هؤلاء أمام العرش: نجيب محفوظ يحاور الحكام والكتّاب (1)
آخر تحديث: السبت 1 يناير 2022 - 1:19 ص بتوقيت القاهرة
ــ أوزوريس يسأل مينا: لم لَمْ تقنع قومك بالكلمة قبل اللجوء إلى السيف؟
ــ المقوقس اليونانى الذى اعتنق المذهب اليعقوبى فرضى عنه الأقباط واعتبروه واحدا منهم
ــ المصريون وصفوا قراقوش بالظالم لأنه أزال مساكن كثيرين لكى يبنى سور القاهرة
ــ سعد زغلول: ثبت لى أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال
يصنع هنا الأديب الكبير نجيب محفوظ محاكمة لزعماء مصر بداية من مينا موحِّد القطرين وحتى أنور السادات، ويقيم حوارا بين الحكام ليصدر رائعته «أمام العرش.. حوار بين الحكام»، والتى صدرت طبعتها الأولى عام 1983، عقب صعود خطر التنظيمات المتشدِّدة واغتيالها الرئيس أنور السادات، فيدير نجيب محفوظ محاكمة متخيَّلة للزعماء، موظّفًا التراث الفرعونى فى تشكيل محاكمته؛ فأوزوريس وبجانبه إيزيس وحورس يستمعون لما يعرضه كاتب الآلهة من أعمال كل حاكم.
ومحكمة «أمام العرش» لا تعنيها التفاصيل الجدلية وإنما الإنجازات التى تحققت بالفعل، ويصل الصراع ذروته بين زعيمى حزب الوفد الليبرالى وبين زعماء دولة يوليو.
انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة فى قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح فى سمائه أحلام البشر. أوزوريس فى الصدر على عرشه الذهبى، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الآلهة مسندا إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبى القاعة صفت الكراسى المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين.
وقال أوزوريس:
ـ قضى على البشر منذ قديم بأن تمضى حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت، كالظل تتبعهم حاملة الأفعال والنوايا، وتتجسد فوق أجسامهم العارية، وعقب حوار طويل اتفقت الكلمة على أن هذه الساعة هى الساعة الفاصلة، وها هى المحكمة تنعقد من أجل سياحة طويلة فى الزمن.
==
**مينا.. الذى حارب أعداء مصر وانتصر عليهم
ـ الملك مينا.
ودخل من الباب فى أقصى القاعة رجل متلفعا بكفنه، عارى الرأس، حافى القدمين، وأخذ يقترب من العرش بجسمه القوى وملامحه الواضحة حتى وقف على بُعد ثلاث أذرع منه فى خشوع كامل.
وأومأ أوزوريس إلى تحوت كاتب الآلهة فراح يقرأ من الكتاب:
ـ أعظم ملوك الأسرة الأولى، حارب الليبيين وانتصر عليهم، وهاجم مصر السفلى وضمها إلى مملكته الجنوبية وأعلن نفسه ملكا على مصر كلها وتوج رأسه بتاج مزدوج، حَوَّل مجرى النيل وأنشأ مدينة منف فى الفراغ المتخلف عن ذلك.
وقال أوزوريس مخاطبا مينا:
ـ هات ما عندك.
فقال الملك مينا:
ـ لخص تحوت كاتب الآلهة حياتى فى كلمات، فما أسهل الكلام وأشق العمل!
فقال أوزوريس:
ـ لنا رؤيتنا فى تقييم الرجال والأفعال فلا تبدد الوقت فى الثناء على نفسك.
فقال الملك مينا:
ـ ورثت مملكة الجنوب عن أسرتى، وورثت معها حلما كبيرا طالما راود رجالها ونساءها وهو تطهير البلاد من الغرباء وخلق وحدة أبدية تضم بين جناحيها مملكتى الجنوب والشمال.
