مئوية الأستاذ.. كيف انتقل هيكل من عالم الجريمة والحرب إلى مسرح السياسة؟

آخر تحديث: الأحد 24 سبتمبر 2023 - 10:32 ص بتوقيت القاهرة

محمد نصر

حلت بالأمس الذكرى المئوية لميلاد أستاذ الصحافة المصرية والعربية، محمد حسنين هيكل، صاحب المشوار الحافل بالنجاحات والانتقالات في بلاط صاحبة الجلالة، بدءاً من منتصف الأربعينات من القرن العشرين، ولأكثر من 70 عاما، ليتوج أستاذاً للمهنة، والأطول خدمة في ساحتها.

وفي كتابه "بين الصحافة والسياسة" يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل، بدايات مشواره من جريدة "الإجيبشيان جازيت"، وانتقالا إلى مجلة "آخر ساعة" وبداية علاقته مع رئيس تحريرها وأستاذه الثاني محمد التابعي، وانتقاله من العمل بقسم الحوادث "بالجازيت" ومراسلا حربيا لها، إلى العمل على تغطية البرلمان والمسرح في آخر ساعة، وصولا إلى التحاقه بأخبار اليوم ربيع سنة 1946، والذي جاء في ظروف غريبة على حد وصفه.

خلفية مغايرة..

ويروي الأستاذ كيف كان انتقاله إلى أخبار اليوم، نقطة تحول حدثت بمحض الصدفة، على الرغم من قدومه من "خلفية مغايرة" و"تجربة مختلفة"، مشيرا إلى أن خلفيته المغايرة تمثلت في قضاءه فترة تكوينه المهني الأولى 1942 – 1944 في جريدة "الإجيبشيان جازيت"، والتي كانت من أكبر الصحف الأجنبية التي تصدر في ذلك الوقت، بعدما التحق للتدريب فيها إثر فرصة أتاحها له ولثلاثة غيره من "الشباب الناشئ" مدير تحريرها "سكوت واطسون"، بعد إنهاء محاضرته لهم في "عناصر الخبر" والتي تطرق خلالها إلى ذكرياته في العمل كمراسل في الحرب الأهلية الإسبانية. ووفقا لهيكل فقد استمعوا إليه في "انبهار وشبه خشوع" بعدما طاف بهم في ملحمة بين تضاريس ومعالم تلك الحرب التي قسمت أوروبا بسببها بين فاشية وديمقراطية.

كانت تلك هي بداية انغماس "الأستاذ" في الأجواء العملية لمهنة الصحافة، حيث عمل بين رجلين "كان لهما تأثير واضح" في نشأته الصحفية الأولى، فإلى جانب "سكوت واطسون" والذي وصفه هيكل بأنه كان "مثقفاً يسارياً صاغته تجربة الحرب الأهلية في إسبانيا بكل عناصرها الفكرية والإنسانية العظيمة"، كان هناك "هارولد ايرل" رئيس تحرير "الجازيت" وقد كان وفق وصف هيكل "صحفياً كلاسيكيا قديراً يعمل في نفس الوقت مراسلاً لصحيفة ذا مانشستر جارديان (الجارديان حاليا) في مصر".

ويشير هيكل إلى أنه كان قد بدأ عمله الصحفي ولنحو عام، كمساعد مخبر صحفي بقسم الحوادث، إلى أن اقترح "هارولد ايرل"، على الشبان الأربعة الكتابة عن الحرب كونهم مصريين وتجري الحرب على أرضهم ورغم ذلك فلم يصفها أحد بعين مصرية ولا بقلم مصري، وقد تحمس هيكل للتجربة رغم المخاطرة نتيجة "إعجابي «بواطسون» وتجربته في الحرب الأهلية الإسبانية".

تجربة مختلفة..

في أعقاب ذلك، بدأت وبمحض الصدفة تجربة مختلفة وصفها هيكل بأنها "كانت نقطة تحول"، فعندما كان داخلا إلى مكتب رئيس التحرير «هارولد إيرل» لقضاء أمر متعلق بالعمل، قدمه هارولد إلى أحد ضيوفه وكان «الأستاذ محمد التابعي صاحب مجلة آخر ساعة ورئيس تحريرها»، والذي كان وفق هيكل «رقيقا.. ومجاملا».

تلى ذلك اتصال ودعوة من التابعي للقاء هيكل، الذي قبل الدعوة ليتفاجأ بسؤال التابعي له عن مستقبله قائلا: «كيف ترى مستقبلك؟»، ويشير هيكل إلى أنه كان يتصور أن عمله في الجازيت يكفيه، لكن ووفق هيكل فقد كان للتابعي رأي مختلف: «مهما فعلت في الجازيت فإن المستقبل محصور وضيق فهي جريدة تصدر في مصر بلغة أجنبية». ثم «إن توزيعها بعد الحرب سوف يتقلص بالطبيعة ويعود إلى بضعة ألوف بدلاً من عشرات ألوف»، مضيفاً: «صحفي مصري مجاله في الصحافة المصرية باللغة العربية وبقرائه فيها ... هذا هو المستقبل".

التكوين..

وهكذا كان انتقال هيكل من الجازيت إلى آخر ساعة، لكنه وبحسب هيكل لم يكن سهلا، فقد كان ثمة اختلاف في الرؤى حول مجال التكوين الأنسب، وبحسب هيكل: «ففي حين أن رئيسي الأول "هارولد ايرل" رأى أن "الجريمة" و"الحرب" هما مجال "التكوين" الأصلح والأمثل للصحفي، فإن رئيسي الثاني "محمد التابعي" كان يري أن "المسرح" و"البرلمان" هما المجال الأنسب والأوفق».

ويوضح هيكل مشهد هذا الاختلاف قائلا: «لبضعة أسابيع وجدت نفسي في كواليس مسارح القاهرة بدلاً من ميادين القتال، ثم وجدت نفسي شرفة مجلس النواب بدلاً من محافظة القاهرة التي تصب فيها أخبار كل جريمة تحدث في مصر»، لكنه رجح رأي التابعي بقوله: «ربما كان الأستاذ التابعي علي حق علي الأقل فيما يتعلق بمجلس النواب، فلقد أتاح لي مقعد "أخر ساعة" في شرفة المجلس أن أقترب من أجواء السياسة المصرية ... وكانت تجربة العمل مع الأستاذ التابعي ممتعة ... تعلمت منه الكثير، ولقد وجدتني شديد الاعجاب بأسلوبه الحلو السلس. وفي البداية رحت أقلده».

ويرى هيكل أن تلك الفترة من عمله المهني كانت «فترة العثور على توازن معقول بين ثلاث تأثيرات واضحة تجاذبتني: عقلانية «هارولد ايرل» ورومانسية "سكوت واطسون" ثم حلاوة أسلوب "محمد التابعي».

آخر ساعة..

وفق ما يروي هيكل فقد كانت آخر ساعة في ذلك الوقت مجلة وفدية، وأصبحت آخر ساعة في المعارضة بعد خروج الوفد من الحكم بإقالة 8 أكتوبر 1944 الشهيرة، وأنه قد وجد نفسه في أجوائها أقرب للوفد بحكم طبيعة المصادر المتاحة، لكنه يشير إلى أن ذلك كان مجرد تأثير مناخ وليس نتيجة مؤكدة لاختيار وقرار.

لكن وبعد شهر واحد من إقالة النحاس، صدرت مجلة أخبار اليوم الأسبوعية، ويشير هيكل إلى أن صدورها ونجاحها كان "حدثاً صحفياً وسياسيا ضخما"؛ مرجعاً نجاحها الفوري إلى عاملين أولهما كان سلسلة مقالات مثيرة للأستاذ مصطفى أمين استمرت عدة شهور، تحت عنوان ثابت هو «لماذا ساءت العلاقات بين القصر والوفد؟»، وبحسب هيكل فقد "كانت مقالات حافلة بالأسرار والحكايات والقصص".

أما العامل الثاني وفق هيكل فقد كان الشكل الجديد للمطبوعة، مرجعا الفضل فيه للأستاذ علي أمين، مشيرا إلى أنه كان مستوحى من جريدة «الصنداي اكسبريس» البريطانية إلا أن القارئ المصري رحب به وارتاح له.

وبحسب هيكل، يبدو أن هذا النجاح لأخبار اليوم «حفز الأستاذ التابعي في ذلك الوقت إلى محاولة أخيرة لتطوير آخر ساعة حتى تستطيع أن تقف مع الوفد في وجه المدفعية الثقيلة الجديدة»، وأسباب أخرى محتملة بنظر هيكل «منها أن التابعي كان يعتبر نفسه أستاذاً لمصطفى وعلي أمين، وربما شق عليه معنوياً أن يرى مجلة أسبوعية سياسية جديدة يصدرانها تسبق مجلته وتفوقها بكثير من نواحي عدة».

وبنفسه تولى التابعي عملية التطوير، لكن ووفقا لهيكل لم تنجح تجربة التطوير ليقرر التابعي بعدها "أن الوقت قد حان ليرفع عن كاهله أعباء ملكية مجلته"، وقد كانت أخبار اليوم المشتري الجديد.

مفاجآت..

لم يعلم هيكل بمفاوضات البيع إلا حين دعاه التابعي بداية 1946، ليقول له "كل الأسرار مرة واحدة"، إلا أن مفاجأة البيع لم تكن الوحيدة، فقد فاجأه أستاذه التابعي بقوله: "إنهم يريدون أن أعمل معهم.. أكتب مقالا أسبوعياً في أخبار اليوم". ولكن لم تكن هذه نهاية المفاجآت بحسب هيكل، فقد أضاف التابعي: «وهم يطلبونك أيضا.. لقد أصروا عليك بالتحديد».

لم يوقف سيل المفاجآت بحسب هيكل ففي صباح اليوم التالي، انفتح فجأة باب مكتب الأستاذ التابعي، ودخل منه أحد الملاك الجدد: الأستاذ علي أمين.

ويوضح هيكل بأنه لم يكن قد التقى به من قبل، لكن أمين أقبل فاتحاً ذراعيه يقبله على الخدين قائلا "انه لا يهنئني بانضمامي ‏إلى أخبار اليوم ولكنه أيضا يهنئ أخبار اليوم بانضمامي إليها". وبحسب هيكل فربما لاحظ هو آثار الدهشة عليَّ فقال والحماسة ظاهرة في صوته أنه كان يتابع عملي وكان يتمنى أن أعمل معه في أخبار اليوم، لكنه لم يشأ فيما مضي أن يحرم الأستاذ التابعي من جهودي.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved