كان وأصبح (21): سراي عباس حلمي الأول التي تحولت إلى «السراي الصفراء»

آخر تحديث: الأحد 26 مايو 2019 - 8:01 م بتوقيت القاهرة

إنجي عبدالوهاب

لا ينفصل تاريخ الفنون عمارة وتصويرًا ونحتًا عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا تقتصر قيمته على الجمال والإبداع والاحتراف، بل هي شهادة حية على أيام خلت وأحداث مضت وشخصيات كان يمكن أن تتوه في غياهب النسيان.

وفي سلسلتنا الجديدة «كان وأصبح»، التي ننشر حلقاتها على مدار شهر رمضان، نعرض نماذج لحكايات منشآت معمارية أو قطع أثرية مصرية تنتمي لعصور مختلفة، تسببت التحولات السياسية والاجتماعية في تغيير تاريخها، أو إخفاء معالمها، أو تدميرها بالكامل، لتخبو بعدما كانت ملء السمع والبصر.

وتُنشر الحلقة الجديدة من تلك السلسلة يوميًا في الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة..

ونورد في هذه الحلقة قصة ظل آثرها باقيًا في الوعي الجمعي المصري رغم مقتل صاحبها قبل 156 عاما، إنها قصة «السراي الصفراء».

بمجرد أن تغادر ميدان العباسية إلى ذلك الشارع الطويل الممتد حتى مدينة نصر، تجد أمامك لافتة موثق عليها باللغتين العربية والفرنسية «شارع اسبتاليا المجاذيب» فلا زال الشارع محتفظًا باسمه القديم، ولا يزال المصريون يطلقون على مستشفى الأمراض العقلية الواقعة في نهايته اسم «السراي الصفراء»، ولكن ما قصة هذه السراي؟

"سراي الخديو غريب الأطوار"
بدأت قصة السراي بعدما حكم مصر بين العامين 1848 و1854 حاكمًا وصفه معظم المؤرخين بـ«الحاكم غريب الأطوار»، إذ كان عصبيًا قاسيًا يميل إلى العزلة، دفعه شكُّه في كل من حوله إلى بناء قصور عديدة في جوف الصحراء، كان ضمنها سراي شاسعة شيدها في صحراء الريدانية التي سميت في عهده بـ«العباسية» نسبة له، سميت السراي التي ألحق بها العديد من الحدائق على مد الأبصار لاتساعها بـ«الخمس سرايات» كما سميت أيضًا بـ«السراي الحمراء»؛ نظرًا للون طلائها الأحمر الذي أراد الخديو عباس حلمي الأول، ثالث حكام الأسرة العلوية أن تتميز به سرايته.

لم توثق سراي عباس حلمي الأول بصور فوتوغرافية، لكن يمكن استلهام الشكل الأول لها قبل احتراقها، وتحول ما تبقى من أطلالها إلى "اسبتاليا" كما أورد المسيو فردينان ديليسبس، الذي شاهدها عقب مقتل الخديو عباس عام 1855، وانبهر باتساعها وضخامتها، وقال إنها ليست مجرد سراي، بل مدينة متكاملة فوق ربوة عالية في الصحراء ملحق بها عدد من الحدائق، وتحوي 2000 غرفة لكل منها نافذة.

اتسمت السراي بالغموض كصاحبها، وقيل إن تحت أرضها سراديب وممرات وأنفاق، وكان لها مكانة خاصة لدى الخديو عباس، فظل يتردد عليها طيلة فترة حكمه التي لم تتجاوز خمسة أعوام ونصف، كما أقام على مقربة منها عددًا من المدارس العسكرية، وشق طريقًا ممهدًا بين العباسية والقاهرة؛ لتسهيل حركته منها وإليها.

انتهت قصة السراي الملكية عقب اغتيال صاحبها الخديو عباس على إثر مؤامرة دبرت له داخل قصره ببنها في 13 يوليو 1854، إذ هُجرت وفقدت ألوان جدرانها، كما فقدت رونقها وبهائها، ثم أفل نجمها تمامًا بعدما أصدر سعيد باشا مرسومًا بإيداع كل من يعثر عليه مجذوبا بالسراي، ونقل إليها مرضى الأمراض العقلية المنقولين في عهد محمد علي من «بيمارستان قلاوون» إلى مستشفى الأزبكية عقب تجديدها عام 1846 لتتحول إلى "اسبتاليا المجاذيب".

هجرت السراي مرة أخرى بعدما اعتلى الخديو إسماعيل عرش مصر خلفا لوالده سعيد باشا عام 1863، وأعاد هؤلاء المرضى إلى مستشفى الأزبكية مجددًا؛ لتوفير الرعاية الصحية لهم؛ نظرًا لتعرضهم للإهمال، ومع زيادة النفوذ البريطاني في عهد الخديو توفيق، زار وفد من الأطباء الإنجليز مستشفي الأزبكية، وقالوا إنها لا تصلح للعلاج، ولا تساير المعايير العالمية، فأغلقت مستشفى الأزبكية وعدد من المستشفيات الأهلية الأخرى.

وبعد أن شب حريق ضخم في مبنى السراي الحمراء، التهمته النيران، ولم يتبق منه سوى جزء صغير تم طلاءه باللون الأصفر، وأقيم عليه مبنى مختص للأمراض العقلية سمي بـ"اسبتاليا المجاذيب" عام 1883، ومن هنا جاءت تسمية السراي الذي تحول إلى "اسبتاليا صفراء" للمجاذيب بـ"السراي الصفراء" وهي التسمية التى استمرت إلى الآن فى الوعي الجمعي للمصريين.

ظلت "اسبتاليا المجاذيب" المقامة على أطلال سراي الخديو عباس على حالها رغم مرور 136 عاما على تأسيسها، حتى أنها لا تزال تحتفظ باللون الأصفر، لكن مساحتها تقلصت حتى وصلت إلى 60 فدانًا، بعد أن اقتطعت أجزائها واحدًا تلو الآخر عقب قيام ثورة يوليو، فجزء منها اقتطعته محافظة القاهرة لإنشاء حديقة العروبة، وجزء أقامت عليه وزارة الاستثمار أرض المعارض، وآخر ضمته وزارة الصحة لها وأقامت عليه "المعهد القومي للتدريب".

ربما كانت نهاية السراي الملكية مأسوية كنهاية صاحبها الذي قٌتل على إثر مؤامرة عائلية، لكنها أسهمت في وضع قوانين نظامية للتعامل مع مرضى الأمراض النفسية والعقلية، الأمر الذي قد يسهم في تخليد ذكراها، ففي عهد الخديوى عباس حلمي الثاني، أخذت المستشفيات العقلية شكلاً نظامياً بوضع قوانين ومعايير لدخولها أو الخروج منها، كما تم تنظيم العمل بالمستشفيات العقلية والنفسية طبقا للأمر الإداري الصادر عام 1910، والذي رسخه قانون "اسبتاليا المجاذيب" للعام 1922 ثم قانون 141 لسنة 1944، وهو القانون المعمول به حتى الآن.

وغدًا حلقة جديدة..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved