دار الخلافة (9).. رسالة أمان من عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس

آخر تحديث: الجمعة 31 مارس 2023 - 5:14 م بتوقيت القاهرة

محمد حسين

بعد وفاة النبي محمد -صل الله عليه وسلم- وإكماله لرسالته وأدائه الأمانة التي وُكل بها لأمته، بدأ التاريخ الإسلامي حقبة جديدة بمفردات وأبعاد متعددة، فرضها الجانب السياسي على المشهد في المجتمع الإسلامي، وبفعل الاختلاط بثقافات وأفكار مجتمعات مختلفة، مع مد الفتوحات واتساع رقعة الدولة، وتشكل من بعدها عصر الخلافة بعدما مضى عهد النبوة.

وعلى مدار ما يزيد على ألف عام، حكم الدولة الإسلامية العشرات من الخلفاء والحكام، بتتابع الدول الأموية والعباسية والمملوكية نهاية بالعثمانية، واختلفت مشارب ومآرب كل من تلك الدول وحكامها، ومن المراجع التاريخية وكتابات المفكرين، وتحت عنوان "دار الخلافة"، نتناول ملامح من سيرة الخلفاء ومواقفهم وفلسفتهم في حلقات مسلسلة على أيام شهر رمضان المبارك.

الحلقة التاسعة ..
تناولنا بالحلقة السابقة، بعضاً من المناقشات التي جرت بين عمر بن الخطاب والصحابة بشأن فتح مصر ونشر الإسلام بها وتخليص أهلها من الحكم الروماني الذي بعضوه ، لما نالوه من مساوئه.

وجاء الفصل في تلك المسألة التي حيّرت عمر بن الخطاب، على يد عمرو بن العاص الذي عدد من الحجج ما جعلت الفاروق يقتنع بفتح مصر،إيمان عمرو بالقدرة على فتح مصر إيمانًا مستندًا إلى منطق تتعذر معارضته، وهذا إلى جانب أن الإغراء بفتح مصر شديد؛ فقد كان عمر وكان كثيرون من العرب في عهده يعرفون الكثير عن مصر وثروتها، وعن برم أهلها بسلطان الروم وأساليب حكمهم؛ لذلك لم يرفض طلب عمرو ولكنه استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، وأقام ابن العاص ينتظر هذا الكتاب ويدبر في أثناء انتظاره خطة السير إلى مصر.

ونتحدث بحلقة اليوم، عن فصل جديد من الفتوحات العمّرية، وهو فتح «بيت المقدس»، والذي كان أحد أصعب من مواجهات المسلمينضد الروم،دما في الحصار لاٍنهاك البيزنطيين بنقص الإمدادات حتى يمكن التفاوض على الاستسلام غير الدموي، ليطلب في النهاية أهل إلياء (أحد أسماءمدينة القدس) الصلح مع المسلمين بشرط أن يأتي الخلفة بنفسه لإتمامه، حسبما روي في «البداية والنهاية» لابن كثير.

* عهد تسامح
وبينما عمر معسكر بالجابية (بلدة بالشام) فزع الناس إلى السلاح إذ رأوا خيلًا مقبلة عليها الفرسان في أيديهم السيوف، فتبسم عمر لمرآهم وقال: مستأمنة، لا تراعوا وأمِّنوهم، وكان هؤلاء رسل صفرنيوس أسقف بيت المقدس جاءوا يتمون الصلح مع أمير المؤمنين، وصالحهم عمر على صلح دمشق، بل على صلح أكثر منه سخاء، وكتب معهم كتابًا أورد الطبري نصه كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانها وسقيمها وبريئها وسائر ملتها؛ إنه لا تُسْكَن كنائسهم ولا تُهْدَم ولا يُنتقَص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم.

ولا يُكرَهون على دينهم ولا يُضَارَّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.

ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصُلبهم فإنهم على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم أن يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحصَد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.

* مشاهد روحانية من بيت المقدس

وأصبح عمر فجاء إليه صفرنيوس فسار معه خلال المدينة يريه آثارها ومواضع الحج منها، وكم ببيت المقدس من آثار! فهو بلد الرسل والأنبياء: إليه سار كليم الله يوم خرج من مصر ومعه بنو إسرائيل؛ وبه كانت قصة صلب المسيح، وتقوم لذلك فيه كنيسة القيامة، يذكر المسيحيون أن جثمانه دفن بها ثم رفع إلى السماء منها، وبه من آثار الأنبياء محراب داود وصخرة يعقوب، وهي الصخرة التي تذكر كتب السيرة أن رسول الله صعد منها في المعراج، هذا إلى أطلال هيكل سليمان التي بقيت تذكر ملكًا عظيمًا وأنبياء عدة، ولقد قام الكثير من هذه الآثار على أطلال معابد وثَنِيَّة شادها حكام فلسطين من قِبَل رومية، وشاد مثلها قبلهم حكام فلسطين من قِبَل مِصر، ولعل صفرنيوس لم يَضَنَّ على عُمَرَ فذكر له ما كان معروفًا من قصص هذه المعابد، وهي كثيرة.

وبينما الرجلان بكنيسة القيامة أدرك عمر موعد الصلاة، فطلب البطريق إليه أن يصلي بها فهي من مساجد الله، واعتذر عمر بأنه إن يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم وخالفوا عهد الأمان، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة، وكانوا قد مدوا له عند بابها بساطًا يصلي عليه، بحسب ما ذكر الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر.

وغدا نلتقي بحلقة جديدة..
أقرأ ايضا :

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved