70 عاما على الهولوكوست.. والسينما الغربية لم تتحرر من الأسر
آخر تحديث: الأربعاء 27 يناير 2016 - 10:28 ص بتوقيت القاهرة
خالد محمود
• «ابن شاول» المجرى الفائز بسعفة «كان».. قصة مؤرقة بلغة سينمائية مؤثرة
• الضحية تحولت إلى جلاد لكن الشاشة الفضية تخشى كسر الثوابت
رغم مرور ٧٠ عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية، الا أن أوروبا ما زالت مهووسة بسينما الهولوكوست التى تتناول محارق النازى ضد يهود أوروبا.
سينمائيو الغرب لديهم دائما شغف بما حدث، بينما يجد اليهود فى المحرقة أداة لترويع أوروبا والغرب، والاستمرار فى ابتزازهم، يفتشون عن قصص جديدة لم ترو ومحاولة ترويجها هنا وهناك، كى يبثوا رسائلهم عبر التأثير المباشر بالمتلقى الغربى الخاضعٌ لسطوة كهذه، إما لانجذابه إلى براعة الصورة فى صياغة سينما جميلة ومؤثرة.
الفيلم المجرى «ابن شاول» نموذج يجسد تلك السينما، إما لرضوخه لقسوة التاريخ، أو لعدم إدراكه فعل التحول الأخطر لليهودى المنتقل من ضحية إلى جلاد، لتبقى السينما الغربية أسيرة للهولوكوست، تخشى من السير فى اتجاه مخالف لما اعتادت عليه.
المخرج الشاب لازلو نيميس، الفائز بسعفة مهرجان كان والجولدن جروب، حاول تبرير العمل بجمل مختصرة قال فيها: «فى المجر حصل الكثير من التهجير ولا أعتقد أنها مجرد صفحة فى التاريخ اردت تناول هذه المسألة من زاوية مختلفة ورأيت أهمية الحديث للجيل الذى ما زال حيا إذ لم يعد منهم سوى القليل».
الفيلم تدور احداثه فى أكتوبر 1944، ليروى إحدى مآسى الحرب العالمية الثانية، محورها شاول أوسلاندر السجان فى معسكر «أوشفيتز ــ بيركينو» «النازى الشهير وقد تم اختياره من بين المعتقلين ليقوم بالإشراف على عمليات خنق السجناء الآخرين فى غرف الغاز وملء وإفراغ المحارق، وهى الجماعة التى يطلق عليها بالألمانية «سوندركوماندو» والمتألفة من أسرى يهود معزولين فى المعسكر وملزمين بمساعدة النازيين فى حراسة قوافل اليهود المرحلين إلى الموت، وإدخالهم أفران الغاز، وترتيب ملابسهم وأوراقهم وأغراضهم لتسليمها إلى النازيين، ثم نقل الجثث إلى المحرقة، ورمى الرماد فى النهر، وتنظيف المكان، قبل استقبال قوافل أخرى.
يدخلنا شاول فى جحيم نفسى عبر صورة سينمائية رائعة عندما يربط بين جثة صبى ستحرق ضمن جثث أخرى، وبين ابنه بالتبنى، حيث يتخيل نجله فى هذا المشهد، وهنا يتطوع شاول، من تلقاء نفسه، لدفنه بحسب التعاليم الدينية اليهودية فى مشهد سينمائى مؤثر.
الفيلم ملىء بالمواقف الجمالية فنيا، فى مقدمتها الاحساس بأن القسوة أو العنف كانا حاضرين، لا نشاهدهما بالعين بشكل مباشر على الشاشة بل نشعر بوجودهما، نسمع آثارهما، وينعكسان فى نظرات الممثلين وانفاسهم، فى لغة سرد تصاعدية دراميا فى جحيمها الخانق، بفضل بلاغة السيناريو وطزاجته لقصة مؤرقة، وقد ترك المخرج نيميس ــ والمشارك فى التأليف ــ أيضا مع كلارا روير، خيال المشاهد يخلق ماهو موجود خارج الكادر وتخيل ما لا يراه مباشرة على الشاشة، لواقع من المحرقة، هنا يبرز السؤال الأكبر فى العمل: هل يمكن أن نخلق مواقفَ ومشاعرَ وانطباعاتٍ لا يمكن تجسيدها إلا عن طريق الخيال».
يقول المخرج المجرى: «لم نرغب بالقيام بفيلم جميل، ابتعدنا عن أية مقاربة جمالية تقليدية، لن تجدوا أى مشهد جميلٍ فى الفيلم، فقد كنا نحرم على أنفسنا القيام بهذا.. عملنا لا يحمل قيمة بصرية، لذا وجدنا صعوبة بإيجاد صورة من الفيلم لوضعها على الإعلان.. ذلك كان جزءا من آليات العمل، كان مهما جدا أن لا نقع فى فخ الأفلام العاطفية التى تتطرق للمحرقة».
«ابن شاول» مصنوع بحرفية سينمائية كبيرة، على مستوى الصوت أولا ثم الصورة، فقدرة المعالجة بالتأثير بعمق فى المشاهدين كبيرة.
أفرد المخرج مساحة واسعة أمام الصوت لخلق مناخ يُدخل المُشاهد فى حالة نفسية تضعه فى قلب الفعل الاجرامى من دون أن يرى أهواله.. وقد تحرر النص من مَشَاهد معروفة ومُكرَرة فى أفلام كثيرة سابقة.
تعامل مع فظائع الحرب بطريقة شفافة، مؤلمة لكل حس إنسانى: «يهود يرافقون أبناء دينهم وأوطانهم إلى موتٍ مؤكد، بانتظار موعدهم هم أنفسهم مع الموت الماثل أمامهم كل ثانية».
يُقدم ذلك من خلال عينى شاول وحركاته وانفعالاته الصامته، الكاميرا تقريبا لا تفارقه، كأنها عيناه تجسد مشاعر تلك المأساة، رغم اننا لم نر من صور الجثث سوى القليل، وبعض وجوه أخرى للضحايا، ولقطات من الدفن الجماعى.. صور وشخصيات محيطة بشاول تظهر على الشاشة بين حين وآخر، ربما لتأكيد الفعل أكثر منه اكتمال مشهدٌ، حيث يستخدم مدير التصوير المبع ماتياس ايردلى عدسة جعلت الصورة غير واضحة فى الخلفية تماما.
أحد أبرز مقومات نجاح الفيلم بجانب كاميرا «ماتياس ايرديلى» هو الممثل والشاعر جيزا رو ريج، الذى جسد دور شاول وهو غير محترف فى مجال التمثيل، بل فى قدرته على اختزال كل
المشاعر وقد تتبعته الكاميرا كشخصية محورية خطوة بخطوة فى أجواءِ خوف مكتوم الانفاس.
كشف روريج ان كتاب المؤرخ جيدون جرايف «نبكى بدون دموع» ألهمه كثيرا وهو يجسيد شخصية شاول، وهو الكتاب الذى يتألف من ثمانية مقابلات مع الـ«سونديركوماندوس»، ثمانية منهم على قيد الحياة يعيشون فى إسرائيل. امتنعوا لوقت طويل عن الكلام عن تجربتهم، وعندما قبلوا ظل المؤرخ يقابلهم على مدى ثلاثة عشر عاما.
بدون شك الفيلم يطرح سؤالا مهما حول كيفية استخدام «المحرقة النازية» كمادة سينمائية قادرة، دائما، على مزج براعة الصورة بالمضمون الخبيث وغير الخبيث فى ثنايا الحكايات الإنسانية، وفيلمنا بطبيعة الحال يخرج قليلا على المتبع فى «أفلام المحرقة الاخرى» مثل «قائمة شندلر، الحكم الصادر فى نورمبرج، ويوميات ان فرانك، وعازف البيانو، وذلك بتحرير مساره الدرامى فى سيناريو عبقرى من كل صورة مباشرة للجريمة النازية، فهنا فى ابن شاول لا يوجد منقذ أو بطل يأتى للانقاذ. ربما اراد نيميس ان يجعل اوروبا ان تعيد قراءة المحرقة من خلال «ابن شاول».
يقول: «المحرقة أظهرت لنا أن الوحش يختبئ حقا فى الذات الإنسانية، هناك احتمال ثابت لأن نتحول إلى وحوش فى أية لحظة، نحن نرى أن الإبادة الجماعية مثلا، ما زالت مستمرة. لذلك أعتقد أنه علينا التمعن جيدا فى النفس البشرية، السينما يمكنها القيام بذلك وبطريقة عميقة».