وكان صوت عمتى أوز أقوى محرك لإشعال ذلك الحلم الكبير، كانت ترمقنى بإشفاق وتقول:
ـ أتقضى عمرك فى الأكل والشرب والصيد؟
أو تقول بكبرياء:
ـ لم يعلمنا أوزوريس الزراعة لتكون مناسبة للاقتتال حول توزيع ماء الفيضان.
وقلت لزوجتى المحبوبة: إننى أشعر بجذوة تستعر فى صدرى ولن تبـرد حتى أحقق الحلم، ووجدتها زوجـة ملكية رائعة فقالت لى بحماس:
ـ لا تدع الليبيين يهددون عاصمتك، ولا تدع الناس يمزقون الأرض التى وحدها النيل.
وانكببت على تدريب الرجال الأشداء وصليت إلى الآلهة مستوهبا الرضا والنصر حتى تحقق على يدى الحلم الذى طالما راود آبائى وأجدادى.
فقال أوزوريس:
ـ أزهقت من أرواح الليبيين مائة ألف!
ـ كانوا المعتدين يا مولاى.
ـ ومن أرواح المصريين شماليين وجنوبيين مائتى ألف.
ـ راحوا فدية للوحدة.. ثم حل الأمن والسلام وتوقف نزيف الدم الموسمى من جراء النزاع حول مياه النيل..
فسأله أوزوريس:
ـ لم لَمْ تقنع قومك بالكلمة قبل اللجوء إلى السيف؟
ـ فعلت ذلك مع جيرانى وانضم بعضهم دون قتال، ثم حقق السيف فى أعوام ما لم تكن تحققه الكلمة فى أجيال.
ـ يقدم كثيرون هذا المنطق مداراة لإيمانهم بالعنف.
فقال مينا بحرارة:
ـ استحوذ على مشاعرى مجد مصر وأمنها.
ـ ومجدك الشخصى أيضا.
فقال الملك مينا بتسليم:
ـ لا أنكر ذلك ولكن الخير عمَّ البلاد.
ـ وكـان لأسـرتك وأعـوانك أوفى نصيب منه، وللفلاحين الحد الأدنى.
ـ مضى أكثر عهدى فى القتال والبناء، لم أنعم بحياة القصور ولم أهنأ بلذيذ الطعام والشراب ولم أمس من النساء إلا زوجتى، وكان لابد من مكافأة الأعوان على قدر أعمالهم..
وطلبت إيزيس الكلمة ثم قالت:
ـ مولاى يحاكم بشرا لا آلهة، وحسب هذا الرجل الشجاع أنه زهد فى النعيم والكسل فطهر البلاد من الدخلاء، ووحد مصر فأطلق قوتها الكامنة وكشف عن خيراتها المطمورة، ووفر للفلاحين الأمن والسلام، إنه ابن أعتز ببنوته.
وصمت أوزوريس قليلا ثم قال:
ـ أيها الملك، اتخذ مجلسك على أول كرسى فى الجناح الأيمن.
فمضى الملك مينا إلى كرسيه؛ مدركا أنه أصبح من أهل النعيم فى العالم الآخر.
===
**المقوقس.. دخلت مصر فى عهد جديد تحت حكم العرب
ـ المقوقس حاكم مصر.
فدخل رجل بدين مائل إلى القصر فمضى متلفعا فى كفنه حتى وقف أمام العرش.
وقرأ تحوت كاتب الآلهة:
ـ حاكم مصر من قبل الإمبراطور الرومانى، اعتبره الأقباط مصريا، وفى عهده غزا العرب مصر، وقد اتفق مع العرب تخلصا من الرومان، وبذلك دخلت مصر فى عهد جديد تحت حكم العرب.
فدعاه أوزوريس للكلام فقال:
ـ وليت حكم مصر من قبل الإمبراطور، ورغم أصلى اليونانى فقد اعتنقت المذهب اليعقوبى المصرى، فرضى عنى الأقباط واعتبرونى واحدا منهم، وقد رأيت الاتفاق مع العرب تخلصا من الرومان وحصلت بذلك على شروط حسنة.
فسأله أبنوم:
ـ كيف أمنت للاتفاق مع الغزاة؟
فأجاب المقوقس:
ـ أشهد أنهم كانوا غزاة شرفاء، وقد قسم قائدهم عمرو بن العاص القطر إلى أعمال وضع على رأس كل منها حاكما قبطيا فشعر الأهالى براحة لم يعرفوها منذ مئات السنين، وحرر العبادة من كل قيد فعبد الأقباط ربهم بالطريقة التى آمنوا بها.
فسأله رمسيس الثانى:
ـ ولم جشموا أنفسهم مشقة الغزو إذن؟
فقال المقوقس:
ـ كانت الجزية تحمل إلى بلادهم الأصلية، أما الهدف الأساسى للغزو فيما بدا لنا فكان الدعوة إلى دين جديد بشروا به يدعى الإسلام.
فقال أبنوم:
ـ واستقبلت مصر عصر شهداء من جديد؟
فقال المقوقس:
ـ كانوا يدعون إلى دينهم دون إكراه، ومن يشأ الثبات على دينه يدفع الجزية.
فسأله خوفو:
ـ ما وجه الخلاف بين هذا الدين وديننا القديم؟
ـ كانوا يؤكدون على وحدانية الإله!
فصاح إخناتون:
ـ هذا دينى وهذا إلهى، طالما آمنت بأننى سأنتصر فى النهاية، خبرنى كيف استقبل الناس هذا الدين؟
ـ لم يعتنقه فى حياتى إلا قلة لا وزن لها..
فقال أبنوم:
ـ دعونـا من الشجار حـول الآلهـة وحدثنـى عمـا أفاده الفلاحون الكادحون.
ـ لقد ألغى عمرو بن العاص كثيرا من المكوس التعسفية فتحسنت أحوال الفقراء.
فقالت إيزيس:
ـ عادت سياسة هذا الرجل على أبنائى بخير غير منكور.
فقال أوزوريس:
ـ يمنح شهادة تزكية لعلها تنفعه أمام محكمته الدينية.
==
** قراقوش.. المشهور بالظلم بلا وجه حق
ونادى حورس:
ـ الوزير قراقوش.
فدخل رجل ربعة ومضى حتى مثل أمام العرش.
ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال:
ـ دالت دولة الفاطميين فجاء صلاح الدين الأيوبى إلى مصر لينشئ دولة جديدة هى الدولة الأيوبية، وعملت تحت جناحه وزيرا، وشهدت إصلاحاته الداخلية من تنظيم للإدارة وتخفيف للمكوس وإقامة العدل، كما شهدت إنجازاته الخارجية مثل توحيده العرب ومحاربة المسيحيين الأجانب والانتصار عليهم، واستوائه بين الفرسان مثالا للشجاعة والشهامة والمروءة والعظمة. وقد تحريت فى كل أعمالى الصلاح والعدل ولكنى اشتهرت بالظلم بلا وجه حق وذلك نتيجة لاضطرارى إلى إزالة مساكن كثيرين وأنا أبنى سور القاهرة، فما عرف عادل بالظلم كما عرفت.
وسأله ــ بعد استئذان ــ تحوت كاتب الآلهة:
ـ ألم تعتدِ على أحجار بعض الأهرامات لتبنى بها سورك دون احترام للغابرين؟
ـ انتزعتها من آثار وثنية لأقيم بها مبانى فى سبيل الله ورسوله.
فقال خوفو:
ـ نسى الأحفاد دين الأجداد وشغلوا بحاضرهم.
فقال إخناتون:
ـ حسبهم أنهم آمنوا بإلهى.
فقال قراقوش:
ـ لم يكن خلفاء صلاح الدين على مستواه، وجاء مسيحيو الشمال ليقضوا على مجدهم فهلكت دمياط وتعذبت رشيد وقتل الرجال وانتهكت النساء، ولكنهم فى النهاية انهزموا وغادروا البلاد.
فقالت إيزيس:
ـ وذهبت دولة بخيرها وشرها.
فقال أوزوريس:
ـ اذهب إلى محكمتك مشكورا.
===
** عمر مكرم.. المدافع عن الشعب المصرى المعذب
وهتف حورس:
ـ السيد عمر مكرم.
فدخل رجل دون الطويل وفوق المتوسط ذو بنيان مستقيم، فمضى فى كفنه حتى مثل أمام العرش.
ودعاه أوزوريس للكلام فقال:
ـ ولدت فى أسيوط، وتلقيت العلم والأخلاق والدين على يد الصفوة، ثم تبوأت نقابة الأشراف، ودأبت على ردع القوى دفاعا عن الشعب المعذب، ولما جاء الفرنسيون لغزو بلادنا دعوت الشعب للقتال وسرت فى طليعته، ولكن جيوشنا انهزمت واحتل الفرنسيون القاهرة، وقد اختارونى لعضوية الديوان فرفضتها بإباء وهاجرت إلى سوريا تاركا أموالى وأملاكى عرضة للنهب، ولما غزا الفرنسيون سوريا أعادنى نابليون إلى مصر مكرما ولكنى اعتزلت فى بيتى، ولما ثارت القاهرة كنت على رأس ثورتها، فلما أخمدت بقسوة هاجرت من مصر ثانية ولم أعد إلا بعد جلاء الفرنسيين. وتزعمت الثورة على المماليك، وعلى الوالى التركى، وبايعت حاكما جديدا لما آنست فيه من ميل إلى المصريين وجنوح إلى العدل والاستقامة، وحتى ذلك الحاكم قاومته لما تناسى تعهده لنا فنفانى، وانتهت حياتى فى المنفى..
وتكلم أبنوم فقال:
ـ إنك فرد من الشعب كرس حياته للدفاع عن الشعب، دعاه للقتال لأول مرة منذ ثورتى المباركة، وثار على الحاكم الأجنبى وولى بقوة الشعب حاكما جديدا، خبرنى أكان الحاكم الجديد من أبناء الشعب أيضا؟
فأجاب السيد عمر مكرم:
ـ كلا، ولكنه كان مسلما وبدا لى عادلا.
ـ يا للخسارة، ولِمَ لَم تستولِ على الحكم؟
ـ ما كانت الدولة العثمانية توافق على ذلك.
ـ أقول مرة أخرى يا للخسارة.
فقال إخناتون:
ـ لعلك آثرت وحدة الإسلام دين الإله الواحد؟
فأجاب السيد عمر مكرم:
ـ أجل، ذاك ما آثرته كمؤمن بالله ورسوله.
وقالت إيزيس:
ـ على أى حال، فإنى سعيدة بهذا الابن.
وقال أوزوريس:
ـ إنك تستحق مكانك بين الخالدين وسيسجل ذلك فى تزكيتنا لك.
==
**سعد زغلول.. قالت عنه إيزيس: برهن على أن شعب مصر قوة لا تقهر ولا تموت
ونادى حورس:
ـ سعد زغلول.
فدخل رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، قوى القسمات، جذاب الملامح، وتقدم فى سيره حتى مثل أمام العرش.
ودعاه أوزوريس للكلام فقال:
ـ ولدت فى أبيانة، درست فى الأزهر، تتلمذت على يد جمال الدين الأفغانى، عملت محررا بالوقائع المصرية تحت رئاسة وأستاذية محمد عبده، انضممت إلى العرابيين فى ثورتهم، وفى أول عهد الاحتلال البريطانى اعتقلت كعضو فى جمعية الانتقام وفصلت من وظيفتى، وعملت فى المحاماة، فالقضاء، اخترت وزيرا للمعارف ثم وزيرا للعدل، وعقب انتهاء الحرب العظمى الأولى وإعلان الهدنة توليت زعامة الحركة الوطنية، وأقمتها على أساس متين من الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وناديت بحق مصر فى الحرية والاستقلال، فقبضت علىَّ السلطات البريطانية ونفتنى إلى جزيرة مالطة، وما أن ذاع الخبر حتى قامت الثورة الشعبية احتجاجا على نفيى ومطالبتى بالاستقلال؛ مما اضطر إنجلترا إلى الإفراج عنى، وسافرت مع أعضاء الوفد إلى باريس لعرض قضيتنا على مؤتمر الصلح فأغلق أبوابه فى وجوهنا، ودخلنا فى مفاوضات مع الإنجليز دون نتيجة، وحدث انقسام فى الوفد، ورجعت إلى مصر، ثم نفيت مرة أخرى إلى جزر سيشل فى المحيط الهندى ولم يفرج عنى إلا سنة 1923، وتوليت الوزارة سنة 1924 بعد انتخابات شعبية، ودخلت فى المفاوضات التى سرعان ما فشلت، واضطررت إلى الاستقالة عقب اغتيال أحد كبار الإنجليز، ثم ائتلفت الأحزاب أمام دكتاتورية الملك، وتوليت رئاسة مجلس النواب، تاركا رئاسة الوزارة للدستوريين، ودارت المفاوضات من جديد ولكنى غادرت الدنيا قبل أن أعرف نتائجها.
وتكلم أبنوم فقال:
ـ لقد قمت أنا بأول ثورة شعبية فى نهاية الدولة القديمة وقمت أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين؛ فأنت أخى وخليفتى وحبيبى.
فقال الملك خوفو:
ـ ثمة فرق بين الثورتين يجب أن يذكر، وهو أن ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كله فقراء وأغنياء على الاحتلال الأجنبى.
فقال أبنوم:
ـ أعتقد أن الأغنياء لا يحبون الثورة.
فقال سعد زغلول:
ـ حرصت من أول الأمر على الاتحاد كقوة لا غنى عنها أمام العدو، ولكن ثبت لى أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال.
فقال أبنوم:
ـ كان يجب أن تتخلص منهم.
فقال سعد زغلول:
ـ لقد انشقوا علىَّ راسمين لأنفسهم طريقا إلى الاستقلال يناسب رؤيتهم.
وقال الملك مينا:
ـ لقد وحدت المصريين كما وحدت أنا مملكتهم؛ فأنت فى ذلك صديقى وخليفتى.
وسأله أمحتب وزير الملك زوسر:
ـ رغم ما ثبت لك من زعامة بعد الثورة فإنك قبلت العمل فى ظل الاحتلال قبل الثورة ولم تنضم للحزب الوطنى، ما تفسير ذلك؟
فقال سعد زغلول:
ـ كان الحزب الوطنى يدعو إلى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة إلا بعد الجلاء مما يعنى بقاء الاحتلال إلى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة الإنجليز عليها، ولا يكفى فى نظرى أن تطالب الناس بسلوك معين ولكن يجب أن يكون هذا السلوك ممكنا دون تهاون أو إجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام، وقد استطاع مصطفى كامل مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديو وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟ إن اتبعوا مثل زعامتهم هلكوا وإن خالفوها مضطرين خانوا العهد، فكيف يدعو أناس إلى ذلك المبدأ المتعالى الذى يعز على التطبيق ويورث الشعور بالإثم؟ ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب؟ وقد قبلت الحياة الرسمية لأمارس من خلالها ما استطعته من مقاومة ومن أداء خدمات لوطنى كان فى أشد الحاجة إليها، وقد اعترف بذلك خصومى قبل أصدقائى.
فقال أوزوريس مخاطبا الجميع:
ـ أعمال هذا الزعيم مدونة فى الكتاب لمن يريد أن يطلع عليها، ولكنا فى هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاصلة.
ثم خاطب سعد قائلا:
ـ زعم خصومك أن الثورة قامت وأنت فى المنفى وأنك لم تفعل شيئا لإشعالها بل إنك دهشت لقيامها كحدث غير متوقع، فما قولك فى ذلك؟
فقال سعد زغلول:
ـ كانت حال البلاد تدعو لليأس، وأعترف بأننى دهشت لقيام الثورة كما دهش الزعيم السابق لى وهو محمد فريد ولكنى لم أقصر فى تهيئة الجو لها بالخطابة لدى كل مناسبة والاجتماع بالناس فى بيتى وفى دعوة الناس فى الريف والمدن لتأييدى فى موقفى مما عبأ الشعور القومى، والثورة قامت احتجاجا على نفيى فكان شخصى فى الواقع هو مشعلها المباشر.
فقال أبنوم:
ـ الموقف الخطير يتطلب عادة سلوكا معينا والزعيم القادر هو من يستطيع أن يكون القدوة لهذا السلوك، وقد كان الموقف يحتاج إلى التضحية، فهى أقصى ما يستطيع شعب أعزل أن يقدمه حيال قوة قاهرة، ولما تحدى سعد العدو واضطره إلى نفيه أعطى هذه القدوة المطلوبة ففعل الشعب مثله وقامت الثورة، ومما يشهد لسعد بالعظمة أنه أقبل على التضحية وهو يائس من ثورة تحميه أو تدافع عنه فكانت تضحيته كاملة؛ شجاعة نبيلة لا أمل لها فى أى نوع من النجاة، ولو كان يأمل فى ثورة لقلل ذلك درجة من ضخامة تضحيته.
فقال أوزوريس:
ـ وقيل أيضا إن تعصبك لزعامتك هو ما اضطر العقلاء من معاونيك على الانشقاق عليك، فما قولك فى ذلك؟
فقال سعد زغلول:
ـ المسألة أننى اندمجت فى الثورة وآمنت بها ووجدت فيها ضالتى التى كنت أبحث عنها طوال حياتى، أما العقلاء فقد كرهوا الثورة وخافوها وقنعوا بالحلول الزائفة، كانـوا ذوى مـال وخبـرة وحنكة ولكن وطنيتهم لم تكن خالصة كما كان إيمانهم بالشعب معدوما.
فقال أوزوريس:
ـ وقال بعض أعوانك إنه كان يجب أن تبقى على رأس الثورة ولا تقبل رئاسة الوزارة؟
فقال سعد زغلول:
ـ كانت وزارتى امتدادا للثورة على المستوى الرسمى..
فقال أبنوم:
ـ كنت أفضل أن تأخذ برأى أولئك الأعوان!
وهنا قالت إيزيس:
ـ لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البار الذى برهن على أن شعب مصر قوة لا تقهر ولا تموت.
وقال أوزوريس:
ـ إنك أول مصرى يتولى الحكم منذ العهد الفرعونى، وتوليته بإرادة الشعب؛ من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهى المحاكمة، ثم تمضى بسلام إلى محكمتك مصحوبا بتزكيتنا وصادق أمانينا.
واتخذ سعد زغلول مجلسه بين الخالدين فى قاعة العدل المقدسة.
==
** مصطفى النحاس.. أجلسه محفوظ مع الخالدين حتى نهاية المحاكمة
وهتف حورس:
ـ مصطفى النحاس.
فدخل رجل قوى الجسم والوجه مائل للطول، تقدم فى سيره حتى مثل أمام العرش.
ودعاه أوزوريس للكلام فقال:
ـ ولدت فى سمنود فى أسرة من أبناء الشعب الفقراء، وبفضل اجتهادى أتممت تعليمى، ولتفوقى عينت فى القضاء فعرفت بالعدل والنزاهة، وكنت من أنصار الحزب الوطنى الذى زاملت رئيسه طالبا بالمدرسة الخديوية، وعند تأليف الوفد برئاسة سعد زغلول اختارنى عضوا فيه، ونفيت معه إلى سيشل عام 1921، واشتركت فى وزارته الشعبية الثورية، وعقب وفاته انتخبت رئيسا للوفد، وحملت عبء الجهاد فى سبيل الاستقلال والحياة الديمقراطية ربع قرن من الزمان، وقد توليت الوزارة سبع مرات وأقلت منها ست مرات لخلافات مع الإنجليز أو الملك، وفى 1936 وتحت ضغط التهديد بحرب عالمية قبلت الائتلاف مع الأحزاب وعقدنا معاهدة مع الإنجليز اعترفت باستقلال مصر، ووعدت بالجلاء بعد عشرين عاما، وقامت الحرب العالمية فى فترة حكم استبدادى ملكى، واتهم الملك بالاتصال بأعداء الإنجليز فنشبت أزمة سياسية خطيرة وفكر الإنجليز فى خلع الملك، وتقدمت لإنقاذ البلاد والعرش وألفت وزارة فى ظروف عسيرة، ولما انتهت الحرب بانتصار الإنجليز شرعت فى المطالبة بالجلاء الفورى ولكن الملك أقالنى، ورجع الملك إلى استبداده وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ حتى اضطر إلى الموافقة على استفتاء الشعب عام 1950، فرجعت إلى الوزارة، وفاوضت الإنجليز من أجل الجلاء، ولما لم أجد منهم استجابة ألغيت المعاهدة وأعلنت الجلاء فتآمر علىَّ أعدائى فى الداخل والخارج واستطاع الملك أن يتخلص منى. وقامت ثورة يوليو واضطررت إلى اعتزال السياسة حتى وافانى الأجل.
فقال أوزوريس:
ـ يهم الحاضرون أن يعرفوا بعض الإنجازات التى قدمتها فى أثناء توليك الوزارة.
فقال مصطفى النحاس:
ـ بالرغم من أن الشعب لم يحكم إلا ثمانية أعوام نظير تسعة عشر عاما استبد فيها الملك وأحزاب الأقلية بالسلطة، وبالرغم مما تعرضت له من اضطهاد وعسف ومحاولات متكررة لاغتيال حياتى فقد وفقنى الله إلى تحقيق خدمات غير قليلة، منها على سبيل المثال، إلغاء الامتيازات الأجنبية، إلغاء صندوق الدين، تأسيس جامعة الدول العربية، استقلال القضاء، استقلال الجامعة، قانون التوظف، منع الأجانب من تملك الأراضى الزراعية، التعويض عن إصابات العمل والتأمين الإجبارى ضدها، الاعتراف بنقابات العمال، فرض استعمال اللغة العربية فى الشركات الأجنبية، الضمان الاجتماعى، ديوان المحاسبة، مجانية التعليم الابتدائى والثانوى والمتوسط، ديوان المحاسبة.
وقال أبنوم:
ـ مرحبا بالثائر الشعبى الثالث فى حياة شعبنا، وقد استمد قوته من إيمانه بشعبه وإلهه، واتسمت حياته بالكفاح الطويل والنزاهة، وقد عاش فقيرا ومات فقيرا.
وقال الملك إخناتون:
ـ تقبل حبى أيها الزعيم، إنك مثلى تفانيا فى الإيمان بالإله الواحد، والإخلاص للمبادئ الطاهرة، ومثلى أيضا فى حب البسطاء من الشعب والاختلاط بهم دون حاجز من التعالى أو الكبرياء، ومثلى تعرضت لعداوة الأوغاد وعباد السلطة وأسرى الأنانية حيا وميتا، ومثلى أخيرا فيما حظيت به من نشوة النصر وما ابتليت به من الجحود والهزيمة، ولكن أبشر فالنصر فى النهاية لنا.
وهنا قالت إيزيس:
ـ هذا ابن أصيل من أبنائى البررة.
فقال أوزوريس:
ـ إنى أهبك حق الجلوس مع الخالدين حتى نهاية المحاكمة، ثم تمضى إلى محكمتك مشفوعا بأكرم تزكية.