محمود محيي الدين يكتب: وظلَّ البنك يربح حتى أفلس!

آخر تحديث: الخميس 23 مارس 2023 - 7:08 م بتوقيت القاهرة

مع تنوع الأزمات المتعاقبة والمستمرة منذ بداية هذا العقد بين جائحة صحية عالمية، وتدهور جيوسياسى شمل حربا على أرض أوروبية، وأزمة مناخ بتداعيات مدمرة للطبيعة والبيئة وأسباب المعيشة، وتدنى الأداء الاقتصادى العام مع ارتفاع حاد فى معدلات التضخم، وتراجع معدلات النمو والوقوع تحت مهددات الركود التضخمى، وتعرض بلدان نامية لمعضلات كبرى فى إدارة ديونها الخارجية. وباعتبار أن الأزمات لم تعد تأتى فرادى فأتت معها بصنف من الأزمات التى تكررت على مدى العقود الماضية، ألا وهى الأزمة المصرفية، وهى أزمة غير مفتقدة بحال بعد ما ألحقته بالعالم من نوائب كما حدث فى عام 2008، ولكن إرهاصاتها أطلت بقوة خلال الأيام الماضية لتسهم فى إرباك الأسواق، وتصيب مودعين ومساهمين فى عدة بنوك بالذعر.
وتماما كحال بنك ليمان براذرز عند سقوطه مشعلا فتيل الأزمة المالية العالمية، لم يسمع كثيرون عن بنك سيليكون فالى «إس فى بى» إلا بعد اضطراب أوضاعه المالية ثم تعرضه للإفلاس. عرف الناس بعد ذلك أن البنك المتهاوى، هو السادس عشر فى ترتيب البنوك الأمريكية، وأنه استمر فى العمل لمدة 40 عاما متخصصا فى تمويل الشركات الناشئة فى مجالات التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية. وشهد البنك قفزة فى أصوله المالية بنحو 3 مرات من 70 مليار دولار فى 2019 إلى ما يقترب من 210 مليارات دولار خلال أقل من 3 سنوات. ويسيطر مودعو الجملة من المؤسسات والصناديق المالية على ودائعه بإجمالى 170 مليار دولار، منها 4 مليارات دولار لمودعين أفراد.
ومع انتشار أخبار تعرض الشركة الأم للبنك لخسارة مقدارها 1.8 مليار دولار فى آخر عام 2022، وتعثر البنك فى جمع 2.25 مليار دولار من خلال طرح أسهم لتعزيز رأسماله، تعرّض البنك لهجوم من مودعيه لسحب ما يزيد على 40 مليار دولار فى خلال يوم واحد. واشتدت حدة الأزمة بإعلان تعثر بنك سجنيتشر بنيويورك ذى الأصول المالية البالغة 118 مليار دولار، والذى عانى أخيرا من مشكلات فى إدارته، منها زيادة نسبة الودائع غير المؤمنة، وزيادة نسبة الأصول المالية المشفرة فى عملياته، وكذلك فى التزاماته حتى بلغت 30 فى المائة من إجمالى الودائع. وتعرّض البنك الذى تأسس منذ أكثر من عقدين لسحب مفاجئ من ودائعه بلغ 10 مليارات دولار فى يوم واحد.
وفى هذه الأثناء تواترت الأنباء القادمة من أوروبا بتداعى أوضاع بنك كريدى سويس السويسرى، وهو بنك قديم كبير الحجم بما جعله فى قوائم البنوك المصنفة؛ وفقا لاعتبارات المخاطر النظامية العالمية، أى إن سقوطه قد يؤدى إلى مخاطر على النظام المالى العالمى بتأثير قيمة تعاملاته وتشابك ارتباطاته الدولية. وقد تعرض بنك كريدى سويس أخيرا لسلسلة من المشكلات مع توقعات باستمرار خسائره، ورفض كبار المساهمين فيه تعزيز رأسماله بما خفض تصنيفه الائتمانى وتقييمه السوقى مع تقلب عنيف فى أسعار أسهمه، وارتفاع حاد فى تكاليف تمويل نشاطه من خلال إصدار سندات فى الأسواق المالية.
تذكرنى هذه الوقائع بعبارة رددها بعض أساتذة علم النقود والبنوك العتيدين فى وصفهم لتطور أحد البنوك بقولهم: «وظل البنك يعمل بنجاح حتى أفلس». وإذا كانت «حتى» قد حيّرت علماء النحو لاختلاف معناها مع ما يأتى بعدها مجرورا أو منصوبا أو مرفوعا، لكن فى موضوعنا هذا فالتعرف على ما سبق «حتى» من ملابسات شديد الأهمية لفهم تطور عمل البنك المعنى، وكيفية تحوله من الربح إلى الخسارة، وتعرضه إلى أزمات سيولة، ساءت لتصبح أزمة ملاءة مالية والعجز عن الوفاء بالحقوق ومن ثم الإفلاس. أما ما سيئول إليه وضع البنك المفلس فيختلف من حيث طريقة المعالجة، وإن كان هناك اتفاق فى الحالتين الأمريكية والسويسرية على حماية المودعين بالكامل دون ضرر.
تداعيات التأخر فى التقييد النقدى ثم الرفع المتسارع لأسعار الفائدة: بعد فترة من التيسير المالى المفرط إبان التعامل مع الجائحة أصابت الأسواق النقدية والمالية باضطرابات مع ردود أفعال عنيفة فى حركة المحافظ المالية، وانتقال الأموال من وعاء إلى آخر بسرعات تجاوزت قدرة بعض المؤسسات المالية على إدارة السيولة ومخاطر الاستثمار، حيث تعرضت بعض المحافظ لانخفاض حاد فى قيم السندات طويلة الأجل المحتفظ بها مع رفع أسعار الفائدة، وتعرّضَ مستثمرون وعدة مؤسسات مالية لخسائر، خصوصا مع هروب إيداعات إلى العوائد الأعلى بأوعية مالية جديدة.

أثر العدوى وهلع الأسواق:
فى أجواء مختلفة أكثر استقرارا لم تكن لتبالى السلطات النقدية والمالية فتبادر بنجدة مودعى بنك سيليكون فالى أو بنك سجنيتشر، ولتركوا للتعامل مع الآليات الموجودة بتغطية جزئية للودائع حتى 250 ألف دولار، ثم انتظار قسمة أصحاب الحقوق بعد تصفية البنك إن تبقى من أصوله ومقوماته ما يستحق. ولكن عوامل ثلاثة تدور حول أثر العدوى عجلت بتدخل السلطات الاقتصادية الأمريكية: أولها دروس الأزمة المالية العالمية والخبرة التعيسة مع ترك بنك ليمان براذرز ليسقط فى عام 2008 مخلفا وراءه مدمرات للثقة أسهمت فى اشتعال الأزمة المالية العالمية من خلال أثر العدوى وهلع الأسواق. ثانى العوامل ما يرتبط بالوضع الحرج للاقتصاد الذى يعانى من التضخم ويصارع احتمالات تراجع النمو والوقوع فى براثن الركود التضخمى، فضلا عن تحديات سياسية واقتصادية أخرى تأتى على أعتاب انتخابات جديدة فى الولايات المتحدة جعلت الحكومة تؤثر السلامة باحتواء أزمة جديدة قبل استفحالها. ثالثا أهمية التجاوب مع سرعة تداول الأخبار والتحليلات المصحوبة بمطالب الحسم السريع قبل انتشار العدوى فعلا.
طرافة وتساؤلات حول الرقم 250:
بعد الأزمة المالية العالمية حددت القوانين 250 مليار دولار من الأصول المالية لتعريف البنوك الكبيرة التى قد يترتب على الخلل فيها مخاطر «نظامية» على سائر القطاع المالى، وتخضع هذه البنوك لإشراف مدقق واختبارات دورية إضافية على سلامتها وتوفر السيولة بها وقدرتها على مواجهة الصدمات. ولكن بنك سيليكون فالى سعى فى عام 2018 مع جهات أخرى لتعديل القانون لإعفائه من هذه القيود بتعديل يستثنى البنوك التى تقل أصولها عن 250 مليار من هذه القيود الرقابية، باعتبار أنه لا يشكل مخاطر نظامية. ورغم ذلك بعد سقوط البنك اعتبر هو وبنك سجنيتشر من هذا التصنيف للبنوك الكبيرة، حتى يمكن إنقاذ مودعيهما. والطرفة الأخرى للرقم 250 هى ما تحدده قواعد التأمين على الودائع، بأن تضمن ما لا يتجاوز 250 ألف دولار كحد أقصى للمودع. ولكن فى وقت الأزمة اضطرت السلطات النقدية لضمان جميع المودعين والإيداعات من دون حد أقصى.

تدخل غير مسبوق من السلطات النقدية والمالية للتعامل مع أزمة المصارف:
فى مواجهة المشكلات الاقتصادية والمالية الحادة ينبغى التدخل السريع الفعال وإلا تحولت لأزمة، أما إذا كان التدخل الحكومى فاشلا فسوف تتحول المشكلات لكوارث ممتدة الأذى. وفى هذه المرة كان التدخل حاسما لتهدئة الأسواق، وبث الثقة فى مودعى البنوك، ومنع تدهور الأوضاع بما يحاكى أزمة 2008 أو ما هو أسوأ. فتم الإعلان عن حماية جميع الودائع لبنك سيليكون فالى وكذلك بنك سجنيتشر، والتكلفة ستتحملها الهيئة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وإتاحة آلية مالية بالبنك الفيدرالى بالتنسيق مع وزارة الخزانة؛ لتوفير السيولة العاجلة المطلوبة فى حالة زيادة الطلب على الودائع بما لا تضطر البنوك لبيع أصولها المالية فجأة. كما تدخلت السلطات الرقابية السويسرية لتنسيق استحواذ بنك يو بى إس على بنك كريدى سويس مقابل 3.23 مليار دولار مع إتاحة مائة مليار دولار من البنك المركزى السويسرى للبنك المستحوذ وفقا لما أوردته صحيفة «فاينانشيال تايمز» لتيسير عملية الاستحواذ والوفاء بالالتزامات. واتفق البنك الفيدرالى مع البنك المركزى الأوروبى والبنوك المركزية فى المملكة المتحدة واليابان وكندا وسويسرا لإتاحة خط مبادلة يومى لإتاحة السيولة الدولارية للأسواق المالية حال الحاجة إليها، على أن يعمل بذلك فورا حتى نهاية شهر أبريل.
هناك استفادة من بعض دروس الأزمة المالية العالمية بسرعة التدخل لحماية النظام المالى الذى يعد فى مجمله أكثر متانة وملاءة مما كان عليه الوضع قبل الأزمة، لكن سيظل النظام المالى محل اختبار لقياس صلابته فى التعامل مع الصدمات. وستكون هناك مراجعات لأسباب ما حدث فى البنوك المذكورة هل لقصور فى نظم الرقابة أم لتقصير فى تطبيقها؟ وسيكون هناك نقاش حول الحد الذى يمكن الاتفاق عليه لاعتبار البنك المعنى مؤثرا على سلامة النظام المالى ومخاطره، وحول فاعلية نظم التأمين على الودائع. أما بالنسبة لاتجاهات أسعار الفائدة ففى تقديرى أن البنك الفيدرالى سيستمر فى اتجاه الرفع المتوقع فى حدود ربع نقطة مئوية لتأكيد عزمه على السيطرة على التضخم، وإرسال إشارة بأن الوضع المالى مستقر ولا يستدعى تغييرا فى السياسة النقدية المرسومة. أما أثر هذا كله على الاقتصاد الحقيقى فأميل إلى أنه سيكون ذا أثر انكماشى بتراجع الطلب من خلال تقييد الائتمان مرة من خلال سعر الفائدة ومرة أخرى باتباع البنوك والرقباء عليها إجراءات أكثر تمحيصا وحرصا فى استثماراتها، وتوجيه أصولها المالية وإدارة محافظها. أما عن تأثير ذلك كله على البلدان النامية فهو مرتبط بمدى متانة اقتصاداتها، وبمرونة سياساتها فى التعامل مع الصدمات المتواترة، وفى ذلك سيناريوهات نتناولها فى مقال قادم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved