مئوية الأستاذ.. لماذا أراد هيكل توديع ساحة السلطة عدة مرات أولها بعد وفاة عبد الناصر؟
آخر تحديث: الأحد 24 سبتمبر 2023 - 10:36 ص بتوقيت القاهرة
محمد نصر
في مقدمة كتابه "باب مصر إلى القرن الواحد والعشرين"، يشير أستاذ الصحافة المصرية والعربية، محمد حسنين هيكل، والذي مرت بالأمس الذكرى المئوية لميلاده، إلى إحدى النظريات الفلسفية التي ترى أن القرون الزمنية لا تقاس بعدد السنين، ولكن بطول الصراعات الفكرية والسياسية والعسكرية الفاعلة والحاكمة في زمانها، ومن ثم فعمر البشر أفرادا كانوا أو جماعات، إنما يكون بعمر تجربتهم الحية والفاعلة في حياتهم. وعلى هذا فربما يكون ما شهده كاتبنا الكبير على مدار حياته، دليل صحة يدعم تلك النظرية، فعلى امتداد مسار رحلته بعالم الصحافة بداية من عام 1942، كان شاهدا على الكثير من الأحداث المفصلية في الواقع المصري والعربي.
مساحة العمر..
وعلى صفحات كتابه "استئذان في الانصراف" يروي هيكل كيف أنه قد آثر الانصراف لمرات، إلا أن تصاريف القدر كان لها رأي أخر، قائلا: "لقد كان يرد على بالي منذ سنوات أن الوقت يقترب من لحظة يمكن فيها لمحارب قديم أن يستأذن في الانصراف، وظني أن هذه اللحظة حل موعدها بالنسبة لي"، مشيرا إلى أن وصوله إلى عامه الثمانين – سبتمبر 2003 – ليس هو القول الأصوب، وإنما "حساب زمان العمل على مساحة العمر".
وقال عن السبب يكمن في تواصل عمله دون انقطاع لأكثر من 60 عاما: "بدأت بالتحديد يوم 8 فبراير 1942"، حين عرض أستاذه في مادة جمع الأخبار "سكوت واطسون" عليه و3 من زملائه "فرصة التدريب العملي تحت إشرافه في جريدة الإجيبشيان جازيت"، وقد كانت وفق هيكل وبسبب ظروف الحرب وزحام الجيوش "أوسع الجرائد الصادرة في مصر انتشارا رغم لغتها الإنجليزية".
بين الحرف والموقف..
ويشير هيكل -وفق تعبيره- إلى أن "الحماسة المشوبة بالنار" التي ميزت شخصية أستاذه – الذي قام بتغطية الحرب الأهلية الإسبانية وزامل "أسماء علت ولمعت في آفاق النجوم من طراز إرنست همنجواي وجورج أورويل" – تكفلت بتعويض النقص في معارفهم، ليسهم ذلك في استيعابهم لتلك "الرابطة الدقيقة العميقة بين الحرف والموقف".
في كتابه يذكر هيكل كيف أنه ولسنوات حاول تنبيه نفسه إلى "مزالق الانتظار"، حيث وضعت لنفسه حدودا لما يكتب مفضلا أن يتساءل الناس "لماذا لا يكتب هذا الرجل – أكثر" بدلا من أن يكون سؤالهم: "لماذا يكتب هذا الرجل – أصلا"، وأنه وعلى نفس المنوال يفضل “أن يتساءل الناس لماذا يستأذن هذا الرجل في الانصراف متعجلا"، بدلا من أن يكون سؤالهم "لماذا يتلكأ هذا الرجل متثاقلا".
المرة الأولى..
ويكشف "الأستاذ" في كتابه ملابسات اللحظة التي ومض في خاطره هاجس الانصراف والابتعاد للمرة الأولى، مشيرا بدقة إلى "مساء يوم 28 سبتمبر 1970، في غرفة نوم جمال عبد الناصر نفسه" عندما كان صديقه مُسجى أمامه "على فراش نومه، وقد تحول في دقائق إلى فراش موته".
ويوضح هيكل أن الفاجعة والأسى لم يكونا السبب وراء هذا الخاطر الذي مر به في تلك اللحظة العصيبة، ولكن كان إدراكه "هول ما جرى بعد فترة من العجز عن التصديق"، مشيرا إلى أن من حضروا تلك اللحظة كانوا 7 أشخاص، وأنه قد لمح أو –خُيل إليه– عندما تلفت حوله ما أثار لديه "ظنونا غامضة".
البشر هم البشر..
ويكمل: "وتردد الكلام همسا في الغرفة عن الإجراءات والترتيبات لهذه الليلة الحزينة وما بعدها، ولمحت في عيون البعض تعبيرات أو إشارات توحى – ربما – بنُذر غير محددة في أجواء هذه اللحظة، لكنها بعد مفاجأة الأحزان قد تصبح خطيرة!"
مؤكدا على أنه من الإنصاف "أن ما لمحته في العيون والإيحاءات لم يكن ظاهرا بوسواس طمع في إرث سلطة.. لأن المنطق الظاهر كان شدة الحرص على الرجل الكبير الراحل والعزم على تكملة مسيرته كهدف مقدس يتسابق الجميع عليها، وفاء بأحقية يستشعرها كل منهم، ويرى نفسه أهلا لها بمسئولية وظيفة أو قرب اتصال، لكن البشر هم البشر وفي أعماق نفوسهم فإن شدة الحرص والتفكير بأفعال التفضيل تحرض أصحابها وتدفعهم إلى سباق يعتقد كل منهم فيه انه الأجدر والأولى وهنا موضع الالتباس وربما الاشتباك".
نذير احتكاك قادم..
وأوضح هيكل أن وساوسه قد بدأت في الانتباه مهموما مما رأى وسمع، بعدما انضم إليهم – السبعة – في صالون الدور الأول ببيت عبد الناصر نحو عشرة رجال "في يدهم مفاتيح السلطة والقرار في البلد، واستؤنف الكلام عن الإجراءات والترتيبات، وعن غد وبعد غد، وما يجري ويكون"، مشيرا إلى أن ما حدث "قد يكون نذير احتكاك قادم حتى وإن حاول البعض تفاديه".
ووفق ما يروي هيكل فقد كان حماسه لمبادئ مشروع عبد الناصر وصداقته له، مرتبطة بثقة مباشرة في شخص عبد الناصر، ولكن وبعد رحيله " فإن علىَّ أن أراجع وبحزم". وتابع: "بدا لي دون من شك أنني لا أريد أن أكون طرفا في صراع، فالسلطة في البداية ليست حلمي ولا بين مطالبي.. النقطة الحرجة في الموقف أن درجة قربي من جمال عبد الناصر، لا تسمح بحياد فضلا عن أن الحياد قرب مصائر الأوطان هرب أو تهرب".
وأضاف: "من ناحية أخرى، لم يكن سرا أيامها أن علاقاتي ببعض أطراف السلطة مشدودة – وخلافاتي مع الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي متوترة – وحساسيتي من تصرفات أجهزة الأمن والتأمين – كما هي في كل العصور – جزءا من التكوين المهني والنفسي لصحفي يتمنى الحرص على تخوم مهنته وتلك أمور تترتب عليها نتائج في أجواء صراع على السلطة لأن الاستقطاب عندها يكون حادا وعنيفا يفرض : إما انحيازا غير مقنع إلى طرف أو عداء لا مبرر له مع طرف آخر، وعليه فأمامي أحد موقفين: إما الانصراف فور تشييع الراحل الكبير إلى مرقده الأخير – وإما الانسياق إلى صراع لا أريده، بوسائل لا أملكها – ولا أريد امتلاكها.
نسمات فجر..
لكن ما حدث وفق ما يروي هيكل، فغداة تشييع جثمان عبد الناصر، بعث هيكل باستقالته من الوزارة إلى رئيس الجمهورية بالإنابة حينها – أنور السادات – ويشير هيكل إلى أن تلك كانت خطوته الأولى نحو "الانصراف" حتى من جريدة الأهرام، لكن وبحسب هيكل فعندما تقابلا في المساء (من السابعة إلى الثالثة بعد منتصف الليل) فتح له أنور السادات قلبه بغير تحفظات "صريحا مع نفسه ومع الحقيقة والظروف والملابسات".
يقول هيكل: "خرجت من قصر العروبة استقبل نسمات فجر 3 أكتوبر 1970، شبه مقتنع بأنه ليس وقت الانصراف من الساحة بعد، مستأذنا أو بغير استئذان (فقد وافق الرئيس المرشح أنور السادات على ما طلبت بشأن الوزارة وكان يعرف قبل غيره أنها تكليف مؤقت لمهمه معينة – ولأجل محدد – سنه لا تزيد – في ظرف رآه عبد الناصر مهيأ لاختراق سياسي يتوازى مع الذروة في حرب الاستنزاف، وعليه فقد وافق السادات على نص استقالتي وكتب بخط يده ردا بالغ الرقة واللطف عليه، لكنه اشترط بقائي في مجلس وزرائه إلى ما بعد الاستفتاء على رئاسته حتى لا يقول الناس "إن أقرب أصدقاء عبد الناصر لم يطق الصبر يوما عليه"، وكان الرجل في ذلك سمحا محبا ومقبلا)، ولم يطل الحديث بيننا عن الأهرام – فقد كان قوله الفصل "إن ذلك هو المستحيل ذاته لأن الأوضاع كما أرى والاحتمالات ما أقدر، ثم إن البلد في حالة حرب، هي بضروراتها أكبر من موقف أي رجل ومن رؤيته لدوره ومن آرائه واجتهاداته!".