«بيع نفس بشرية».. عن المواقف المصيرية تجبر القارئ على التفكير

آخر تحديث: السبت 28 مايو 2022 - 9:23 ص بتوقيت القاهرة

كتبت ــ أسماء سعد:

«براعة فى الوصف والتحليل، أسلوب متميز، قدرة فائقة على التعبير والخيال» هى أبرز سمات نصوص المجموعة القصصية للكاتب الكبير محمد المنسى قنديل الصادرة حديثا عن دار الكرمة، والتى تأتى فى هيئة أربع قصص تحفز قارئها على التفكير الطويل فيها لمدة طويلة بعد انتهائه من قراءتها.
«بيع نفس بشرية» و«الوداعة والرعب» و«اتجاه واحد للشمس» و«يوم مصرى جاف»، هى محتويات المجموعة القصصية الصادرة فى 314 صفحة تمتاز بكونها محكمة فنيا وعميقة فى دلالتها أجاد خلالها الكاتب والطبيب المبدع محمد المنسى قنديل تشريحا للنفس الإنسانية فى مجموعة من المواقف المصيرية.

♦ توظيف التوصيف
«سار بحذر إلى النافذة، أزاح طرف الستارة حتى يستطيع أن يرى الشارع دون أن يلاحظه أحد. كانوا هناك، خمسة من الرجال الضخام، يرتدون ثيابا بيضاء فوقها صدرية جلدية، وأحزمة معلقة فيها طلقات نارية متقاطعة فوق صدورهم، وفى أيديهم بنادق سريعة الطلقات، لم يكونوا من رجال الشرطة، ولكنهم كانوا أشد خطرا وأكثر شراسة، أشبه بكلاب الصيد المدربة، ومن الغريب أنهم لم يشموا رائحة الفريسة حتى الآن، أخذوا يدورون فى الميدان الواسع أمام البيت، يشيرون إلى مختلف الاتجاهات، تتعالى صيحاتهم الغاضبة ويتدافعون فى الأزقة الجانبية ثم يعودون».
اعتمد المنسى قنديل فى قصة «بيع نفس بشرية» على الصور البلاغية والتشبيهات المتقنة من أجل توصيل المعانى إلى القارئ بشكل يحقق تنوع الآليات الفنية والجمالية فى طريقة سرده للأحداث الامر الذى لاقى حالة من التفاعل الايجابى السريع مع القراء وهو ما اتضح فى توظيف تلك الصور فى التعبير والتشكيل والبناء.
ساعدت براعة الكاتب فى الاستعارات والتشبيهات والرموز على أن يتم ترجمة النصوص المكتوبة فى قصة «بيع نفس بشرية» بمعرفة جريدة الإندبندنت البريطانية، والتى رأت أن القصة تنبأت بحرب الخليج.
كما خلقت كثرة التوصيفات والصور البلاغية فى تقديم تحليل وفهم وتفسير لمنطلقات وتصرفات أبطال القصة، حيث قدم لنا الكاتب صورا عدة ومتنوعة من بيع النفس وشرائها بالمال، كما حدث فى شخصيات البطل «مصطفى» والفتاة الفلبينية بسبب ما فرضه الاغتراب فى إحدى الدول العربية عليهما ولجوئهم الإجبارى إلى العيش فى حالة من السلام التام بحثا عن الرزق والثراء والرغد.

♦ إشكاليات جادة
«بعد أن انتهت الحرب ذهبت فى زيارة إلى سيناء، طفت فى كل المواقع التى وصفوها لى، كنت واثقا من أننى سوف أعرف المكان الذى دفن فيه، لن تضن عليه الصحراء بنبتة من الصبار أو بزهرة برية، كنت أعرف قبره من شكل الصخور ولون الرمال، ولكننى نسيت أنه لم يكن يطلب أى استثناء. لم أجد مثوى لجسده، الصحراء كلها كانت قبره الواسع الممتد، أخذت حفنة من الرمال وخبأتها فى حقيبة ملابسى. كنت واثقا من أنها تحمل بعضا من ذرات دمه ومن شذرات عظامه».
ينقلنا المنسى فنديل من خلال قصته «الوداعة والرعب» إلى صميم مجموعة من الأسئلة الجادة والنظر إلى إشكالية السلام مع إسرائيل وعدم انتهاء مسار التطبيع إلى نهاية طبيعية حيث تحولت تلك القصة إلى فيلم سينمائى بعنوان «فتاة من إسرائيل» من بطولة الفنان محمود ياسين، وهو ما يحيلنا إلى كون النصوص التى أبدعها قنديل كانت صالحة بفضل جودتها أن تحقق نجاحا وترحيبا فى مختلف الأشكال التى ظهرت بها مقروءة كانت أو مرئية.
ساعد ترابط الأحداث على خدمة المقاصد التى ذهب إليها محمد المنسى قنديل فى سرد الاحداث التى مرت بقضاء إحدى الأسر المصرية عطلتها فى دولة ما لكسر الأحزان التى عاشوها عقب استشهاد ابنهما عادل على يد الإسرائيليين فنفاجئ بعد نزولهم إلى أحد الفنادق أن الابن طارق تقوم بينه وبين فتاة اخرى تدعى ليزا علاقة يتكشف معها ان الفتاة إسرائيلية فى ثنائية «الوداعة والرعب».
ساهمت طريقة الحكى السلسلة والأسلوب المتميز للمنسى قنديل فى قصته التى جاءت أشبه برواية مكثفة فى أن تشير لنا إلى الوداعة الظاهرية التى قد يقابلك بها عدوك، قبل أن تدرك إمكانية تحول ذلك كله إلى مشهد كابوسى ملىء بالرعب والغدر حتى فى أوقات السلم والهدوء المفتعل.
وقد واصل الكاتب فى تلك القصة تطويع جميع أدوات الكتابة ومهارات وملكات الإبداع من أجل أن يشرك معه القارئ فى أدق المواقف والمشاعر والأحداث بمنتهى السلاسة والسهولة، واحتشاد تلك القصة تحديدا بالمشاعر والتساؤلات الجادة والطرح الرصين لإشكاليات يمكن أن تتوارثها الأجيال عن الصراع الأزلى وغير المحسوم حتى الآن بين العرب وإسرائيل.

♦ الحزن والجمال
«كانت الشمس صاعدة، محملة بغبار الشروق، تنزف صهدا وحنينا ورغبة. يولد صباح اليوم الغريب محملا بكل أحزان الأيام الفائتة. نظرت بدرية من نافذة حجرتها، شاهدت الأب العجوز جالسا تحت شجرة الجميز، على كتفه الحرام الصوفى الثقيل، يخفى تحته وهن البدن وندوب الأيام، وجهه متغضن، ودائم الشرود، يتأمل الأفق البعيد المشبع بالحمرة والانتظار. لم تكن الأم العجوز جالسة بجانبه كعادتها، لعلها تعبت من الاستناد إلى لحاء الشجرة، ولكنها ستعود، لتجلس بجانبه، يلتصقان معا ويشردان بعيدا، لم تعد بدرية تطيق البيت، كانت تريد أن تسير لأبعد ما تستطيع».
تفيض نصوص محمد المنسى قنديل فى القصتين الثالثة والرابعة بالإبداع الذى نتلمس معه كيفية التعبير عن الحزن والجمال فى آن واحد، ففى قصتى ««اتجاه واحد للشمس» و«يوم مصرى جاف»، نجد سرديات رائعة عن كيفية اتخاذ الإنسان لقراراته المصيرية فى مواجهة الجشع والتسلط، والكيفية التى تنتهى بها المواقف دائما للقاعدة الأكثر شيوعا وهى «البقاء للأقوى».
اختيار الموضوعات التى جاءت فى الريف المصرى بالقصتين الثالثة والرابعة جاء ممتازا، فى غياب تام لأى تطويل دون داعٍ ولا استرسال فى التفاصيل دون حاجة، وإنما تطرق مباشر لقضايا مثل جشع الأغنياء وحيرة وقلة حيلة الفقراء، والماهية التى تكون عليها «الخطيئة» هل هى مستترة أم ظاهرة.
«فى ظل الجميزة العجوز ما زال الأب جالسا والأم ملتصقة بجانبه، ينظران إلى الأفق البعيد بأعين غائمة، تتوالى الأيام دون أن يستطيعا رؤيتها وهى تبدل طابعها، ولكنهما يحسان بالزمن مع توالى روائح الزرع والقلع والحصاد، ولكن الانتظار هو الانتظار نفسه».
ينقلنا المنسى قنديل إلى عالم المهمشين والمطحونين فى «اتجاه واحد للشمس ويوم مصرى جاف»، حيث الفقر هو صاحب الكلمة العليا، الأمر الذى يبرهن على وجود حالة من الوحدة العضوية والفنية بين النصوص كلها بالقصص الأربع التى يصفها صاحبها على الغلاف بأنها «ليست قصيرة»، حيث الكل يشترك فى نقاط التشابه التى تتمثل فى بيع النفس البشرية بأرخص الأثمان، لذا فإن الكاتب نفسه وصف تلك النصوص بأنها «تجارب قاسية ومرثية من أجل حياة الآخرين».
ويعد محمد المنسى قنديل أحد أشهر كتاب القصة والرواية فى مصر والعلم العربى، ولد فى المحلة الكبرى عام 1949 وتخرج فى كلية طب المنصورة عام 1975، ولكنه انشغل بإعادة كتابة التراث فاعتزل الطب وتفرغ للكتابة، حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1988، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2021.
صدر له عدة روايات، منها: «قمر على سمرقند» التى فازت بجائزة «ساويرس» للآداب عام 2006، و«يوم غائم فى البر الغربى» التى وصلت إلى القائمة القصيرة فى الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2010، ورواية «كتيبة سوداء» التى وصلت إلى القائمة الطويلة فى الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2016.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved