انتشرت في الآونة الأخيرة جملة مفادها أن من يستطيع أن يروي الحكاية هو وحده من يملك الحقيقة. وبالرغم من أننا نعلم الهدف من وراء الجملة التي انتشرت بالتزامن مع الحرب الأخيرة على غزة بأن الكيان الصهيوني يجيد صنع الحكايات فيصدقه العالم حتى جاءت الأحداث الأخيرة وكشفت زيف حكاياتهم وادعاءاتهم، لكن ظلت تلك الجملة تتردد فيما بيننا، ولا نعرف سبب محدد لذلك، فهناك حتما أسباب كثيرة.
لكن تظل هناك حقيقة لا تقبل التشكيك فيها، هي أننا تغافلنا عن الحكايات وتركناها حبيسة النفوس والكتب حتى استطاع مزور التاريخ أن يتشدق بحكايته في كافة المحافل الدولية التي لم ترفض الحكاية حتى لو لم يصدقونها، ثم جاءت الأحداث الأخيرة التي أخرجت حكايتنا الحقيقية من سجوننا الاختيارية، فهذا التغافل كان خطأنا التاريخي الفادح.
هذا الخطأ هو ما أدركه يوسف بطل أحداث رواية سماء القدس السابعة للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة الصادرة عن منشورات المتوسط في أكثر من 600 صفحة، والتي جاءت ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربية لهذا العام 2024.
فقد أدرك يوسف هذا السائق البسيط ابن قرية العين التابعة لمدينة القدس العريقة أن الحكاية يجب أن تروى وتوثق لا من خلال الكتب فقط بل في عقول وضمائر الأبناء من الأجيال الجديدة، كي يتعلموا توثيق ما يعايشونه يوميا ذلك أهم لهم ولوطنهم من التباكي على ما حدث، وهو ما عكف على فعله منذ اللحظات الأولى التي تبعت نكسة 1967 الطامة الكبرى التي قسمت ظهر القضية الفلسطينية وأدمت النفوس العربية حتى الآن.
مهلا عزيزي القاريء فالكاتب لا يلقي باللوم هنا على جيش بعينه أو دولة عربية دون غيرها، كل ما هناك أن الاحتلال الإسرائيلي استغل هزيمة مصر التي تمثل هزيمة عربية كاملة وسيطر على البقية الباقية من القدس وقطاع غزة فقضي على أي أمل لدى المواطن الفلسطيني في ذلك الوقت بالخلاص على المدى القريب وهو ما كان بالفعل.
تبدأ أحداث الرواية من قصة تبدو وكأنها حكاية من حكايات التراث القديمة فالراوي يحدثنا عن السبع الذي طربل أي أخفق في زواجه الأول فكان ذلك وبال على قريته بالكامل، فعلى العكس مما يحدث دائما في تلك الحالة من أن يصبح مصدر سخرية وتندر أهل القرية، أصبح مصدر لليأس والخوف، أصيبت القرية بالفزع، وشرع كل منهم يبحث عن حل لسبعهم حتى أبواب السحرة والدجالين لم يترددوا في طرقها لعل الحل لديهم، فكيف يخفق ذلك الشاب الذي كان حديث البلدة في الشجاعة والقوة والمثابرة وشدة البأس، وتشهد شوارع القدس على ذلك.
سرعان ما تأتي الإجابة على لسان الراوي بأنها النكسة التي كانت أملهم الأخير في العودة، فكيف يمكن أن يستأنف الإنسان حياته الطبيعية بعد أن شهد وطنه يسرق قطعة بقطعة دون إرادة منه أو رغما عن محاولاته المخلصة في حمايته، فقد كان السبع وهذا هو اسمه وكنيته من الرجال الذين قاوموا فشهد الجيوش وهي تهزم وتتقهقر للخلف، وشهد المذابح والتطهير العرقي والقتل الممنهج والعشوائي أيضا، والرجال وهم يفرون دون حيلة والمنازل وهي تفقد أصحابها، فهل يمكن أن يعود كما كان بعد ذلك هل يظل شيء كما كان؟! فقد فقدت الوجوه طبيعتها والمدينة أيضا.
بمرور الأحداث نشعر أن السبع هو رمز لتعساء الحظ الذين ظلوا أحياء بعد معايشة قسوة الحرب ومرارة الهزيمة، رمز لمن لم يستطع تجاوز انكساراته وهو مثال حي لما يمكن أن تتركه الهزيمة في النفوس، وهو رمز أيضا للجهات التي أخفقت في حماية شعوبها، أما عن أهل قريته فهم لا يعبرون عن الجهل كما قد يظن البعض بل هم كناية عن الشعوب المجاورة أو الشعوب الحرة من حول العالم التي استشعرت في هزيمة فلسطين هزيمة شخصية لها وتخوفت من أن تلقى نفس المصير في يوم من الأيام وإن كانت تمتلك من قوة السلاح والتكاتف ما يستحيل معه أن تصل لنفس المصير فلم يحول ذلك دون انشغالهم بالشأن الفلسطيني، فالقضية الفلسطينية بالنسبة لهم هي مبدأ إنساني اختيار يومي للضمير الإنساني.
وهكذا على مدار أحداث الرواية لم يستطع السبع الفكاك من شراك هزيمته سوى في لحظات يجمع فيها أهل قريته يروي لهم ما حدث خلال الحرب وبعض بطولات المقاومة ورصد أسباب الهزيمة الحقيقية، ليؤكد الكاتب من خلال هذه النقطة على المحور الأساسي للرواية وهو الحكاية حتى وإن كانت عن الهزيمة.
قرر يوسف وسط هذا التخبط أن يمسك بيد كافل طفله الوحيد ويصطحبه في رحلاته اليومية من قرية العين إلى القدس حيث يعمل في موقف المصرارة.
بالوقوف أمام هذا الجزء الذي يعتبر تعريف مكمل لشخصية البطل ندرك أن له بعد أكبر من ذلك، فالعمل كسائق يكسب صاحبه القدرة على حفظ دروب المدن وسيرة سكانها وهم يتنقلون يوميا من مكان إلى آخر، ولا يحفظ الطرق الرسمية فقط بل يحفظ عن ظهر قلب الطرق غير الرسمية وهو ما كان بالفعل حين تغيرت بعض الطرق إلى القرى عقب سيطرة الإحتلال عليها فلم يمنع ذلك يوسف من استمرار رحلاته اليومية، فضلا عن أن المصرارة كموقف للسيارات هو مكان يعج بالناس مختلفي الوجهة وبالتبعية المزيد والمزيد من الحكايات التي ترى من خلالها التغيرات التي بدأت تطرأ على المجتمع الفلسطيني وهذه حكاية أخرى لم يغفلها الكاتب بل حفظ لها مكانها جنبا إلى جنب مع الحكايات التاريخية فما يحدث يوميا أمام الأبطال وبينهم سوف يتحول هو الآخر إلى تاريخ هم شهداء عليه وهو ما كان بالفعل.
فكان يوسف يشارك في الحدث ويشهده طفله كافل فيحفظه في ذاكرته بجانب ما يحدثه عنه والده، يروى له تاريخ القرى وتاريخ مدينة القدس بالتحديد التي يحاول الكيان الصهيوني تشويهها، وكان من أهم هذه الأحياء التي تحدث عنها هو الحي المغربي أو باب المغاربة الذي قام الاحتلال الصهيوني بتدميره بالرغم من ادعائهم أنهم هنا للحفاظ على قدسية المدينة وهو أمر يدعو للسخرية وأحد أكاذيبهم المعروفة عنهم وعن أي احتلال، فالمحتل دائما يأتي وفي يد يحمل سلاح وفي الأخرى كتاب مقدس! لكنه سرعان ما يشهر السلاح أم الوجوه لكي يضع بصمته على المدينة وقد تمثل ذلك في هدم حي المغاربة.
هذا الجزء يأخذنا إلى أبواب مدينة القدس وأسباب تشييدها والعقبات التي كادت تحول دون ذلك، ومنها يذهب الكاتب لرواية جانب هام من حياة القدس كمدينة تسبب في شقائها وإراقة الدماء على أبوابها، وهو النزاعات التاريخية التي يشهد عليها تراب المدينة وتتمثل في العديد من جيوش الاحتلال التي غزت المدينة كل منهم يتعلل بالقدسية، بأسباب دينية، يشرح الكاتب الأسباب والنتائج، ويروي حتى الأساطير التي كتبت عن ذلك وتحتمل الصدق والكذب أيضا.
لم يكتفي الكاتب من هذا الجزء بما يرويه يوسف فطرق أبواب الجدة والأم فهن يتناقلن الموروث الشعبي والديني أيضا جنبا إلى جنب ليحفظن التراث ويحافظن على بركة البيوت، فكانت جلسات كافل مع والدته التي أخذتنا إلى جوانب أخرى من حكايات فلسطين ومن حكموها من حكام يستند إليهم الكيان الصهيوني في أكاذيبه، كحكايات النبي سليمان، وكافة الأنبياء ممن بعثوا في بني إسرائيل، أما الموروث الشعبي فكان مهمة والدة السبع ترويه للصبي كافل وأمه للتصبر على الأوضاع الراهنة وأن النصر آتي لا محالة فنتعرف على أسباب الحكايات التي اشتهرت بها القرى ويتندر بها الشعب العربي حتى الآن فتدل على ثقل وأصالة الموروث الفلسطيني.
في هذا الجزء ووسط تتابع الأحداث حتما يتساءل القراء عن مدى قدرة طفل على تقبل هذا القدر من الحكايات؟
تكمن الإجابة في أن ذاكرة الطفولة غير مشوشة بأعباء الحياة فيمكنها تقبل الكثير خاصة إذا جاء في ثوب حكاية، فالحكاية هي ما يؤسس هوية الطفل، لكن هناك جانب آخر فهذا قدر الطفل الفلسطيني الذي ولد وعاش وسط هذه الأحداث، وهذا ما نستشعره من رغبة الطفل كافل في معرفة المزيد من الحكايات التي يرويها والده بل كان يذهب إلى أبعد من ذلك ويطرح العديد من الأسئلة التي تفتح الأبواب أمام المزيد والمزيد من الحكايات التي كان يشفق الأب عليه من ثقلها وقسوة أحداثها، لذلك لن نتعجب بعد الآن من قدرة الطفل الفلسطيني على احتمال ما يعانيه ونرى شواهده يوميا على شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي.
تستمر جولات الأب والابن من وإلى المدينة فنتعرف على حكايات وادي حلوة، ونشهد تاريخ قصر العرعور، وأحياء البقعة، الثوري وتلبيوت، وتاريخ مخيم الدهيشة، وحكاية مقبرة اليهود التي ترمز ليهود فلسطين! ثم نشهد حكايات دير السريان، ومنزل عائلة البرامكي الذي مازالت واجهته تحتفظ بآثار رصاصات المقاومة.
بمرور الأيام لم يصبح الأب هو مصدر الحكاية فقط فالطفل يكبر وتتسع خطواته وتتزايد الأسئلة ليبدأ رحلاته الخاصة التي تجمعه بالطفلة لور سليلة واحدة من أكبر العائلات المسيحية بالقدس فتروي هي الأخرى جانب آخر من حكايات المدينة، تاريخ الكنائس والأديرة، وفي لقاءاتهم اليومية يصطدمون بعمليات الحفر خلف سور القدس الجنوبي التي قامت بها هيئة الآثار التابعة للكيان الصهيوني فإذا بتاريخ آخر يصدم هذا الكيان بأكاذيبهم ويؤكد على أصالة الهوية الفلسطينية وصدق روايتنا، ونتعرف تفصيلا على حقب تاريخية هامة من أبرزها حكم الدولة الأموية.
ثم نلتقي بأفارقة القدس الذين كانوا بوابة عبور الكاتب للحديث عن الجنسيات المختلفة التي عاشت في فلسطين وكانت أول من يدافع عنها أمام الاحتلال، عبر عنهم الكاتب من خلال شخصية مريم التشادية التي كانت بوابة تفتح أمامنا على المقاومة الفلسطينية وكيف تكونت تلك الفصائل، لكن الكاتب لم يأتي بها هنا من أجل الإشادة فقط بل ذهب يرصد ارتباكاتهم في البداية وإخفاقاتها وفقا للظروف التي كانت متاحة في ذلك الوقت ولم ينكر تخبطهم الذي راح ضحيته الكثير من الفلسطينيين والانقسامات التي حدثت بينهم وكان ضحيتها عائلة كافل في حوادث غيرت مصيره هو الآخر لكنها لم تغير وجهته!
بمرور الأحداث وتوالي الحكايات قد يعتب البعض على الكاتب أنه غرق في التأريخ والتوثيق وكأنه يكتب كتاب تاريخ فيبعد في بعض النقاط عن التتابع المعتاد لحبكة الرواية، فتاريخ الأماكن والأحداث هي الأصل في سرد الرواية أما تفاصيل الشخصيات وحيواتهم تم تناوله بشكل يبدو ثانوي للبعض منا، لا ننكر أحقية هذا اللوم لكن الكاتب كان صريح منذ البداية فما يعنيه هو الحكاية فما جدوى حكايات الأشخاص أمام تاريخ مدينتهم الماضي والحالي، وتحت وطأة الاحتلال يصبح توثيق فالحدث في أساسه ينبع من وإلى الناس خاصة في تلك الظروف الخاصة التي تعيشها فلسطين، ولا يوجد مكان يمكنه أن يستوعب هذا الكم من الحكايات سوى طيات الرواية والسبب أننا أبناء ثقافة الحكي نتوارث حكاياتنا قبل أن نتعلم أن نكتبها وتراثنا يشهد على ذلك.
يصبح كافل شاب يشهد تطورات القضية وتغيرات العالم من حوله ويصبح شاهد على مصائر الكثيرين وتتغير وجهات الناس بإرادتهم أورغما عنهم، يتخبطون بين سخط على الحكومات وبين محبة وانتماء لهذا الوطن.
كان كافل أحد هؤلاء الذين ألقت بهم الظروف بعيدا عن فلسطين لسنوات لم يملك خلالها شيء يعيده في يوم من الأيام إلى المدينة ومن ثم القرية يقف على أطلال منزله الذي كان وذكريات العائلة سوى حكايات والده عن تاريخ المدينة التي أدرك كافل أنه كان يرويها له بمثابة اعتذار عن هزيمته وعوضا عن نصر لم يحققه أو يشهده، وهنا بدأ كافل يتساءل ماذا قدم لهاذا الوطن؟ وماذا يمكن أن يفعل؟ كيف يعتذر هو الآخر للأجيال القادمة؟! فكان قراره بالعودة، بأن يقف أعلى وادي حلوة ممسكا بيد طفله هو الآخر يروى له الحكاية كاملة، وهنا ندرك أن التاريخ وحكاياته هو سماءنا السابعة، سماء القدس السابعة التي لن تطال منها غيوم الاحتلال أبدا وإلى الأبد.