أشجارِها. أردت أن أسأله عن ذلك، ولم أفعل. قال لى مجيد: إن المُزارع الذى أتى لرفع الغصون التى سقطت وقص ما انكسر منها، سيأتى ليتخلص من الأوراق الجافة ويقلِب التُربة، ويُسَمِدها، ويُقَلِم الأشجار ويرشها لحمايتها من الدود والمواد السامة. قال مجيد: أخبرنى المزارع أنه سيأتى يوم 25 يناير ليُنجز تلك المهام. لم أُعَلِق. لم أسأله إن كان المزارعُ مصريا، ولكننى لسبب ما كنت موقنة أنه مصرى. أنظر أمامى وأنا جالسةٌ وراء المكتب. خلف شجرات الزيتون الأربع عمارة من عدة طوابق بُنيت قبل بضع سنوات. كانت الأرضُ التى بُنيت عليها ملكَ مجيد. ولأن سكينة البرغوثى كالطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد اتفقت مع مقاول نقَل لها تُربة محملة على سيارتى نقل. غطت الأرض بالتربة وبدأت فى مشروعها: زرعت الأرض بشتلات اشترتها وغرستها وواظبت على رعايتها. بعد أقل من ثلاثة أعوام تحولت الأرضُ القفر إلى بستانٍ أشجارُه مثمرة: تين وزيتون ولوز ومشمش وخوخ وتفاح. وفى الفراغات بين الأشجار زرعت زعتر ومِيرَمِيَة، وكوسة وطماطم وفلفل رومى. وكانت سكينة حين فلحت هذه الأرض، بمساعدة مزارع أحيانا، تقترب من الثمانين من عمرها، أى والله، الثمانين! كنا فى بيتنا فى القاهرة حين اتصلت بنا وأخبرتنا أن الأرض ستباع!.. قالت: ألا يمكنكم شراؤها؟ تميم، ألم تتخرج وتحصل على الدكتوراه؟ ألا تستطيع شراء الأرض؟ لم نقدر على ذلك وبدا لنا سؤالُها لتميم طريفا. لم نتخيل معنى هذه الأرض بالنسبة لها. تم بيع الأرض. ورأت سكينة بعينيها اقتلاعَ الأشجار التى غرستها. تابعت الجرافات وهى تُمَهِد الأرض للحفر عميقا فيها. الآن وأنا أسترجعُ الواقعة أشعر بالخجل من نفسى لأننى وأنا الكاتبة افتقدت الخيال، ولم أفهم حين قالت لتميم ألا تستطيع «انتشال العائلة»؟ إن اقتلاع أشجارِها كان أشبه بالغرق! تحتاج ولدا من أولادها أو أحفادها لانتشالها منه».

ــ الكتب متاحة للشراء فى فروع مكتبات الشروق وعبر موقعها الإليكترونى
==
رابط شراء كتاب الصرخة

رابط شراء كتاب لكل المقهورين أجنحة

رابط شراء كتاب أثقل من رضوى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved