محمد عبد الرحيم: ذكريات عُمر أكلته الحروف.. قراءة في سيرة ومذكرات نجيب المانع
آخر تحديث: السبت 26 أبريل 2025 - 7:43 ص بتوقيت القاهرة
«ليست هذه المذكرات دراسة ميدانية يقوم بها بحّاثة اجتماعى، مع أنها ليست خيالا يهذى به مخبول» المانع 86.
«ذكريات عُمر أكلته الحروف» عنوان السيرة الذاتية التى خطّها الناقد والأديب والمترجم السعودى الأصل والعراقى النشأة نجيب المانع (1926 ــ 1991).
قدّمها وطابقها على الأصل الكاتب محمد السيف، ولم نذكر عبارة المطابقة على الأصل اعتباطا، بل لصدور هذه المذكرات أو الكتابة السيريّة فى شكل منقوص، يصل حد الإخلال بالنص الأصلى، وهو ما وضحه السيف فى مقدمته لهذه الطبعة، الصادرة عن دار جداول للنشر ــ نعتمد على الطبعة الثانية الصادرة عام 2023 ــ والذى يقول إن الطبعتين السابقتين طالهما الكثير من النقص والتداخل والتشويش، رغم أن هذه المذكرات نشرت متواترة أسبوعيا فى جريدة الشرق الأوسط اللندنية ــ نشرت الحلقة الأولى فى 24 مايو 1988 ــ فطبعة دار الرافدين الصادرة عام 2019 ركيكة ولا تمت لأسلوب الرجل بصِلة، حتى أن مقدمته لم تكن مقدمة فى الأصل، بل مقال منشور فى جريدة الحياة فى 2017، ودون معرفة كاتبة المقال التى كانت تنتقد فيه طبعة سابقة من الكتاب! وتقصد طبعة دار الانتشار العربى الصادرة قبل طبعة الرافدين بعشر سنوات 1999، والتى شابها بدورها الكثير من الحذف والتداخل بين الحلقات المنشورة كما وردت بالجريدة.
لذا.. أعاد محمد السيف ضبط النص وتحريره، حتى كتب على الغلاف أنه (النص الأصلى والكامل)، إضافة إلى هوامش وملاحق شارحة، حتى يصبح الكتاب جديرا بالانتماء إلى صاحبه. مع ملاحظة أخيرة يوردها السيف فى مقدمته، وهى أن نجيب المانع لم يكن ينتوى كتابة مذكراته، لولا إلحاح رئيس تحرير الشرق الأوسط وقتها سلطان العمير. لا مذكرات «قرأتُ مذكرات ذوى الشأن من وزراء ومسئولين وكتّاب وشعراء عرب، فماذا وجدت؟ ليس فى أى منها اعتراف بالتقصير... كلهم حسنو التكهن، جيدو الحكم على الأشياء، متعمقون فى الفهم، مدركون لما حدث إدراكا صحيحا سليما» 95.
ربما هذا ما جعل المانع يرى فى هذا الشكل الكتابى وجهة أخرى، فلم يقتصر على ذِكر الشخصيات حسب صورتها التى تحب، أو نقد الأحياء وحتى الأموات من باب اذكروا محاسن موتاكم «فإذا تعذر على كاتب السيرة والسيرة الذاتية أن يعالج الأحياء والأموات، فماذا يبقى له سوى ذاته هو... حتى يجعل القارئ يسأم هذا الاستعراض النرجسى لأفعاله وأقواله وسحنته» 34. كما أنه لا يكتب مذكراته بالطريقة المعهودة، حيث التتابع الزمنى «على غرار اللامذكرات أكتب مذكراتى عائدا للصبا حينا، وقافزا للشيخوخة حينا آخر وراجعا إلى ظهيرة أيامى… وسوف أحتال على أسماء الأحياء فأخفيها كما تختفى داخل رواية من الروايات الخيالية إلا إذا كانت الضرورة تقتضى غير ذلك» 35.
الأسى والوعى المفقود «أنا السعودى ترعرعت فى العراق، إذ ولدت فى بلدة الزبير. وهى تقع فى الجانب الصحراوى من مدينة البصرة، المفعمة نواحيها الأخرى بالمياه والبساتين، حيث تقع هناك أوسع غابة للنخيل فى العالم» 20.
من هذه البداية يبدأ الرجل حكايته، ومسيرة النضال المتجسد فى الذهاب إلى المدرسة فى البصرة، ثم الجامعة بعد ذلك فى بغداد. فى تلك الفترة كانت القراءة هى ما تجمعه والأصدقاء، الذين استفاد منهم كثيرا فى هذه السن، بعيدا عن تعليم المدارس.
ينتقل المانع إلى الأجواء الأدبية فى عصره وسماته، بداية من الأسى الذى يتنفسونه .. «أخذوا يحتضنون الأسى والمعاناة، وكتبوا وهم فى العشرينيات من أعمارهم كتبا ودواوين تشى بأنهم شيوخ أبهظهم الهم الأكبر، هم الوجود الثقيل. ومن عناوين دواوينهم المنبئة عن شعورهم بالغثيان أو استيائهم أو اسوداد دنياهم (أزهار ذابلة) للسياب، (خفقة الطين) للحيدرى، و(أغانى المدينة الميتة) و(أباريق مهشمة) للبياتى» 28.
ومن هذه الحالة تبدو الرومانتيكية العراقية فى ذلك الوقت، والتى يصفها الرجل بدقة وروح ساخرة، بأنها «الرومانتيكية التى تجد الصحة فى المرض، وترى الاضطراب النفسى هو الطريق المؤدى لمتانة الروح وبهائها» 29.
وعن تصدّر أنصاف الموهوبين وأصحاب الصوت العالى للمقاهى الأدبية، وكأنهم كهنة الأدب، وهو ما لم يتغيّر كثيرا حتى الآن، حيث الادعاء والكراهية وعبادة الذات، يعقد الرجل مقارنة بين إحساسه بهؤلاء فى شبابه وإحساسه بضحالة موهبتهم وتفاهتهم الآن، كاشفا من خلالهم عن أزمة مزمنة يتنفسها العرب «وجدت أننا نحن - العرب - الحديثين نخاف أن نواجه حقائقنا، بل نخاف أن نقول إننا خائفون، ولا يرقى ذكاؤنا إلى معرفة حدود ذكائنا. فصار الكذب على الذات قبل الكذب على الناس هوية وإنجازا وإشارة وحركة وتعبيرا وصياغة ومجدا» 32.
طه حسين والعقاد قرأ الرجل لهما، وتأثر وثار، كاشفا بعض الملاحظات اللافتة، كالمدرسة الفرنسية التى مثلها طه حسين واقتصرها على ديكارت وأسلوبه، والمدرسة الإنجليزية التى كان العقاد صوتا لها، بثقتها ويقينها الغريب .. «أحسست أن أسلوب طه حسين هامس معتذر يدق باب القارئ، فهو يريد صداقة القارئ. أما أسلوب العقاد فمقتحم توكيدى يقول القول الواثق وليذهب القارئ إلى الجحيم، إنه لا يطرق باب القارئ كصديق، بل كدائن أو كممثل لجهاز الأمن، أو كشخص عهد إليه أمر إلقاء القبض على القارئ» 81.
وبداية هذا الحديث والمقارنة بين حسين والعقاد كانت بخصوص المتعلم الأكاديمى والمتعلم الذاتى. السياب وتولستوى فى هذه الحكاية يتضح أسلوب ووجهة نظر المانع فى الكتابة، فهو لا يحكى قصصا، ولكنه أميل إلى التعليق والاستنتاج. فهو يتساءل مثلا .. لماذا تبدو أشعار شاكر السياب هكذا، وهو يمتلك قدرة على سرد النوادر عن أقاربه وقريته، قدرة فكاهية لا تكشف عنها أشعاره؟ فيجيب بعدها بأن طبيعة هذه الحكايات التى لا تظهر فى القصائد، كان لها تأثير بالغ فى شعره «لا من حيث الفكاهة، ولكن من حيث فهم التزوير على الذات والمداورة على الأيام» 54.
ثم يستشهد المانع بحكاية سمعها من خلال السياب عن جد الأخير، وهو يصادق رجلا فى مثل سنه، يقترب من الثمانين، يقرأ عليه كل ليلة من كتاب الحيوان للدميرى، ومع الأوراق المهترئة والمصباح شحيح الإضاءة، أخطأ الجد فى قراءة كلمة، فحاول الصديق المستمع كتلميذ مطيع، والذى يعمل مراكبى المساعدة فى استنتاج الكلمة، فما كان من الجد إلا نهره، فكيف لهذا الجاهل الأمى أن يصحح له كلمة. هنا تتوقف الحكاية ويعلق السياب عليها بأن «بعض الناس عندما يشيخون يغامرون بخسارة كل شىء، فالأيام قاربت النهاية، والشئون البشرية وصلت لآخر مطاف لها، ولم يبق لذلك الجد من صديق حى سوى عجوز مثله فى انتظار الصمت الأخير، فأخذ ينتهز كل فرصة ليصرخ صراخا مجنونا قبل هجعة الموت» 56.
ومن وجهة نظر السياب للحكاية، يلتقط المانع تفسيرا آخر أشد قسوة، وهو يربط بين جد السياب وشخصية من رواية (الحرب والسلم) لتولستوى، فهناك عسكرى متقاعد، عجوز وطيب، لكنه كان سريع الانفجار. ليقول المانع «هل تتصرف الحضارات الشائخة على هذا المنوال؟ تصرخ فى غير حاجة، وتعتدى على مَن يجدر بها أن ترعاهم، وتخطو نحو النهاية خطوات متعسرة، وإن تكن مشحونة بثقة كاذبة؟» 56
كاتب مصرى