فاتن مرسي: رضوى عاشور.. هكذا تكلمت الأستاذة - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:04 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فاتن مرسي: رضوى عاشور.. هكذا تكلمت الأستاذة

رضوى عاشور
رضوى عاشور

نشر في: الإثنين 1 يونيو 2020 - 4:01 ص | آخر تحديث: الإثنين 1 يونيو 2020 - 4:01 ص

الجامعة حاضرة فى كل أعمال رضوى وهى صلب الحدث الروائى فى روايتها «أطياف»

د. فاتن مرسى
أستاذة الأدب المقارن بكلية الآداب ــ جامعة عين شمس

وهل هناك فرق بين رضوى الإنسانة ورضوى الكاتبة ورضوى الأستاذة؟ ألا يمثل هذا الثالوث عنوان الإرث الذى تركته لنا شجرتها الوارفة التى ما زلنا نستظل بظلها حتى فى غيابها؟

أستعيد هنا وهج الابتسامة المضيئة التى رأيتها فى المرة الأولى فى إبريل من عام ١٩٧٧. كنت فى الفرقة الأولى وقد سمعت مرارا من طلاب وطالبات الفرق الأعلى عن رضوى عاشور وعن محاضراتها التى لا يمكن «تفويتها». شعرت من فرط حبهم واحترامهم لها أننى لن أستطيع الصبر عامين أو أكثر لحضور محاضراتها فى الفرقة الثالثة أو الرابعة؛ فقررت حضور محاضرة للفرقة الثالثة فى مقرر الشعر الرومانسى.. ذهبت إلى القاعة وكانت تغص بالطالبات والطلاب فوضعت حقيبتى على الأرض وجلست فوقها فى انتظار الدكتورة. وإذا بامرأة جميلة شعرها يصل إلى كتفيها ترتدى فستانا من اللينو الأبيض والأحمر، جميل فى بساطته، وتضع على كتفيها جاكيت من الصوف الخفيف، حيث كنا فى أواخر شهر الربيع. وقفت بابتسامتها الآسرة تحيى الطلاب وتسألهم إذا كانوا مستعدين لبداية الدرس. صمتَ الجميع لثلاث ساعات حيث حلَّقت بنا رضوى عاشور فى فضاء الشعر الرومانسى الإنجليزى، تقفز برشاقة مدهشة وهى فى الأسابيع الأخيرة لحملها، بين الشعراء الإنجليز والألمان والفرنسيين؛ بين بليك وجبران، من فلسفة جوتة إلى التجربة الصوفية الإسلامية، طارت وطرنا معها وحلقت بنا فى رحاب الشعر والفلسفة، فملكت القلب منذ تلك اللحظة. تعجبت من هذه القدرة على أن تطير «فعلا لا مجازا»، كما ستفصح هى لقرائها، عن ظاهرة شعورها بالطيران فى روايتها فرج التى قرأتها بعد ثلاثة عقود. لقد انتبهت منذ تلك اللحظة الأولى إلى البساطة والأناقة التى لازمتها طوال الوقت دون الاهتمام بأى بريق زائف، كما تفعل بعض الأساتذة الجامعيات أو «الدمى»، وقد أشارت هى فى «أثقل من رضوى» إلى «انتباهها مبكرا أن مشروع الدمية لا يروق لها».

ومنذ تلك اللحظة لم تغب ابتسامتها التاريخية التى تضىء وجهها، كلما التقينا فى القسم أو خارجه. تدخلنا بترحاب وكرم فى عالمها، عالم الأستاذة والمبدعة، غارسة فينا ــ دون مباشرة أو تعمد ــ أهمية الانحياز للقيم الأكاديمية والإنسانية من البحث الدائم عن الصدق ورفض كل أشكال القهر. علمتنا أن على الأستاذة الحقيقية أن تكون مثقفة وحرة، فعلت ذلك فى مجتمع أكاديمى تنتشر فيه مظاهر الاستبداد والتراتبية والهوس بالأقدمية واحتقار من هو أقل فى الدرجة العلمية، وفى الوقت الذى كانت تواجه فيه من يعتبرون «أن لكل طالب أو أستاذ حيزا مقررا لا يحق له مغادرته».. كانت تأخذ فى ذات الوقت بيد الباحث أو الباحثة الشابة الجادة حتى ينهض أو تنهض. من هنا جاء التكامل المدهش بين مواقف الأستاذة النضالية داخل الجامعة (فهى من مؤسسات حركة 9 مارس أو مجموعة استقلال الجامعات)، ومشروعها النضالى الأوسع ضد كل شكل من أشكال الاستبداد أوأى مظهر من مظاهر القبول بالتبعية باعتباره أمرا واقعا. بل امتد هذا الاهتمام لكتاباتها الإبداعية والتى تبرز فيها الجامعة باعتبارها فضاء أو مكونا أساسيا من مكونات السرد.

والواقع أن الجامعة حاضرة فى كل أعمال رضوى عاشور سواء تعلق الأمر بالسيرة الذاتية (الرحلة، أثقل من رضوى، الصرخة)، أو بالنصوص القصصية أو الروائية (حجر دافئ، خديجة وسوسن، رأيت النخل، قطعة من أوروبا، أطياف، تقارير السيدة راء)، وعليه فباستثناء الروايات التاريخية: ثلاثية غرناطة، سراج ورواية الطنطورية، قدمت لنا رضوى عاشور المكان (الجامعة)، كمكان تاريخى وواقعى محسوس يتكون من عناصر مادية محددة فى بعدها السيميائى (ساعة جامعة القاهرة، بوابة الجامعة، تمثال نهضة مصر، كوبرى عباس، قصر الزعفران، مدرج شفيق غربال (بكلية الآداب جامعة عين شمس) وغيرها، ولكن الأهم من هذه الأماكن الصماء هى علاقتها بالأشخاص وبالزمن الذى توجد فيه، ويظهر ذلك فى علاقة جيل الطلبة فى السبعينيات بالجامعة كمكان، وبالأحداث التاريخية، كما صورتها فى حجر دافئ وخديجة وسوسن، أو من خلال دراسة القيم الرمزية أو العلاقات النفسية والعاطفية والروحية، كما صورتها من خلال نموذج الأستاذة الجامعية (شجر عبدالغفار فى رواية أطياف) والسيدة راء فى التقارير.

وفى مقال مهم لرضوى عاشور بعنوان «تجربتى فى الكتابة» تتحدث الأستاذة عن علاقتها الملتبسة بالجامعة: «أضج بالجامعة وأحيانا أكرهها ولكنى أنتمى إليها».. وتتبع الكاتبة هذا البوح بانتقاد نظام الجامعة الصارم «الذى يحكمك أكثر مما تتحكم فيه» (128)؛ إذ تشير إلى «التجربة الكافكوية» التى تتكرر مع مطلع الصيف كل عام؛ حيث «يتعين عليك أن تصحح مئات كراسات الاجابة.. التى تعكس فى الغالب خيبة نظام تعليمى وعجزك الفردى مهما بلغت من اجتهاد وعطاء عن مواجهة هذا النظام» (128). ولكن سرعان ما تتراجع رضوى عن هذا الموقف، فتؤكد أن الجامعة تشكل بالنسبة لها «ثوابت حياتها». فكيف يمكننا أن نفسر هذا التناقض أو الالتباس؟ سوف أركز حديثى على عملين: هما «أطياف» و«تقارير السيدة راء» فى محاولة الاستعانة ببنية النصين التى أرادت الكاتبة من خلالها مناهضة الشكل التقليدى للرواية الواقعية أو التاريخية، فتغدو هذه الروح الثورية على مستوى الكتابة وتقنياتها معبرة عن الجماليات القائمة على النضال من أجل الحرية بمفهومها العميق، ومن أجل رفض كل أشكال القمع المحيطة بنا.

يتراوح السرد فى «أطياف» بين فصول السيرة الذاتية «لرضوى عاشور» الكاتبة وأستاذة الأدب الإنجليزى بكلية الآداب، بجامعة عين شمس، وبين الدكتورة «شجر عبدالغفار» أستاذة التاريخ فى جامعة القاهرة والقرين السردى للكاتبة. تتقاطع سيرة رضوى مع أحداث مرَّت بها شجر وتختلط بها، ولكنها تقدِّم بشكل متقطِّع وشديد التعقيد تأريخا لحقبة مهمة فى التاريخ المصرى والعربى الحديث، تبدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بثورة 1919، وتتخللها بعض الأحداث المهمة كواقعة كوبرى عباس عام 1946، ومظاهرات عام 1972. ويهمنا هنا التركيز على حكاية الجامعة وأحوالها، إذ تأخذ هذه الحكاية حيزا كبيرا فى الرواية نتعرف من خلالها على علاقة الأساتذة الباحثين بالدرس الجامعى، وكذلك الطلاب وموقفهم مما يحدث فى الجامعة، والإدارة الفاسدة أو المتسترة على الفساد. هنا تسعى رضوى عاشور إلى تعرية الحياة الأكاديمية برمتها. فهذا رئيس جامعة يستدعى شجر للفت نظرها لخطأ اشتراكها فى اعتصام الطلبة عام 1972، وذاك طالب فى جامعة إقليمية يحصل على أعلى الدرجات عن طريق الغش، عاكسا بذلك واقعا جامعيا يجعل من الغش والفساد سبيلا للتفوق. وتصل الأمور إلى مداها فتدرك شجر أن «المعركة مع العميد خاسرة كالمعتاد»، فتصل إلى نتيجة شبه حتمية عبرت عنها فى إشارة تناصية لهاملت شكسبير: «شىء عفن فى الدنمارك». إن حضور الكاتبة فى النص، ودرجة الشفافية التى تتعامل بها الرواية لا مع ذات سردية واحدة فحسب، يكشفان عن التصدع والانهيار الذى أصاب مؤسسة الجامعة المصرية فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

أما فى «تقارير السيدة راء» (2001) وهو العمل الذى يتألف من عدة تقارير عن الذات والوطن فى مطلع القرن الواحد والعشرين، فإن «التقارير» تقدم لنا أجزاء مبعثرة أو نتفا من تجارب السيدة «راء». تشير الكاتبة إلى «وظيفة» السيدة راء ولكننا نستشف أنها وظيفة أستاذة الجامعة. وفى التقرير الخامس المعنون بالمقامة «الهولمزية» نسبة إلى شيرلوك هولمز نتتبع تسلل السيدة «راء» ليلا بأدوات المحقق الشهير لضبط محاولات التلاعب بنتائج الامتحانات. إلا أن هذه المحاولة تبوء بالفشل؛ إذ تحذرها صديقتها أن تكف عن مطاردة الأشباح الذين تعتبرهم «راء» المجموعات الفاسدة الذين يتحكمون فى المصائر ويمتهنون إنسانيتها، وإلا سيصبح مصيرها مثل الرجل المجنون الذى يجوب شوارع وسط البلد فى السادسة صباحا. ما يجعل السيدة راء تتساءل فى نهاية التقرير «أيها سكة السلامة.. هولمزية هولمز الأصلى، أم الهولمزية الجديدة، أم هولمزية رجل السادسة صباحا»، (60)، أى الواقع الذى يؤدى بنا بالجنون.

مما يجعلنا نتساءل بدورنا: ما هو موقف الكاتبة الواضح والأساسى من الجامعة؟ هل ترى فيها فساد الزمان والمكان وعبثية كل شيء، كما نجد فى النصين الأدبيين المذكورين أم أن الجامعة «تبدد وحشة الواقع»، كما جاء فى مقالها «تجربتى فى الكتابة» (128)؟ أرى أن حل هذا التناقض الظاهرى يتطلب دراسة العلاقة الجدلية بين الكاتبة والجامعة عند رضوى الإنسانة من ناحية، وتحليل استخدام تقنيات المفارقة الروائية والتى تمنح الكاتبة المساحة اللازمة للتشكيك الدائم والنقد، من ناحية أخرى، وهذان شرطان من شروط رؤية الكاتبة الحرة والرافضة لأى سلطة متجبرة، والناقدة للذات وللحياة فى الوقت ذاته.

كم كانت تكرر رضوى عاشور على مسامعنا كونها محظوظة بوجودها بيننا، بل نحن المحظوظون؛ محظوظون أننا نلنا بعضا من ثمار العلم والمعرفة بل والأمل، التى كانت توزعها من «السلتين الكبيرتين التى كانت تحملهما مع كتبها وأوراقها».. فمن منا يستطيع أن ينسى الأطياف المقيمة؛ حيث تورق الذاكرة، وحيث تتدلى الثمار المحملة بتاريخ الأجداد وتفاصيل الحكايات.

ــ الرواية متاحة للشراء فى فروع مكتبات الشروق وعبر موقعها الإلكترونى



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك