دار الخلافة (6).. «أعينوني على نفسي بالمعروف».. خطبة عمر بن الخطاب في بداية عهده

آخر تحديث: الثلاثاء 28 مارس 2023 - 7:53 م بتوقيت القاهرة

محمد حسين

بعد وفاة النبي محمد -صل الله عليه وسلم- وإكماله لرسالته وأدائه الأمانة التي وُكل بها لأمته، بدأ التاريخ الإسلامي حقبة جديدة بمفردات وأبعاد متعددة، فرضها الجانب السياسي على المشهد في المجتمع الإسلامي، وبفعل الاختلاط بثقافات مترادفات وأفكار مجتمعات مختلفة، مع مد الفتوحات واتساع رقعة الدولة، وتشكل من بعدها عصر الخلافة بعدما مضى عهد النبوة.

وعلى مدار ما يزيد على ألف عام، حكم الدولة الإسلامية العشرات من الخلفاء والحكام، بتتابع الدول الأموية والعباسية والمملوكية نهاية بالعثمانية.

واختلفت مشارب ومآرب كل من تلك الدول وحكامها، ومن المراجع التاريخية وكتابات المفكرين، وتحت عنوان "دار الخلافة"، نتناول ملامح من سيرة الخلفاء ومواقفهم وفلسفتهم في حلقات مسلسلة على أيام شهر رمضان المبارك.

الحلقة السادسة..
تناولنا في الحلقة السابقة، المشاهد الأخيرة من خلافة أبي بكر الصديق، والصبر على مرضه، وانشغاله بحال الأمة ومستقبلها بعد وفاته، والترتيب والتخطيط لتجنيب الأمة الإسلامية التشتت والفرقة وما يهدد من استقرارها؛ لذا كان قراره بأن يستخلف عمر بن الخطاب من بعده.

ودعا عثمان بن عفان، وكان يكتب له فقال له: اكتب، وأملاه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله." ثم ختم الكتاب.

وقبض أبو بكر بعد مغيب الشمس في يوم 21 من شهر جمادي الآخرة للسنة الثالثة عشرة من الهجرة، لما جن الليل غُسل وحُمِل على السرير الذي حُمِلَ عليه رسول الله إلى المسجد، وصُلي عليه، ونُقل جثمانه إلى قبر الرسول، ودُفن في حفرة إلى جنبه، وجُعل رأسه إلى كتف رسول الله وأُلصق اللحد باللحد، وقد تولى دفنه عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وعبدالرحمن بن أبي بكر، بحسب ما ذكر الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر.

• قلق ببداية عهد
وأورد ابن سعد في كتابه "الطبقات"، وأتم عمر واجبه الأخير للخليفة الأول، وخرج من حفرة القبر بدار عائشة فسلم على أصحابه، ثم انطلق عائدًا أدراجه لداره بعد منتصف الليل، ودخل مضجعه وجعل يفكر فيما يتنفس عنه الغد، فسيبايعه المسلمون من بكرة النهار ليتولى أمورهم، فيواجه منهم من رضي استخلافه كارهًا.

• مشقة قبل السلطة
ومن مظاهر ما ناله عمر بن الخطاب من تعب ومشقة، يقول هيكل في كتابه، إن عمر لم يذق النوم في الليلتين اللتين انقضتا منذ أن قُبض أبو بكر إلا غرارًا، فالناس يتتابعون على بيعته احترامًا لعهد الصديق ووصيته، ولكن الكثيرين من زعمائهم لا يزالون يبرمون به لغلظته، وقد كان لبعضهم في ولاية الأمر مأرب.

ورأى بن الخطاب أنه لن تستقيم الأمور في دولة لا يتضامن أولو الرأي فيها على توجيه سياستها، والموقف أدق من أن يدعه عمر للزمن مكتفيًا بأن يدعو الله أن يحببه للناس وأن يحبب الناس إليه، فإن لم يأخذ الأمر بالحزم أوشكت شئون الدولة أن تضطرب، أما وقد أمر برد السبي إلى عشائرهم فتألف قبائل العرب وكسب قلوبًا كانت تنفر من شدته، فليمضِ غير متردد في سياسته.

• خطبة بليغة
وخطب عمر في أهل المدينة بعد بيعته خطبة بليغة، أسس من خلالها ملامح حكمه وسياسته، وعني فيها بالرد على عدم اطمئنان البعض لعهده الذي لم يبدأ بعد، وجاء بها ما يلي:

"بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه، ومن قال ذلك فقد صدق.. إنني كنت مع رسول الله، فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان -كما قال الله- بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، فكنت بين يديه سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله كثيرًا وأنا به أسعد".

"ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عز وجل وهو عني راضٍ، فالحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد".

"ثم إني وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يُذعن بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليَّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم عليَّ ألا أجتبي شيئًا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليَّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمِّركم في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال، فاتقوا الله، عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
أقرأ ايضا:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved