نساء من عصر النبوة (5).. أم الدحداح التي صاغها الإسلام ونشأت في مدرسة النبوة

آخر تحديث: الإثنين 27 مارس 2023 - 12:14 م بتوقيت القاهرة

منال الوراقي

تعد سير الصالحات تربية عملية للنفوس، وغَرْس للفضائل، وتدريب على التجمل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق والرضا وطاعة الله؛ ذلك لأن التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية؛ لصقل الطباع، وتهذيب المشاعر، والسير قدما على طريق التقوى والاستقامة.

وفي عصر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- برزت قصص عشرات النساء في حياة نبي الأمة، ممن كان لهن أثر عظيم في عصرهن والعصور التي تلته، أفرد لهن المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة، كتاب "نساء في عصر النبوة" الصادر عن دار نشر ابن كثير، ليركز على دورهن وما جرى لهن من أحداث ترتبط بالدعوة الإسلامية وبالرسول.

أم الدحداح الأنصارية رضي الله عنها، قال ﷺ في حق زوجها: كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح؟

كانت أم الدحداح امرأة من نساء الأنصار، سجّلت موقفا رائعا في الإيثار يتألق روعة، ويجعلها في مقدمة النسوة اللواتي تذوّقنَ حلاوة الإيمان من أول يوم سطع فيه نور الإسلام في المدينة المنورة، فصاغها الإسلام ونشأت في مدرسة النبوة الشريفة.

وهي واحدة من صحابيات رسول الله اللاتي لهن دور جليل في تاريخ الإسلام، ولكنها لم تحظ بالشهرة الكبيرة، ولم تنل ما تستحقه من اهتمام الكتاب والباحثين، فهي واحدة ممن آثرن نعيم الآخرة المقيم على متاع الدنيا، ورغبن في مرضاة الله عزّ وجلّ، ومرضاة رسوله.

وكان زوجها الصحابي الكريم أبو الدحداح، ثابت بن الدحداح - أو الدحداحة - بن نعيم بن غنم بن إياس حليف الأنصار، وأحد فرسان مدرسة النبوة، وأحد التلامذة النجباء، والأتباع الأبرار الذين اقتدوا بالنَّبي، وساروا على نهجه وبذلوا في سبيل مرضاته نفوسهم وأرواحهم وأموالهم، حتى نالوا رضوان الله عزّ وجلّ.

دخلت أم الدحداح وأسرتها في الإسلام
منذ أن قدم مصعب بن عمير رضي الله عنه المدينة سفيرا لرسول الله، أخذ يفقه أهلها ويعرفهم بالإسلام، فبدؤوا يدخلون في دين الله أفواجا، وأخذ مصعب رضي الله عنه يعدّ المدينة المنورة ليوم الهجرة العظيم، وهبت رياح الإيمان تغمر المدينة بأريجها المعطار.

وكان ممن ناله شرف الدخول في الإسلام ليُسَجِّل في قائمة الخالدين، أسرة تسكن في إحدى نواحي المدينة المنورة، ولم تكن هذه الأسرة سوى أسرة أم الدحداح الأنصارية، التي أسلم جميع أفرادها، ومشوا في السعداء.

أبا وأم الدحداح وقرض الله الحسن

ومنذ أن بايع الأنصار رسول الله ﷺ عكفوا على قراءة آيات القرآن الكريم، يعمرون بها قلوبهم فهما، ويستجيبون لما تدعو إليه عملا، وهم في غبطة بما تفيئه آياته الكريمة من سعادة في الدارين.

وكان أبو الدَّحْدَاحِ وزوجته أمُّ الدَّحداح ممن أشرقت نفوسهما بنور القرآن الكريم، وكان لأبي الدحداح أرض وفيرةٌ في مائها غنية في ثمرها، وكانت أم الدحداح رضي الله عنها معوانا لزوجها في أعمال الخير، فعندما نزل قول الله عز وجل : ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَن) بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب الله عزَّ وجلَّ، ومن ورائه زوجته تحضُّه على ذلك طمعا بما وعد الله به عباده المؤمنين.

ذكر الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع عن زيد بن أسلم رحمه الله قال ﷺ: لما نزل مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إِنَّ الله يستقرضُنَا وهو غني عن القرض؟
قال ﷺ: نعم. يريد أن يدخلكم الجنة به
قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟
قال ﷺ: نعم
قال: فناولني يدك
فناوله رسول الله يده فقال: إن لي حديقتين، إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا الله تعالى
فقال رسول الله ﷺ: اجعل إحداهما لله، والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك
قال: فأشهدك يا رسول الله إنّي جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة
قال ﷺ: «إذا يجزيك الله به الجنَّة».

فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النَّخْل، فأنشأ يقول:
هداك ربي سبل الرشاد.. إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد.. فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي.. بالطَّوْع لا من ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعادِ.. فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زادِ.. قدمه المرء إلى المعاد

قالت أم الدحداح: ربح بيعك ! بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:

بشرك الله بخير وفرح.. مثلك أَدَّى ما لديه ونصح
قد منع الله عيالي ومنح.. بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح.. طول الليالي وعليه مــا اجترح

ثم أقبلت أم الدَّحداح على صبيانها تُخْرِجُ ما في أفواههم، وتنقصُ ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي الكريم ﷺ: كم من عِذْقٍ رَدَاحَ في الجنَّةِ لأبي الدحداح.

استشهاد أبي الدحداح.. تمنتها ونالتها

كانت الصحابية الجليلة تُرجى لأبي الدحداح الشَّهادة في سبيل الله عزَّ وجل لقوله ﷺ: كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح، وكان ذلك، فاستشهد بأحد رضي الله عنه.

فلما كانت غزوة أحد، ودع أبو الدحداح زوجته أُمَّ الدَّحداح، وانطلق مع المجاهدين إلى لقاء المشركين ولما انكشف المسلمون، ثبت أبو الدحداح تلة من الأنصار وقاتل حتى نال الشَّهادة.

وقد ذكر ابن عبد البر - رحمه الله - هذا فقال: أقبل ثابت بن الدحداحةِ يوم أحد، والمسلمون أَوْزَاع - متفرقون ـ قد سقط في أيديهم، فجعل يصيحُ: يا معشر الأنصار، إليَّ إليَّ، أنا ثابتُ بنُ الدحداحة، إن كان محمد ﷺ قد قتل، فإنَّ الله لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإنَّ الله مظهركم وناصركم.

فنهض إليه نَفَر من الأنصار، فجعل يحملُ بمن معه من المسلمين، وقد وقفت له كتيبة خَشْنَاء ـ كثيرة السلاح - فيها رؤساؤهم، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناوشونهم، وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع شهيدا، وقُتِلَ مَنْ كان معه من الأنصار.

ماذا تفعل مَنْ أتاها خبر موت زوجها؟

وصل نبأ استشهاد أبي الدحداح رضي الله عنه إلى أسماع زوجه أم الدحداح رضي الله عنها فلم تلطم ولم تشقَّ ثوبها، ولم تعفر رأسها بالتراب، وإنما كبرت واسترجعت واحتسبته عند الله عزَّ وجلَّ، لأنها تعلم بأنه نال شرفا عظيما، وحظي بمرضاة الله عزّ وجلَّ، وهو حي مع الشهداء في جنانِ الخُلد.

وغمر أمّ الدَّحداح، السرور عندما علمت أنَّ النبي ﷺ قد عاد سالما من أحد، لأنّها تعرفُ أنَّ كلَّ مصيبة بعد سلامة رسول الله ﷺ هينة.

اقرأ أيضا: نساء من عصر النبوة (4).. حبيبة بنت سهل الأنصارية.. صاحبة أول حالة خُلع في الإسلام

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved