عبدالرحمن الشرقاوي يرسم ملامح اﻷئمة التسعة: أحمد بن حنبل.. ملاذ الناس في الفتن
آخر تحديث: الإثنين 27 أبريل 2020 - 8:50 م بتوقيت القاهرة
الطاهر عماد
لا شك أنه واحد من حراس العقيدة، ومن أئمة الهدى، فقد نصح الحكام ولاذ به الناس حين كثرت الفتنة، وامتلك شجاعة فى الرأى محمودة، ودونت له كتب التاريخ صفحات من المجد لا تمحوها الأيام، ولعل أبرز ما يجعله ضمن قائمة المجددين فى الإسلام أنه أحيا ما كان السلف الصالح عليه من الشجاعة فى الحق، وقد أثبتت مواقفه وسيرته أنه أخذ نفسه طوال حياته على التمسك بالقرآن والسنة النبوية، وما كان عليه صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إمام أهل السلف، لم يخش فى الله لومة لائم، وقد ورث عنه أتباع مذهبه من بعده هذه المواقف.
هو أبو عبدالله أحمد بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانى، من بيت كريم من بيوت بنى شيبان فى بغداد، حيث قال ابن الأثير: «ليس فى العرب أعز دارا، ولا أمنع جارا، ولا أكثر خلقا من شيبان»، وُلد عام 780م، وتوفى والده قبل أن يراه، فتكفلت أمّه برعايته وتنشئته، وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التى كانت سائدة، فحفظ القرآن الكريم، وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره بدأ فى طلب العلم.
تتلمذ على يد الإمام أبى يوسف صاحب أبى حنيفة النعمان، ومن كبار المذهب الحنفى الذى يقف على رأس أئمة الرأى، وكانت حلقته آية فى السمو والرقى، يؤمها طلاب العلم والعلماء والقضاة على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وقد لزم أحمد بن حنبل حلقة أبى يوسف أربع سنوات، وكتب ما سمعه فيها ما يملأ ثلاثة صناديق، ثم استهواه أكثر طلب الحديث، فتحوّل إلى مجالس الحديث، وأعجبه هذا النهج، وانكبّ على طلب الحديث فى نهم وحب، وقد لزم حلقة هشيم بن بشير السلمى شيخ المحدثين فى بغداد، وكان يسرع الخطى إلى شيخه قبل أن يسفر الصباح، حتى يكون أول من يلقاه من تلاميذه، ولا يسمع بعالم ينزل بغداد إلا أقبل عليه وتتلمذ له.
بعد ذلك أخذ الإمام أحمد يرتحل فى طلب الحديث النبوى حتى ذهب إلى مكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، والتقى خلال هذا الترحال الشافعى فى أول رحلة من رحلاته الحجازية فى الحرم، وأُعجب به، وأخذ عنه الفقه والأصول، وكان يقول عنه الإمام الشافعى: «ما رأيت أحدا أفقه فى كتاب الله من هذا الفتى القرشى»، وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس، فلم يوفَّق للقائه، وكان يقول: «لقد حُرِمتُ لقاء مالك، فعوَّضنى الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة».
جلس الإمام أحمد للفتيا والتدريس فى بغداد سنة 819م وهى السنة التى توفى فيها الشافعى فكان خلفا عظيما لسلف عظيم، وكان له حلقتان واحدة فى بيته يقصدها تلاميذه النابهون، وأخرى عامة فى المسجد، يؤمها المئات من عامة الناس وطلاب العلم، وتُعقد بعد صلاة العصر، وكان الإمام يهش للذين يكتبون الحديث فى مجلسه، ويصف محابرهم بأنها سُرُج الإسلام، ولا يقول حديثا إلا من كتاب بين يديه، مبالغة فى الدقة، وحرصا على أمانة النقل، وهو المشهود له بأن حافظته قوية واعية، حتى صار مضرب الأمثال.
لم يدون الإمام أحمد مذهبه الفقهى، ولم يصنف كتابا فى الفقه، أو يمليه على أحد من تلاميذه، بل كان يكره أن يُكتب شىء من آرائه وفتاواه، حتى جاء أبو بكر الخلال المتوفى سنة 923م، فتولى مهمة جمع الفقه الحنبلى، وكان تلميذا لأبى بكر المروزى، وجاب الآفاق يجمع مسائل الإمام أحمد الفقهية، وما أفتى به، فتيسرت له منها مجموعة كبيرة لم تتهيأ لغيره، وصنفها فى كتابه: «الجامع الكبير» فى نحو عشرين مجلدا، وجلس فى جامع المهدى، ببغداد يدرّسها تلاميذه، ومن هذه الحلقة انتشر المذهب الحنبلى، وتناقله الناس مدونا بعد أن كان روايات مبعثرة.
تعرض الإمام أحمد لمحنة شديدة، وهى المحنة المعروفة باسم «فتنة خلق القرآن»، حيث قالت فرقة المعتزلة إن القرآن مخلوق، وكان ذلك فى عهد الخليفة العباسى المأمون، الذى قرب إليه بعض أئمة المعتزلة، وقد بدأت المحنة فى عام 218هـ، حيث أمر المأمون إسحق بن إبراهيم، قائد شرطة بغداد، بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين، ويمتحنهم فى القول بخلق القرآن، ويقرأ عليهم خطاب الخليفة المأمون الذى يفيض بالتهديد والوعيد لمن يرفض القول بخلق القرآن.
وفى هذا المجلس، وهو الأول، رفض البعض وقبل البعض، وهو ما أغاظ المأمون الذى طلب من قائد الشرطة عقد مجلس آخر، وأن يشتد فى التهديد والوعيد، وبالفعل أجاب كل العلماء ما عدا أربعة، وتحت التعذيب تراجع اثنان منهم، وثبت الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فطلب المأمون حملهما مقيدين بالأغلال إلى حيث يقيم آنذاك فى مدينة طرسوس وأقسم أن يقتلهما، إن استمرا على موقفهما.
بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفى الإمام أحمد فى عام 855م) عن سبعة وسبعين عاما، ودُفن فى بغداد، وخرج فى جنازته ما يزيد على ثمانمائة ألف من الرجال وستين ألفا من النساء.