المستشار مصطفى الشريف يكتب: فن البحث عن الممكن.. التفاوض بين السياسة والقانون 

آخر تحديث: الأربعاء 28 يوليه 2021 - 10:45 ص بتوقيت القاهرة

١

"في الغرفة الخلفية، تنضج القرارات الهامة"

بعد أن اشتعلت الثورة الإيرانية ببضعة أشهر، وعاد الخميني من منفاه في باريس كي يرث السلطة في أرض فارس، اقتحم طلبة إسلاميون محسوبون على النظام الثوري الجديد السفارة الأمريكية في طهران، واحتجزوا ديبلوماسيين أمريكان لمدة جاوزت السنة، ٤٤٤ يوما على وجه التحديد. كانت أزمة مروعة وغير مسبوقة في تاريخ الأمة الأمريكية. حاول الرئيس كارتر التعامل مع الأمر، بالتفاوض تارة، ثم بالقوة تارة، وخاب في المحاولتين، ثم تبع ذلك محاولات سلمية انتهت باتفاق الجزائر، الذي بموجبه تحرر الأسرى الأمريكيون بعد يوم واحد من أداء الرئيس الجمهوري الجديد رونالد ريجان لليمين الدستورية، خلفا لسلفه كارتر، الذي كان لهذه الأزمة دور محوري في اسقاطه.

بينما كانت الأزمة تشتعل، والعالم يراقب من كثب كيف ستتعامل الدولة الأكبر في العالم مع هذه الإهانة، وتتطلع نحو النظام الثوري الجديد في الجبهة الأخرى من الكوكب، كانت الغرفة الخلفية في البيت الأبيض تضم خبراء التفاوض الأشهر حينها في الولايات المتحدة، بل والعالم كله، واحد من هؤلاء المستشارين في هذه الأزمة التاريخية هو هيرب كوهين.

عمل كوهين مستشارا لثلاثة من أهم رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الماضي، كارتر، ريجان، ثم بوش الأب، حظيت فتراتهم بأحداث فارقة، وسيولة سياسة ومجتمعية ألقت بظلالها على كل أوجه الحياة في الولايات المتحدة حينها، وتطلبت ممن هو في مثل موقعه مهارات خاصة في إدارة الأزمات وفي مهارة التفاوض على وجه التحديد، كما أن كوهين قد أسند إليه تدريب ضباط من المخابرات المركزية الأمريكية، ثم وعقب تقاعده عن خدمة الدولة، سعت إليه كبريات المؤسسات المالية في وول ستريت.

وإذ وجد السيد كوهين فسحة من الوقت مع تقدم العمر واقترابه من التقاعد، تلك المرحلة المثلى لكتابة المذكرات لكل الشخصيات المؤثرة في هذه البلاد، فوضع مؤلفه الذي يعد من أهم مصنفات علم التفاوض الوليد، أسس فيه قواعد وأصولاً لفن التفاوض، ورسم له ملامح واضحة، بعضها ولد على يده ومن زناد فكره، وأخرى زاد فيها على من سبقه، وصنع لها أطرا علمية مؤسسة على التجربة والملاحظة. في السطور التالية نعرض لطرف من عالم هذا الفن، وكيف زاره أهل السياسة والقانون، فكان مادة رئيسة في عملهم.

 

٢

"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض"

التفاوض نوع من النزال أو الاختصام بين طرفين، كل منهما يريد الوصول إلى هدفه، لكنه قد يتقاطع مع هدف أو مصلحة الطرف الآخر. وقد خلق التفاوض كي يكون لطرف منهما الغلبة على خصمه، متى تعلم ما قد جهله خصمه من دروب هذا الفن ومسالكه. قال تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". فالتفاوض نوع راق من دفع الناس بعضهم ببعض حتى يصل كل لمبتغاه، بسيف الحجة والمنطق، وبالقدرة على ابراز حقائق وتجاهل أخرى.

عندما صك كوهين تعريفا للتفاوض، صكه في ضوء أدوات التفاوض الرئيسية، والتي عليها يقوم الفن كله، حيث قال: "إن التفاوض هو استخدام المعلومة والقوة أو النفوذ والوقت،للوصول لأعلى درجة من القدرة على التأثير في سلوك الأشخاص المستهدفين"

وقبل أن نتعرض لهذه الأدوات الثلاثة، نقول أن أهم ما يميز طرح هذا الرجل في هذا الفن، ليست فقط هي نسبة مبيعاته وانتشار مؤلفه، وليست خبرة الرجل وصفاته الرسمية والمهنية غير المسبوقة التي أعطت لكتابه رصيدا وثقلا، بل يمكننا أن نقول أنه تجاوز في طرحه التفاوض السياسي والقانوني، متتبعا تعامل العامة بفن التفاوض في الحياة اليومية من تفاوض في المشكلات الأسرية، للتفاوض مع مسئول المبيعات بشركة الأجهزة الالكترونية، ذاهبا بذلك إلى التفاوض بين الدول وممثليها الرسميين، سواء في محافل رسمية معلنة، أو غرف التفاوض الخفية غير الرسمية، والتي تظهر بعد ذلك واقعاً ملموساً على سائر المستويات.

 

٣

سلاح المعلومة: "الهدف الحقيقي بين ظلمات ثلاث"

إذن، أدوات التفاوض الثلاث الرئيسة، هي المعلومة والوقت والنفوذ؛

أما المعلومة، فهي وقود المتفاوض الرئيس، وبها يمتلك ناصية الحوار ورزانة الحُجة، ويعرف منها مطامع خصمه ومخاوفه، فينطلق منها ويبرزها أو يتجاهلها، ومن ذلك يتولد القرار لدى الخصم بالشكل الذي يرضيه. وقيمة المعلومة في التفاوض تقوم بداءة على حقيقة أن التفاوض عملية متصلة وممتدة قبل المواجهة المباشرة بين الخصمين، فالتفاوضليس حدثاً واحداً يتضمن اتصالا بين الطرفين، فذلك هو"التفاوض المباشر"، أما التفاوض ككل فهو عملية زمنية ممتدة سابقة على التواصل المباشر بينهما، وما يسبق التواصل المباشر، هو جمع المعلومة الموثوقة المقدرة، وتسريب كل طرف ما يريد من معلومات عن نفسه إلى الخصم على وجه آخر.

ولكي نفهم بعضا مما تبلغه أهمية "المعلومــة" في التفاوض، نتعرض لفكرة واحدة مما يحمله ذلك الباب، ألا وهي فكرة "الهدف الحقيقي".

تعلمنا طبائع الأمور أن لكل متفاوض هدفا من وراء تفاوضه، أما علم التفاوض فيفترض أن هدف الخصم مخبأ بين ظلمات ثلاث، تبدأ ب "موقف تفاوضي معلن" يقرره الخصم ويعلن أنه يبغي تحقيقه من عملية التفاوض، و"هدف تفاوضي خفي" وهو الذي قد يخفيه عن المساومة المعلن، لكنه يبغي تحقيقه ويتعلق به تخطيطه من وراء ذلك، وأخيرا "الهدف التفاوضي الحقيقي" أو هو "ما تريده فعلاً" وهو الهدف الذي قد يخفى حتى على صاحبه نفسه، وهذا الهدف يحقق مصلحة الطرف بحد أدنى، ويحقق له الأمن مما يخاف، أو يحقق له ما يطمع، لكنه لا يكون مطروحا عادة في التفاوض العلني، وليس في الأجندة الخفية للأطراف.

نضرب مثالا على ذلك، بقضية الغزو الأمريكي للعراق، فإن الموقف التفاوضي المعلن هو أن العراق يمتلك برنامجا لتطوير الأسلحة النووية، والهدف الخفي هو وضع الغطاء الشرعي لغزو أمريكي للعراق، لا يخضع لإدانة مجلس الأمن، ويعد هجوما استباقياً وقائيا طبقا للقانون الدولي، أما الهدف الحقيقي أو ما كانوا يريدون فعلاً، فالظاهر لمن يتتبع الأمر أمران: أولهما وضع اليد على ثروات العراق الطبيعية، والأمر الآخر: إزاحة نظام مارق قد يشكل وجوده تهديدا للمصالح الأمريكية في هذه المنطقة. وإذا قرأ المتدرب على التفاوض الواقع ليسبر غوره، فسيصل إلى الهدف الحقيقي الذي قد يكون إذا تحقق وقاية من وقوع الحرب بما تحمله من دمار وإفقار وإزهاق أرواح بلا غاية سوى الهدف الحقيقي نفسه، ولا شيء بعده.

والوصول للهدف الحقيقي لدى الخصم في التفاوض هو معلومة جوهرية، فإن الوصول لها ليس مستحيلا وإن تعسر أحيانا. فقد تحمل بعض قصص التفاوض لمحة عن هذا، وهذا يعد ظلاً لعملية "إيقاع التفاوض"، التي صكها بالعربية لأول مرة كل من الدكتور شريف النجيحي والدكتور أحمد حمدان في كتابهما الرائد "قاموس الوساطة والتفاوض" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية.ومما يستحق الذكر أيضا، أن فقهاء الغرب قد أطلقوا على آلية الوصول للهدف الحقيقي التي ذكرناها "آلية البصلة" باعتبارها أنها جوهر مختف تحت طبقات من حقائق معلنة غير جوهرية. بينما أطلق صاحبا القاموس عليها اسم "آلية الجنين" باعتبار أن الهدف الحقيقي مخبأ في ظلمات ثلاث، كالجنين الذي أبدعه الرحمن، خلقاً من بعد خلق، في ظلمات ثلاث، قبل أن ينشد الحياة فيخرج صحيحا حياً، ولعل في الاختلاف بين مصطلحي البصلة والجنين، بعضا مما قد يصل إلى ذائقة القارئ عما قديضيفه تعريب هذه العلوم من آفاق، فوق ما ينقله من معرفة.

 

٤

سلاح الوقت: فيلا على أطراف المدينة أم غرفة في الشانزليزيه"

أما سلاح الوقت، فتتمثل فكرته الجوهرية، أنك تمتلك القوة في التفاوض طالما امتلكت سعة من الوقت، وفسحة في اتخاذ القرار أو في حسم الأمر، وعدم الاحتياج الملح لحسم الأمر في أسرع وقت. والأهم من ذلك أن تصدر لخصمك هذا الحال فيصبح عامل الوقت ضغطا عليه، وعنصر قوة لديك.

وكعادتنا، فالقصص الواقعي هو أبرز ما يوضح الفكرة، ومن صور أداة الوقت، تلك الواقعة التي حدثت في منتصف القرن الماضي، حين اجتمع ممثلون عن الشعب الفيتنامي مع ممثل للحكومة الأمريكية في باريس للتفاوض حول إنهاء الحرب. وكان المتفاوض الأمريكي قد حجز غرفة في وسط باريس لمدة أسبوعين، بينما يبدو أن بين وفد فيتنام من كان على دربة ودراية بعلم التفاوض، فأجر فيلا للوفد الفيتنامي على أطراف المدينة، وكانت مدة الإيجار ستة أشهر. كانت هذه التفصيلة التي تبدو غير ذات صلة بعملية التفاوض مهمة جدا في حسمها، ومنحت الجانب الفيتنامي اليد العليا على خصمه الأمريكي طوال التفاوض المباشر. فالجانب الفيتنامي قد علم أن خصمه قد حدد أسبوعين كمدى زمني يريد فيه انجاز الأمر، فإن مر الأسبوعان بلا تسوية فهو أمام أمرين، إما إعلان الإخفاق في التفاوض، أو الاستسلام لكثير من طلبات الخصم.

وليس الأمر يتعلق هنا بحجز فندق أو نفقات إقامة، ولكن بما تعلمه عن تقدير خصمك للوقت الذي يتصوره متاحا لحل الأمر، أو الإطار الزمني الذي لا يرغب في أن يتجاوزه بلا حل، فإن ذلك يضع قيودا غير محسوسة على كل تفاصيل خوضك للتفاوض، وحين يظهر ذلك بأي صورة علنية مثل مدة الإقامة المزمعة، فيمكن لخصمك أن يستغل ذلك كعنصر ضغط عليك، فيصل إلى مستهدفه، وهو الذي حدث بالضبط في جولة مفاوضات باريس.

 

٥

أدوات الضغط "كيف يصلون لما قد بدا مستحيلا"

أما النفوذ أو أدوات الضغط، فهي الأداة الثالثة والأهم، فإذا توصلت للممكن من معلومات عن الموقف التفاوضي لخصمك، ووضعت إطارا زمنيا ضاغطا عليه

وهي عبارة عن طيف من صور الضغط التي يستخدمها المتفاوض لكسب الجولة والضغط على الخصم.

ومن صور أدوات الضغط المتعددة:

ضغط المنافسة: والذي يقوم على إقناع خصمك أنك تملك قنوات عديدة أخرى لتحصل على ما تطلبه منه، فيزهد فيما يده ويرغب فيما تحتج به

وضغط الشرعية: وهو النفوذ القائم على الاعتقاد بسلطان أمر أو نهي، لمجرد تصوره بهذا الشكل لدى أطراف التفاوض دون سند لذلك من واقع أو تقنين

وضغط الاستثمار: وهو أن تجر خصمك إلى بذل مزيد من الجهد والوقت والمال للوصول إلى اتفاق معك، وحين يقطع شوطا من بذل الجهد، يصعب عليه التخلي عن الأمر دون الوصول لتسوية حتى لا تزداد خسائره فداحة، فيضطر إلى قبول ما قد يكون قد رفضه مسبقا.

وهناك ضغط الاحتياج، والإصرار، والاتجاه، وغيرها كثير من صور عديدة أخرى للنفوذ أو قوى الضغط على الخصم. ونضرب مثالا في هذا المقام عن ضغط العادة أو العرف المضطرد، فقد قامت احتجاجات فئوية في بعض المدن المتجاورة بإحدى الدول الفيدرالية التي تتمتع مقاطعاتها بحكم إداري ذاتي تحت لواء دولة واحدة، وما إن تمت تسوية الأمر في المقاطعة الأولى، حتى كان المحتجون في المقاطعة الثانية يبدأون تفاوضهم من حيث انتهى رفقاؤهم في المقاطعة الأولى، فيحصلون على المزيد. وكان مبعث قوتهم في هذا الأمر هو العرف الذي اطّرد بالتسوية الأولى، فأصبحت الأرض أمامهم ممهدة للانطلاق من حيث انتهى سابقوهم. فإدراك العادة أو العرف المسبق، ومن ثم التفاوض لمصلحتك على أساسه، صورة من صور الضغط الشهيرة في فن التفاوض.

 

٦

"زيـــارة جديـــدة لهذا الفن"

إن ما تعرضنا له فيما سبق هي أدوات التفاوض، أما منهجيته وطرائقه، فهو درب آخر لهذا الفن، وهو يمثل طريقة العمل ومنهجه وليس مضمونه وفكرته التي تناولناها سلفا.

ويكفي أن نشير إلى أن الذي اشتهر في عالم التفاوض منهجان: النمط التنافسي المستحوذ والنمط التعاونيالخلاق.

أما النمط الأول فهو الذي يقوم على تبني مواقف متطرفة، وعدم تقديم أية تنازلات، واستخدام الحيل العاطفية النفسية للوصول للتسوية التي يبتغيها، التنازل عن أي شيء لديهم يعد خسارة، حتى لو كان مقابله الوصول لحل مرضي. فتلك المدرسة تريد الحصول على كل شيء، وتعطي للوقت مدى متسعاً غير محدود حتى لا يضغط عليها الخصم من خلاله

أما النمط التعاوني الخلاق فهو الذي تهدف إليه عملية الوساطة الاحترافية في خلقه، وهي التي عرفها العالم في القرن الأخير، وتقوم فلسفتها على فكرة قد توضحها قصة الكعكة، وهي قصة تقول إن شقيقين قد اختصما بسبب كعكة، كلاهما يريد النصيب الأكبر، فقرر الأب أن يقوم أحدهما باقتسام الكعكة وأن يختار الآخر نصيبه المقتسم. فبرزت لذلك مصلحة للأخين في الاقتسام بالعدل والسوية. وهكذا يقوم التفاوض التعاوني على أن يصل الطرفان لتسوية عادلة، وأن يتنازل كل طرف عن بعض ما لديه مقابل ما لدى الآخر ووصولا لتسوية مرضية بوجه وعادلة بوجه آخر، وذلك باب آخر واسع في هذا الفن.

وأخيرا نشير إلى أن فن التفاوض يعتريه أيضا لغة الجسد، والحيل النفسية والدفاعية، وتكتيكات التفاوض وإيقاعه، وطرق إدارة وتوجيه التعارض بين الأطراف، هذه كلها أبواب من الفن لا تنفصل عنه. وحري بنا في هذا المقام أن نشير إلى أهمية هذا الفن وخطورة تركه، وحقيقة أنه يتراكم ويتطور كل يوم، وتدشن من أجله مدارس متخصصة في كليات السياسة وكليات القانون في الغرب، وحري بنا أن نعيد زيارته في بلاد الشرق، وأن تتضافر وتقدر جهود تعريبه، وأن يستخلص من براثن البديهة الفطرية والذكاء الاجتماعي المتراكم من الخبرة الحياتية اليومية المتاحة لكل ذي عينين، وليس علما تجريبياً وفنا متراكماً، يترتب على وجوده قرارات وقضايا ماسة بكل مظاهر الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved