د. مصطفى الفقي يكتب: السودان يتعافى

آخر تحديث: الإثنين 26 أبريل 2021 - 6:57 م بتوقيت القاهرة

العلاقات مع مصر متجذرة فى الأعماق على الرغم من كل ما يعتريها من مشكلات طارئة أو أزمات عابرة

السودان قطر عربى أفريقى له خصوصية ينفرد بها باعتباره المعبر التاريخى بين القارة السمراء والوطن العربى، فضلا عن التعددية بين أقاليم ذلك القطر الكبير، فهو بلد دارفور وكردفان وغيرها من المسميات التاريخية التى عاصرت عهود الاستعمار والاستقلال، وظهر اسمه منذ التاريخ المبكر لهذه الدولة التى لعبت دورا كبيرا فى العلاقات الوثيقة مع دولة الشمال مصر، وتأثير ذلك فى مفهوم وحدة وادى النيل ووجود بريطانيا شريكا ثالثا فى التاريخ الواحد لدولتى مصب النيل السودان ومصر. ويتميز السودان بالتنوع الجغرافى والتمايز الإقليمى، خصوصا قبل انفصال الجنوب عن الشمال إثر صراع طويل فى ميادين القتال وقاعات المفاوضات. إن السودان بلد ثرى بالموارد الطبيعية، فالأرض خصبة والمياه وفيرة، أو هكذا كانت، والشعب السودانى يتميز بثقافة ترتبط بتاريخه وبمكوناته السكانية وتطورات القوى الوافدة على عاصمته المثلثة الخرطوم، وهو أيضا بلد الشعراء والرواة بدءًا من التجانى يوسف بشير، شاعرا، والطيب صالح، روائيا، وصولا إلى علماء السودان المعروفين. ولقد قرأت شخصيا فى فترة حصولى على الدكتوراه من جامعة لندن، كتاب الدكتور جمال محمد أحمد الذى يعتبر مرجعا فى فرعه وحجة فى موضوعه، كما أننى أعجبت بالكثيرين من أشقائنا فى السودان، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، وفى مقدمتهم الراحل ذو الحسب والنسب السيد الصادق المهدى الذى كان شخصية دولية وإسلامية وعربية وأفريقية، عبرت حدود البلد إلى المجتمع الدولى كله، كما أن كاتبا مثل الدكتور منصور خالد، بغض النظر عن تقييمنا لتوجهاته السياسية، هو شخصية جديرة بالتأمل، مثيرة للجدل. وقد عرفت من الأشقاء السودانيين أيضا فى الميدان السياسى والدبلوماسى حزمة رائعة يفخر بها العالمان العربى والأفريقى. إننى أتذكر وزير الخارجية الأسبق مصطفى عثمان إسماعيل وآخر سبقه وهو إبراهيم طه أيوب، الذى كان سفيرا للسودان فى الهند حينما كنت مستشارا للسفارة المصرية هناك، والذى أعتزّ بصداقته كثيرا لصفائه ونقائه ووضوح شخصيته. ولقد ربطتنى بالسيد الصادق المهدى علاقة طويلة حتى رحل عن عالمنا بسبب وباء كورونا الذى انتزع من البشرية شخصيات مرموقة فى ظروف صعبة، وأنا سعيد أن ابنته مريم هى وزيرة خارجية السودان حاليا، وذلك أقل ردّ اعتبار للبيت العريق الذى تنتمى إليه.
هذه مقدمة أردت بها توصيف الأوضاع فى السودان من خلال علاقتى الشخصية ومنظور صداقتى ببعض أقطاب ذلك القطر الغالى، الذى يدرك جوهر الديمقراطية الحقيقية ويؤمن بحرية الرأى إيمانا شديدا قبل أن يبتليه الله ببعض الجماعات المتطرفة والجبهات المتشددة، التى حاولت تغيير مسار السودان والعبث بهويته. وأنا أتذكر هنا الرئيس السابق عمر البشير وكراهيته العميقة للإقليم الشمالى من وادى النيل، وأعنى به الدولة المصرية حتى حاول دائما تسميم العلاقات بين القطرين التوأم، وسعى إلى تغذية النعرات التى خلّفها الاستعمار البريطانى بين البلدين الشقيقين. وأنا أعترف بأن لى مشكلة شخصية مع الرئيس الأسبق عبّرت من خلالها عن وجهة نظرى فى فترة حكمه وذلك أثناء وجوده فى السلطة. وقد لا يكون من الفروسية أن أستطرد هنا فى ذكر سيّئاته وتعداد أخطائه، ولكن السودان الجديد بدأ يتعافى على الرغم من الظروف المعقدة والبيئة الدولية الصعبة والمناخ الإقليمى المتوتر بعد أحداث تشاد الأخيرة وتحديات العلاقات بينه وجيرانه، خصوصا مع إثيوبيا حيث مشكلة الحدود بين البلدين، فضلا عن الأزمة المعقدة فى موضوع سد النهضة والملابسات التى ارتبطت بها والتداعيات المنتظرة عنها، ويهمنى أن أسجل هنا الملاحظات التالية:
أولا: إن السودان هو أكبر الدول الأفريقية مساحة، كما أنه سلة الغذاء للمنطقة بفضل خصوبة الأرض والمساحات الشاسعة الصالحة للزراعة فيها، فضلا عن المياه التى كانت وفيرة دائما. ولقد ساقتنى الظروف فى مهمة رسمية كى أزور مدينة ملكال التى أصبحت واحدة من مدن دولة جنوب السودان، وراعنى يومها ذلك الفقر الشديد والتدنى الواضح فى مستوى المعيشة ونمط الحياة. ووجدت أن كل ما لديهم من مصر أنها بنت مسجدا هناك إبان العصر الملكى، وهو يحمل اسم الملك فاروق، ولكن لم تكن هناك جهود للنهوض بالسودان المتحد على نحو يغرى بتماسك الدولة واستمرار وحدة أراضيها، بل كان العكس صحيحا على ما يبدو.
ثانيا: إن للسودان مواقف أفريقية وعربية وإسلامية مشهودة، بل وتعتبر نقاط تحوّل فى الأدوار المختلفة لتلك الدوائر من الهوية السودانية. فالخرطوم التى خرجت فى أغسطس (آب) 1967 لتحية الرئيس الراحل عبدالناصر فى أعقاب هزيمة يونيو (حزيران)، كانت بمثابة التحول الحقيقى لمعنويات القائد وجيشه وشعبه، خصوصا أن السودانيين معروفون بالصراحة والشفافية، ويجاهرون بآرائهم بشجاعة ولا يعرفون النفاق الذى تتميز به شعوب أخرى. لذلك كان مؤتمر القمة العربية فى الخرطوم هو نقطة التحوّل الكبرى تجاه الهزيمة النكراء.
ثالثا: إن السودان يتجه إلى تغييرات راديكالية كبرى فى شأنه الداخلى وعلاقاته الخارجية، ويبحث جادّا عن طريق جديد يخرج به البلاد من عنق الزجاجة التى جرى حشره فيها، عندما كان متهما بإيواء الإرهاب والتستر على العنف والسعى لتكريس دور الجبهة الإسلامية للانفراد بالحكم من دون القوى السياسية الأخرى فى البلاد. وحسنا جاء قرار رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكى يعيد لذلك البلد الأصيل رونقه الفكرى والثقافى وتألقه السياسى والاجتماعى. فلقد عرف السودان عبر تاريخه الطويل شخصيات مؤثرة منذ بروز الحركة المهدية، ودور المهدى الكبير وخلفائه إلى جانب دور الختمية وأبناء السيد الميرغنى فى إحداث توازن حول السلطة فى الخرطوم، على اعتبار أنهما جماعتان سياسيتان ولكن فى إطار دينى. ولا ننسى أن الإمام المهدى الكبير كان يريد مقايضة عرابى فى منفاه مع جوردون البريطانى قبل مصرعه. لذلك فإننى أحسب أن العلاقات المصرية السودانية متجذرة فى الأعماق على الرغم من كل ما يعتريها من مشكلات طارئة أو أزمات عابرة. والمصريون يدركون دائما أن السودان هو العمق الاستراتيجى لهم وعندما وقعت نكسة يونيو 1967، لم تجد مصر مكانا آمنا لطلاب كلياتها العسكرية غير منطقة جبل الأولياء فى السودان الشقيق.
رابعا: إن أزمة سد النهضة والمخاطر المشتركة التى تحملها إلى دولتَى المصب السودان ومصر كفيلة بإحياء روح الأخوة التاريخية وإنعاش الذاكرة الوطنية فى كل من البلدين، اللذين تربطهما أقوى الوشائج وأعمق الروابط، خصوصا أن التعنّت الإثيوبى يستهدف البلدين معا، ويسعى باستماتة فى هذه الفترة إلى دق إسفين بينهما والعبث بالعلاقات التاريخية التى تربط بين القاهرة والخرطوم، لأن نجاحها فى ذلك يجعل أديس أبابا قادرة على تحقيق مخططها الخبيث، الذى تدعمها فيه قوى أجنبية لا تحب العرب ولا الأفارقة.
خامسا: إن وعى القيادة السودانية الجديدة ووطنية الجيش السودانى تبعثان على الطمأنينة، لأن السودان دولة تمرّست على السياسة والحكم من خلال ما مرت به من مصاعب وما واجهته من تحديات، لذلك فإن قدرتها على عبور الظرف الحالى من منطلق وطنى وقومى يجعل الأمر أكثر تفاؤلا وأقل تشاؤما. فالمخاطر واحدة ونحن فى مصر والسودان نتمنى للأشقاء فى إثيوبيا التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر، ونأمل منهم أيضا الابتعاد عن العبث بحصة النهر لدولتَى المصب، لأن ذلك يؤكد المعنى الواضح للوحدة الأفريقية التى يتولّى اتحادها محاولة رأب الصدع والخروج من المأزق فى تماسك وتضامن، وفقا للشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولى المنظمة للعلاقة بين الدول المتشاطئة على أنهار عابرة للحدود.
إننا نأمل أن يكون تعافى السودان الشقيق لطمة لكل الطامعين فى الموارد الأفريقية والعربية، خصوصا المياه أو الأرض، فهما عنصرا الحياة فى كل زمان ومكان.


نقلا عن إندبندنت عربية

مصطفى الفقى كاتب وباحث

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved