الدكتور محمود محيي الدين يكتب: لحظات فارقة - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:24 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدكتور محمود محيي الدين يكتب: لحظات فارقة

محمود محيي الدين
محمود محيي الدين

نشر في: الأربعاء 3 يونيو 2020 - 9:28 م | آخر تحديث: الأربعاء 3 يونيو 2020 - 9:28 م

فى تاريخ الأمم والشعوب وتطورات الاقتصاد وحياة عموم الناس لحظات فارقة عما كان قبلها، ويكون لها ما بعدها من شئون وتبعات، وقد تكون اللحظة الفارقة على التنوع الذى ذكره الكاتب النمساوى ستيفان تسفايج فى كتابه الصادر عام 1927 عن «اللحظات الحاسمة فى التاريخ» والتى تراوحت بين لحظة هزيمة نابليون فى معركة ووترلو فى عام 1815، أو لحظة اكتشاف جون ستر للذهب من خلال عامله المخلص جيمس مارشال فى كاليفورنيا فى عام 1848، أو لحظة الفوز فى السباق على استكشاف القطب الجنوبى، الذى قاده ضابط البحرية الملكية البريطانى روبرت سكوت، ليجد الفريق النرويجى بقيادة رولد اموندسن قد سبقه إليه رافعا علم بلاده فى عام 1911.

وهناك لحظات حاسمة أخرى، منها تلك اللحظة التى استقل فيها فلاديمير لينين القطار إلى روسيا من منفاه فى سويسرا ليشعل الثورة الروسية فى عام 1917. أو تلك اللحظة التى عبرت فيها أول كلمة تلغرافيا من خلال كابل، صممه سيروس فيلد، اخترق المحيط من أوروبا لأمريكا الشمالية فى عام 1858، وغير ذلك أورد تسفايج لحظات أخرى أثرت فى الحياة الشخصية لمبدعين ومخترعين وقادة ومن ثم تبدلت أحوال الناس واقتصاداتهم فى القرنين الماضيين.

وعلى نفس المنوال ففى العقود الخمسة الأخيرة يمكن ذكر زيارة الزعيم الصينى دنغ زياو بنغ لدول آسيوية مرتفعة النمو ومجاورة لبلاده، فى عام 1978. لكى يقرر بعدها تبنى إصلاحات شاملة يتحرر فيها من الجمود الآيديولوجى، فكانت لحظة تبنى للبراغماتية حتى «لا تسبق بلاده بلدان أصغر حجما»، ويمكننا ذكر لحظة سقوط حائط برلين فى نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، وما تبعها من نهاية للمعسكر الشرقى والاتحاد السوفياتى وما أطلق عليه مسمى العالم الثانى. ونذكر لحظة سقوط برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك فى عام 2011، فيما عرف بأحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية، وما نجم عنها من ردود أفعال وحروب وقواعد رقابية وأمنية بدلت نظم وإجراءات السفر والهجرة حول العالم وليس فى أمريكا وحدها.

ومن اللحظات الفارقة، سقوط بنك ليمان براذرز ونشوب الأزمة المالية العالمية فى عام 2008، وما ترتب عليها من إجراءات كانت بذورا لأزمات لاحقة على النحو الذى استعرضه كاتب هذه السطور فى مقال نشرته هذه الصحيفة الغراء فى مارس (آذار) من عام 2009 تحت عنوان «من دواء الأزمة ما هو أكثر منها شرا».

وسيحتار المؤرخون وعلماء السياسة وخبراء الاقتصاد فى اختيار أى لحظة تحديدا من لحظات العاصفة الكاملة التى نشهدها اليوم، لكى يعتبروها لحظة حاسمة أو فارقة؛ فاللحظات الفارقات فى هذه السنة كثر:

ــ أهى لحظة إعلان الجائحة من قبل منظمة الصحة العالمية فى 11 مارس من هذا العام؟
ــ أم هى لحظة إعلان صندوق النقد الدولى فى شهر إبريل (نيسان) الماضى أن العالم قد دخل رسميا فى مرحلة ركود غير مسبوق، منذ عهد الكساد الكبير فى أواخر العشرينيات من القرن الماضى؟

ــ أم هى لحظة إعلان منظمة العمل الدولية عن خسارة أكثر من 300 مليون عامل فى القطاع الرسمى حول العالم أعمالهم ووظائفهم؟ أو تراهم سيدونون لحظات إعلان المنظمات الدولية عن مؤشرات تراجع التجارة العالمية بأكثر من 30 فى المائة، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما لا يقل عن 40 فى المائة، وهبوط تحويلات العاملين بالخارج بما لا يقل عن 20 فى المائة عن العام السابق، كمؤشرات لاتجاه قد يستمر لانحسار العولمة الاقتصادية؟

قد يرى بعضهم جدارة هذه اللحظات بالوصف بأنها فارقة، ومنهم من سيؤرخ لمقتل الأمريكى جورج فلويد تحت أقدام شرطة ولاية مينيسوتا، فى الخامس والعشرين من شهر مايو (أيار)، وما تبعها من احتجاجات ثم أحداث شغب فى عدة مدن أمريكية.

ولكن اعتبار اللحظة فارقة بميزان الاقتصاد السياسى لا يتوقف فقط على مدى جسامة الحدث إنسانيا كان أو سياسيا أو اقتصاديا ولكن بما يترتب عليها من تحولات كبرى فى مسار الأمم، وهذا يرتبط بالظروف المحيطة بالحدث وتلك الممهدة له. ويتعجل البعض فى اتباع نظرية الفوضى، وهى إحدى نظريات الرياضيات والفيزياء، وتطبيقها للتنبؤ بالأحداث فى عالم الاقتصاد السياسى، وخاصة فيما يتعلق بما يعرف بتأثير الفراشة. ويقصد به أن رفرفة جناح فراشة فى مكان من العالم قد يسبب أحداثا كبرى فى أماكن أخرى من العالم.

ولكن الأمر لا يتبع هذه الكيفية الفيزيائية عند التعامل مع أمور يسيطر عليها السلوك البشرى باختلاف ردود أفعاله وتباينها، ومخالفتها فى أحوال كثيرة للتوقعات. وتظهر دراسات تنتمى لمدرسة ما يعرف بالتاريخ البديل بأن وقوع ذات الحدث رغم جسامته فى زمن آخر وظروف مختلفة لا يؤدى لذات النتيجة التوقع. فعلى سبيل المثال فاغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية فى يونيو (حزيران) 1914. ما كان ليشعل الحرب العالمية الأولى، ولا حتى معركة صغيرة لولا أن الظروف السابقة على الاغتيال والمصاحبة له كانت متأججة بين القوى المتصارعة بما أشعل حربا كبرى.

ولمتابعة ما يسفر عن العاصفة الكاملة التى سببها فيروس كورونا وتداعياته يمكن النظر بعين الاعتبار لما يلى من «لحظات فارقة» على خمسة مستويات:

ــ على المستوى العالمى: فإلى أى مدى نعيش اليوم ما يعرف «بلحظة كيندلبرجر»، نسبة إلى الاقتصادى الأميركى تشارلز كيندلبرجر المتخصص فى اقتصاديات الكساد والأزمات، والذى أرجع حدوث الأزمة فى الثلاثينيات من القرن الماضى، إلى فقدان إدارة فاعلة وغياب التنسيق بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية؟

ــ على المستوى الإقليمى: هل نعيش «لحظة إقليمية أفريقية» بما نراه من همة لقادة أفارقة وللاتحاد الأفريقى فى وضع تحديات القارة فى مكافحة الفقر ومجابهة تحديات الديون على أولويات الاجتماعات الدولية؟ وهل نرى كذلك «لحظة إقليمية أوروبية» جديدة نحو الفيدرالية المالية بعد إعلان رئيسة المفوضية عن قرض يتم باسم الاتحاد الأوروبى، كسابقة أولى، كمواجهة جماعية لنفقات التصدى للوباء تسدد بعد ذلك من خلال الضرائب وانتفاعا بانخفاض أسعار الفائدة.

ــ وعلى مستوى كل دولة نجد «لحظات إيجابية» سجلتها دول مثل اليونان وفيتنام وكوريا فى السيطرة بنجاح على الوباء، رغم تباين مواردها فى حين تجد «لحظات إخفاق» فى دول كبرى لم يكن ارتباكها فى الحسبان.

ــ أما على مستوى الأسواق فهناك تخوف من تكرار «لحظة مينسكى» مع تزايد حمى المضاربة فى البورصات مدفوعة بضخ سيولة منخفضة التكلفة ومسترشدة بتوقعات مبالغ فيها عن الأداء المتوقع وزيادة فجوة التباين بين مؤشرات الاقتصاد الحقيقى وأرقام البورصات.

ــ أما عن عموم الناس، وقد واجهوا مفارقات مؤلمة وغير مسبوقة من حظر الحركة وفرض إجراءات التباعد الاجتماعى، بما يمكن أن نطلق عليه «لحظة مان»، نسبة إلى رواية الجبل السحرى للكاتب الألمانى توماس مان، إذ تعرض فيها لمعضلة عدم الإحساس بالزمن بفعل الملل مع البقاء فى عزلة فى مكان واحد دون تغيير. وعندما يتبدل الوضع مع السيطرة على الجائحة لن ترجع الأمور لما كانت عليه لتغير سلوك بعض الناس، ولما ستفرضه قواعد رقابية جديدة على أوجه مختلفة للحياة.
نقلا عن الشرق الأوسط.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك