خالد أبو بكر يروي حواديت ثورة 1919: الشعب يريد «إسقاط الخمارات»

آخر تحديث: الجمعة 24 مايو 2019 - 12:20 م بتوقيت القاهرة

أحمد الجمل

فى كتابه الجديد «رمضان والثورة فى مصر» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يلفت الكاتب الصحفى خالد أبوبكر إلى أن ثورة 1919، وبالرغم من أنها قامت فى الأساس للمطالبة باستقلال مصر عن الاحتلال البريطانى، فإن النخبة المثقفة فيها وجدتها مناسبة رائعة للقيام بإصلاحات اجتماعية كبيرة تساهم فى رقى الأمة المصرية التى كانت تبحث عن ذاتها فى هذه الأثناء، ومن هنا لا نستغرب إذا وجدنا سؤال النهضة الاجتماعية والإصلاح الاجتماعى ملحا فى هذه الفترة، فعقب سفر الوفد إلى باريس وعودة الهدوء النسبى إلى الوطن أكاد أجزم أن موضوع الرقى الاجتماعى والتقدم الاقتصادى كان من أهم الموضوعات التى ناقشها الصحافة المصرية الوطنية، بعد أخبار الوفد، ونظرة عامة على الصحف المصرية الصادرة فى هذه الفترة كفيلا لتأكيد هذا الطرح.
بالعودة لرمضان الأول بعد ثورة 1919، الذى جاء كما سبق وأشرت مرارا ودخان حوادث الثورة لا يزال فى الأفق، ورائحة البارود ما زالت تملأ جنبات المحروسة، نجد أن الدعوة لتنفيذ إصلاحات اجتماعية تكون كفيلة بدعم الأمة فى مساعيها نحو بلوغ مقاعد الأمم المتمدنة حيا وحاضرا، فنجد مثلا المطالبة بإغلاق الحانات والخمارات التى تدمر روح شباب الأمة، فضلا عن المطالبة بسن قوانين لمكافحة الفقر، والأهم من ذلك حشد الجهود لإنشاء ملجأ لرعاية أطفال الشوارع المعروف باسم «ملجأ الحرية»، الذى كان بمثابة مشروع قومى لمصر فى تلك الفترة، ناهيك عن المطالبة بدخول المصريين مجال التجارة من أوسع أبوابه، والحث على العمل والإنتاج.

الشعب يريد إسقاط الخمارات
إضعاف الشعوب والعمل على إغراقها فى محيط من الفقر والجهل والمرض هو الهدف الرئيس لأى محتل يسعى للسيطرة على البلد الذى يحتله؛ ولذلك لم يتورع الاحتلال البريطانى عن نشر الكثير من الآفات الأخلاقية فى المجتمع المصرى، كى يقتل من خلالها نزوع المصريين للاستقلال والمطالبة بالجلاء، ومن أبرز هذه الآفات التى زرعها الاحتلال الانجليزى زرعا فى مصر نشر الخمارات وبيوت البغاء، وحانات القمار، إلى أن جاءت ثورة 1919 فحاولت النخبة المثقفة جهدها أن تجعل هبة المصريين وتوحدهم لتحقيق أمانى الوطن فى الاستقلال مناسبة مهمة لتخليص المجتمع من العادات التى تعوقه على الإنتاج، ومنها الخمر والقمار.
هذه الظاهرة تحدث عنها د. محمد حافظ دياب فى كتابه «انتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر»، فى معرض حديثه عن الأوضاع الاجتماعية فى مصر قبيل قيام ثورة 1919 فقال:
«شهدت البلاد موجة من (التفرنج) و(الألافرانكة) تتمثل فى الانحلال الأخلاقى، مع انتشار الخمور والمواخير والأجنبيات ودور القمار، حيث زاد خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر عدد المقاهى والبارات وصالات القمار بأكثر من ثلاثة أضعاف، وظهرت الإعلانات فى الصحف تبين (مميزات الخمور من الصنف العال.. وارد فرنسا وإيطاليا واليونان)، وصارت محال المسكرات تفتح فى كل مكان، ما زاد من حوادث الجرائم والإخلال بالأمن العام.
ويؤكد بلنت( ) فى مذكراته، رعاية الإنجليز لهذه الآفة؛ فيتحدث عن نعمة الاحتلال على اليونانيين أصحاب الحانات الذين أخذوا ينتشرون فى القرى، ولا شك أن الفلاح الذى يتعاطى الخمر سيفقد استقلاله الاقتصادى فيمد يده للاقتراض، ثم لا يلبث أن ينزلق فى مهاوى الرذيلة، وقد حاول بلنت إثارة الموضوع مرارا فجاء الوعد باتخاذ الإجراءات اللازمة، لكن النتيجة التى وجدها بعد فترة هى زيادة عدد الحانات.
وسجل الفنان نجيب الريحانى هذه الموجة، حين جسد نهايات الحرب العالمية الأولى شخصية «كش كش بك»، عمدة كفر البلاص، وخادمة «زغرب»، لمّا كان يهرع إلى مغادرة قريته إلى مصر المحروسة (القاهرة)، وجيبه ممتلئ بنقود بيع محصول القطن فينفقه هناك على العاهرات».( )
والقضاء على هذه الآفات الاجتماعية كان محل اهتمام عدد من ثوار 1919، فأكدت جريدة «البصير» السكندرية فى 11 رمضان 1337هـ، أنه حان الوقت ليتخلص المجتمع المصرى من الآفات الأخلاقية؛ عبر مقال قالت فيه:
«قامت الأمة المصرية تلبى نداء وطنها العزيز، فلها بذلك فخر يسجله التاريخ، ولكن – ويا للأسف ــ فإن أبناء الوطن تركوا وجهتى الأخلاق والاجتماع، وهما أول شيء يجب أن نعد له العدة.. ونشد له المطايا. وإن كانت أمانى الوطن السياسية تولى الوفد أمرها، والسعى لها لدى مؤتمر الصلح، ولم يبق علينا إلا أن نقوم حياتنا الاجتماعية والأخلاقية».
وأضافت الجريدة «لا ندرى لماذا لم يتشبه المصريون بالولايات المتحدة والصين فى مصادرة الخمور والأفيون ــ وهم كانوا أول متشبه بهم مع إخوانهم الغربيين ــ فها هى الولايات المتحدة سنت قانونا حوى عقابا صارما لمن يشرب الخمر، وها هى أمة الصين حرقت أفيونا بما يقرب من ثلاثة ملايين جنيه، وهذا رغبة فى تطوير البلاد من تلك الجرائم القتالة، فإلى متى يترك المصريون الخمرة وهى أول شيء يجب أن يستأصل حيث تنفث فيهم سمومها المهلكة».
وشددت «البصير» على أنه «يتعين على المصريين أن يتركوا كذلك القمار، فضرره أعظم من الخمر بتفشيه بين الكبير والصغير، ولا ريب فى أن الخمرة تذهب بالعقول كما يذهب القمار بالثروة، ويا للطامة الكبرى والمصيبة العظمى عندما يجتمعان فى شخص ــ وهو الغالب ــ فيوديان بحياته وثروته إلى الحضيض الأسفل، ولو كان له ملء الأرض ذهبا، فالخمرة أم الفساد.. والقمار أبوالبغى.. ومنهما تتولد الشرور، فلو تسلطا على فقير فماذا يصنع.. أو على ذى عيلة فماذا بعيلته يفعل؟.. لا يجد سندا سوى طريق البغى والفجور.. يسرق ويقتل ويقطع الطرقات».
ويؤكد المقال على أن انتشار هذه الآفات من خمارات وحانات للقمار أدت إلى تراجع المجتمع «فتركنا التجارة يسبح فيها الغربى ويجنى ثمارها اليانعة وقطوفها الدانية، وترك التاجر المصرى نفسه للوسطاء الذين يزجون إليه الردىء من البضائع فى ثوب السلع الطيبة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved