سمير فؤاد يكتب: محاولة لإيجاد توازن
آخر تحديث: السبت 29 أغسطس 2020 - 12:30 ص بتوقيت القاهرة
يعتبر عبدالهادى الوشاحى (1936 – 2013) واحدا من أهم المثالين المصريين فى النصف الثانى من القرن العشرين.. كان أستاذا فى كلية الفنون الجميلة تخرج على يديه أجيالا من المثالين.. ولديه إيمان راسخ بأن التمثال من العناصر الرئيسية فى تكوين الفراغ العام.. ووجود الأعمال الصرحية الحقيقية فى الميادين هو من العناصر الهامة للراحة البصرية والنفسية لساكنى المدن.. وأن الأعمال المنتقاة بدون وعى ودون مقاييس تعبيرية فنية تسبب إزعاجا بصريا ينعكس بالسلب على المشاهد.
كان الوشاحى يعتبر أن ملكة النحت هبة من الخالق وأن بدعة كراهية فن النحت تجافى ما فطرنا الله عليه.. وقد قال فى هذا الصدد.. « لو لم أمارس مهنة النحت كنت سأدخل النار.. لأن الإبداع نعمة ومنحة من الله للبشر.. وأيضا تفوق إنسانى يجب المحافظة عليه.. كما أن العين يجب تدريبها على رؤية الأشياء الجميلة وهذا هو دور المبدع».
أعمال الوشاحى تتسم بصرحية التناول ورسوخ الكتلة والتداخل بين الكتلة والفراغ عبر تجاويف محسوبة فى كتلة العمل.. وكان مهتما بتمثيل الحركة سواء عبر امتدادات للكتلة أو بخلق ذبذبات وترددات تلتحم مع الفراغ الممتد خارج كتلة العمل مثل عمله الشهير «استشراف».. أو عن طريق خلق الإحساس بالتواجد على حافة الاتزان ومحاولة التحرر من إسار الواقع.
أنجز الوشاحى عمله الشهير «محاولة لإيجاد توازن» فى أوائل الثمانينيات وهو نموذج لأسلوب الوشاحى الفذ فى براعة تشكيل الكتلة والمزج باقتدار بين الليونة والصلابة واللااتزان والرسوخ فى آن واحد.
يثير اسم العمل عدة تساؤلات عن قصد الفنان عبدالهادى الوشاحى من هذه التسمية.. هل يسعى للوصول إلى توازن بين أجزاء العمل ككتلة فى حالة سكون.. أم هو يقدم حالة الحركة عندما تصل إلى نقطة اتزان وقتى تعقبه حالات من عدم الاتزان والتى تميز جسم فى حالة حركة.. أم أنه يبحث عن توازن بصرى فى الفورم وكيف تتفاعل الكتل والفراغات والخطوط والإنحناءات لكى تعطى فى النهاية توازنا بصريا.
العمل عبارة عن تمثال منحوت من الخشب لجسم أنثى فى وضع حركة.. فهى قد ارتكزت على فخذيها وثنت ساقيها أسفل جسدها.. ومالت بجذعها إلى الخلف فى وضع يكاد يتوازى مع مسطح الأرض.. ثم رفعت رأسها فى وضع رأسى وكذلك ذراعيها اللذان أحاطا بالرأس ليصنعا فراغا بيضاويا كبيرا مقارنة بحجم الرأس الصغير نسبيا.
نحن لا نعلم على وجه التحديد ما هى الحركة التى تؤديها.. هل هى ترقص أم تؤدى طقسا معينا أم تمارس رياضة أو نوعا من ألعاب السيرك ولكن الواضح أن ما تفعله يتطلب قدرات ومهارات بدنية عالية.
أول ما نلحظه فى العمل هو أنه يلتحم ويتفاعل مع الفراغ المحيط به.. فالفراغ يتداخل مع العمل بين الفخذين وأسفل وأعلى الجذع وبين الذراعين.. يدور وينعطف.. ويعلو وينخفض.. وينزلق مع إنسيابية التشكيل وتضاريسه المحسوبة والمنفذة بواسطة أستاذ متمكن من لغته وأدواته.
يشد انتباهنا ذلك التوازن الفذ بين أجزاء العمل.. فلو اعتبرنا أن منطقة الجذع هى المنطقة المحايدة فى العمل بحكم وجودها فى منتصف العمل ووضعها الأفقى الساكن.. فكتلة الفخذين من الجهة السفلية تتوازن مع كتلة الرأس والذراعين من الجهة العلوية.. إلا أنه قد تم تضخيم كتلة الفخذين بحيث تحرك مركز الثقل من المنتصف إلى الجزء السفلى وبالتالى أصبح هذا الجزء هو الركيزة الأساسية.. وقد أعطى هذا التضخيم قيمة بصرية لهذه المنطقة كمدخل للعمل وتم تأكيد هذا بتشكيل الفراغ المحصور بين الفخذين على هيئة بوابة ذات قوس علوى يأخذ مسار العين إلى منطقة الحوض حيث يوجد منخفض على هيئة وعاء دائرى.
إذا انتقلنا إلى الجزء العلوى فسنجد أن الذراعين يحيطان بالرأس على هيئة قوسين متقابلين يأخذان العين صعودا ويلتقيان؛ حيث اليدان اللتان تشيران إلى أسفل حيث يوجد النهدان اللذان يحصران بينهما أخدودا يشق طريقه نزولا بطول منطقة الجذع ليصل بالعين إلى منطقة الوعاء الدائرى أيضا.. ونكتشف هنا أن هذا الوعاء قد قصد الوشاحى عمدا أن يجعله مركزا للعمل سواء كبؤرة بصرية حيث تتلاقى جميع خطوط القوى أو كمركز ثقل الكتلة.
هنا إذن يكمن المعنى الذى أراد الفنان أن ينقله إلى الرائى.. هذا الوعاء الواقع فى منتصف منطقة الحوض حيث يوجد الرحم والذى يمثل القيمة العليا للأنثى كحافظة للنوع وراعية لاستمرار وجوده.. البوتقة التى تتشكل فيها الحياة.. هنا تكمن عبقرية الخلق ومعجزة الوجود.. نفحة من روح الخالق.