فجر الإسلام (4).. كيف بدأت تجارب تفسير القرآن؟

آخر تحديث: الأحد 26 مارس 2023 - 12:29 م بتوقيت القاهرة

قبل نحو 15 قرنا من الزمن، قاد النبي محمد -صل الله عليه وسلم- رسالة الإسلام من قلب شبه الجزيرة العربية، وبدأ بلاغه بالأقربين من أهله وأبناء قبيلته ومجتمعه، ثم كانت الهجرة للمدينة المنورة بمثابة توسع لرسالة الإسلام، وتأسيس دولته بمكونات فكرية وحضارية.

ومع تمدد الدولة الإسلامية، زاد التأثر والتفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى، ووثقت الكتابات والمراجع التاريخية الأحداث التي جرت في تلك الحقب، وتناولها المفكرين بالتحليل.

ومن بينهم كان الكاتب أحمد أمين حين أصدر كتابه "فجر الإسلام"، وأرّخ من خلاله فترة حيوية من التاريخ الإسلامي، حيث يتعقب فيها الحياة العقلية منذ صدر الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية، ونتناول أجزاء منه في حلقات مسلسلة على مدار أيام الثلث الأول من شهر رمضان المبارك.

وإلى الحلقة الرابعة..

تناولنا بالحلقة السابقة، الجانب المتعلق بالفكر والثقافة والهوية للمجتمع الإسلامي، حيث أمر النبي -صل- بعض أصحابه أن يتعلموا اللغة العربية، لكتبة للوحي، فكانوا يكتبون على الرِّقاع والأضلاع وسَعف النخل والحجارة الرِّقاق البيض.

وتمسك المسلمون، بوصايا نبيهم بعد وفاته، ونشطت حركات التدوين والكتابة والحفظ، فقد نزل القرآن مُنَجَّمًا على رسول الله في نحو 20 سنة، وكان ينزل حسب الحوادث ومقتضى الحال، وتُوفي رسول الله ولم يُجمع القرآن في مصحف، بل كان في صحف مفرَّقة كتبها كتَّاب الوحي؛ لذا أوجبت الضرورة لكتابته وجمعه وهو ما تبناه عمر بن الخطاب، وعددا من كبار الصحابة، في عهد الخليفة أبي بكر.

ومع استقرار وألفة وجود نسخ مكتوبة ومحفوظة من القرآن في الأمصار الإسلامية، بدت حاجة لزيادة خدمة القرآن بتفسيره ووضع شروح لمعاني آياته، بخاصة مع وصول الإسلام لأجناس ومجتمات لا تعرف العربية.

• التفسير المنقول

يتحدث أحمد أمين في كتابه عن نوع أنواع التفاسير، وهو التفسير بالنقل، والذي يعتمد على ما نُقل عن النبي، مثل الذي رُوي أن رسول الله قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومثل ما رُوي عن عليّ قال: سألت رسول الله عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم النحر، وما رُوي أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرّهما … إلخ، وهذا النوع له أمثلة كثير وردت منه أبواب في كتب الصحيح الستة، وزاد فيه القصاص والوضَّاع كثيرًا، ونقد ذلك علماء الحديث، فمنها ما صححوه، ومنها ما ضعفوه، وأهم ما يدل على دخول الوضع في هذا الباب أنك ترى في الآية الواحدة تفسيرين متناقضين لا يُمكن أن يصدرا عن رسول الله، مثل الذي رُوي عن أنس أن رسول الله سُئل عن قوله تعالى: وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قال: القنطار ألف أوقية، ورُوي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: القنطار اثنا عشر ألف أوقية، أخرجه الحاكم.

وتابع أمين: "وبمرور الزمان تضخم هذا التفسير المنقول، فدخل فيه ما نُقل عن الصحابة والتابعين؛ وهكذا، حتى كانت كتب التفسير المؤلفة في العصور الأولى مقصورة على هذا النحو من التفسير".

وأشار إلى أن مصادر التفسير الاجتهاد، وإن شئت فقل الرأي، يعرف المفسر كلام العرب ومناحيهم في القول، ويعرف الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد في مثله من الشعر الجاهلي ونحوه، ويقف على ما صح عنده من أسباب نزول الآية، مستعينًا بهذه الأدوات ويُفسرها حسب ما أداه إليه اجتهاده، وكثير من الصحابة كان يُفسر الآيات من القرآن بهذا الطريق، مثل كثير مما ورد عن ابن عباس وابن مسعود، فمثلًا يُفسر المفسرون الطور في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، بتفسيرات مختلفة: فمجاهد يُفسر الطور بالجبل مطلقًا، وابن عباس بجبل بعينه، وآخر يقول: إن الطور ما انبتَّ من الجبال، فأما ما لم ينبتَّ فليس بطور؛ فهذا الاختلاف نتيجة اختلاف في الرأي، لا نتيجة اختلاف في المنقول، وقد اختلفوا في معاني الآيات خلافهم في معاني الألفاظ.

• التفسير بالاستقصاء

وهناك منبع آخر من منابع التفاسير استمد منه المفسرون كثيرًا، ذلك أن شغف العقول وميلها للاستقصاء دعاها عند سماع كثير من آيات القرآن أن تتساءل عما حولها، فإذا سمعوا قصة كلب أصحاب الكهف قالوا: ما كان لونه؟ وإذا سمعوا فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، تساءلوا: ما ذلك البعض الذي ضَرَبُوا به؟ وما قدر سفينة نوح؟ وما اسم الغلام الذي قتله العبد الصالح في قصة موسى معه؟ وإذا تُلي عليهم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ، قالوا: ما أنواع هذا الطير؟ وما هي الكواكب التي رآها يوسف في منامه؟ وكذلك إذا سمعوا قوله تعالى في قصة موسى مع شعيب سألوا: أي الأجلين قضى موسى؟ وهل تزوج الصغرى أو الكبرى؟ وهكذا؛ كذلك كانوا إذا سمعوا إشارة إلى بدء الخليقة طلبوا بقية القصة، وإذا تُليت عليهم آية فيها إشارة إلى حادثة لنبي لم يقتنعوا إلا باستقصائها.

اقرأ أيضا: فجر الإسلام (3).. كيف دعمت الوصايا النبوية التواصل الحضاري وحفظت الهوية؟

وغدا نلتقي في حلقة جديدة..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved