الحى الروسى.. مدخل لحكاية سنوات الحرب فى سوريا - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:39 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحى الروسى.. مدخل لحكاية سنوات الحرب فى سوريا

الكاتب السوري خليل الرز
الكاتب السوري خليل الرز
كتب ــ عبدالله محمد:
نشر في: السبت 4 أبريل 2020 - 1:03 م | آخر تحديث: السبت 4 أبريل 2020 - 1:03 م

نحن الآن سندخل إلى عالم الحديقة التى تقطن فى الحى الروسى، وعدد حيواناتها قليل جدا كل ما يشغل تأمل بطلنا هو الزرافة التى احتلت مساحة شاسعة فى رواية «الحيّ الروسى» للكاتب السورى خليل الرزّ، الصادرة عن (منشورات ضفاف والاختلاف 2019)، والتى دخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العالمية لهذا العام. تلك الحديقة بكل ما فيها من عدد قليل وقوت أقل يؤكد لنا على لسان أبطال الرواية عن حال هذه الحديقة لا تكسب ببيع التذاكر ربما لا يأتى إليها أحد أو عددهم قليل.. فما الشيء الذى سيجذبنا فى تفاصيل تلك الرواية.
سنجد أن تلك الزرافة تحتل مساحة كبيرة فى الرواية فسنعرف أن «نونا» تقوم على نظافتها وتطعمها البصل، وحتى هذا الطعام الوجيز لا تستطيع إدارة الحديقة تحمل نفقته باستمرار: «ثم لم نعرف بعد وصل التلفزيون بجهاز الاستقبال ودائرة الكهرباء، كيف نملأ الوقت القليل الثقيل الباقى على حلول الظلام»، فى تلك اللحظة بعد وصول جهاز التلفزيون الـ 14 بوصة، يصف لنا الكاتب مدى الإحساس بالضيق لمرور الوقت ومدى رتابته، «جلسنا على الديوانة متجاورين ننتظر المساء الموشك بصبر نافد».
سيحدث أن أبطالنا سيبحثون عن قناة تليفزيونية فيها فقرة عن الغابات والسباع وتتحدث عن الزرافة ليرى كل منهم انعكاس رؤية الزرافة لسباع أو حياتها السابقة إلا أنها فى الأصل حفيدة لجيل سبقها فى الغابة ولكنها تربت فى سيرك، ليفاجأهم زميله فى صحيفة أنباء موسكو فيكوتور إيفانيتش وهو يراقبهم من على السطح: «الزرافة عمياء.. أصابها العمى بعد مرض، ولم تعد صالحة للسيرك، فقدموها هدية لنا منذ سنوات».
فيسأل الراوى دون تصديق تلك المعلومة أن الزرافة عمياء قائلا: «كيف يمكن أن تكون زرافة عمياء؟ هى التى لا تكل من الإصغاء الخالص إلى هواجسنا والتغلغل بنظراتها الصافية الثاقبة الدافئة السوداء إلى أعماقنا، كما لو أنها، فى كل مرة، تولف فينا وفيها خواطرنا الدفينة بخواطرها الخاصة، وأسرارنا بأسرارها، ومشاعرنا بمشاعرها».
فى الحى الروسى نحن أمام أشخاص أجاد الكاتب كسر التنميط المعتاد فى الكتابة حيث تعتمد على الحبكة والعقدة والحل، والسرد عند الكاتب أخذ شكلا مختلفا عما هو معهود عليه فى الراوية العربية، الشخصيات تطل علينا من البداية هناك شخصيات روسية مثل فيكتور إيفانيتش الذى كان يعمل مع الراوى هنا فى صحيفة أنباء موسكو، والكاتب الروسى أركادى كوزميتش ذلك المغمور الذى رفض الناشرون طبع رواياته، ويتحرك الكاتب بنا من الاتحاد السوفيتى سابقا وبين سوريا واندلاع الثورة، وكل هذا يدور فى الحى الروسى مكان افتراضى طرح الكاتب من خلاله هذا النص.

الزرافة والأم
أمه لم تكن من محبى كرة القدم وكان الراوى يجلس متفرجا على مباراة أرشيفية لمنتخب إسبانيا والأوروجواى، وكانت أمه المرأة السورية البسيطة المُصابة بمرض السُكرى التى سوف يبتر الأطباء ساقها، تطلب من ابنها الذى لا يبالى إلا بالمباراة أن يدفنها بعد العملية وهو يحكى قائلا: «وقد ظهرت أمى فى تلك الأيام تهتدى بيدها وتتوكأ على عصاها، وكما فهمت بعدئذٍ فقد جاءت إلى، فى تلك اللحظة الحرجة من عمر المباراة، لتطلب منى ألا أنسى فى سطل النفايات قدمها التى سيبترونها غدا فى مشفى الرازى، وأن عليّ أن أدفنها فى اليوم نفسه لكى تحشر معها يوم القيامة».
فى واحد من فصول الرواية يخبرنا الكاتب عن عصام، فيقول: «الحقيقة التى طالما عاشها عندما حطم أرقامه القياسية رقما وراء رقم فى الرماية ورفع الأثقال، وعندما وجد نفسه ذات يوم فى حرب من حروبنا الكثيرة، فحارب وصار بطلا للجمهورية العربية السورية، ثم عندما أصبح الرجل الأول والأخير الذى وقف فى وجه بوريا وظل حيا حتى الآن».
وبوريا هو زعيم المافيا الروسية التى انتقلت إلى سوريا، فهو شخصية خطيرة متحكم فى مصائر الناس: «كان بوريا، ولا يزال، المتنفذ الفعلى بمصائر الحى الروسى بعلم ومباركة الجهات الرسمية فى العاصمة القديمة دمشق. وكان نفوذه قد بدأ منذ حول زعران الحرى، فارضى الخوات القدامى، جثثا فى حاويات القمامة، ثم فرض مقابل الأمن والأمان التأمين فى الليل والنهار، أعماله الخيرية التى حاصص بموجبها الناس بأرزاقهم، بدءا من المتسولين ولاعبى الكشتبان وعاهرات الأرصفة وبائعى اليانصيب، وانتهاء بالتجار والصناع وأصحاب بيوت البغاء وصلات القمار والمطاعم والمقاهى والكباريهات والسينما والمسارح وصالات الفن التشكيلى».
فهو الذى ينهب الثروات ويسرق، وهناك ثمة تحد بين بوريا وعصام: «كان بوريا يعرف عصام منذ شغفه الأول بالرماية ورفع الأثقال.. وقد استدرجه، ولم يستجب»، فحدث صدام أكثر من مرة بين بوريا وعصام، استمد منه الحى بأكمله الكرامة التى لن يتنازلوا عنها، وسيظل فى أذهانهم شيئا فشيئا أشبه ببطل فى حدث شرى خالص.
نحن أمام نص يصول ويجول بنا بشكل أشبه بالسريالية لو كنت دقيقا فى الوصف، فهو يأخذنا للخيال ليسقطه على الواقع بشكل فريد، متناولا حروب سوريا وما يحدث فيها دونما أن يخبرنا بشكل مباشر أو بشكل نمطى، ينهى خليل الرز تلك الرواية بمقتلين الأول مقتل عصام على يد صاحب المافيا بوريا، والثانى مقتل الزرافة.
«بوريا» المتحالف بطبيعة الحال مع الأجهزة الأمنية الذى سينفذ قتل عصام فى الغوطة، فأنت فى الحى الذى رفض طيلة سنوات الدخول فى الحرب التى لم تنفك تقف منذ سنوات، لكنه سيدخلها رغما عنه ولو من باب الحكاية، يجد الراوى نفسه فى أثناء حدوث حرب الكل فى الشارع يهرول فيجد نفسه أمام صالح صديقه الذى أخبرنا عنه فى أول فصل

يسكن على سطح مستودع الحديقة فى غرفة صديقة «صالح»، ها هو صالح صديقه القديم على مقاعد دراسة الأدب الروسى وزميله لسنتين على المكتب المجاور فى غرفة مترجمى صحيفة أنباء موسكو: وهنا شعرت فجأة بأصابع كف تمسك بذراعى برفق فالتفت كان رجلا طويلا، يرتدى بنطلونا وقميصا كالحين مدعوكين، ويحيط رأسه بكوفية عتيقة، يمشى جانبى، لم أعرفه فى البداية لكن طريقة تحديقه بى وابتسامته المألوفة التى شقها بحذر وبطء جعلتانى أعتقد أنه صالح».
بدأ صالح يسأل عن عصام، وعرف أن عصام قد قبض عليه حال وصوله إلى الغوطة، وأن المحكمة الشرعية هناك قد اعدمته، فى الساعة نفسها، بتهمتين اثنتين: حماية الفحشاء والمنكر والبغى فى كباريهات الحرس الروسى، والزنا بامرأة مغربية مسلمة والعيش معها منذ سنوات تحت سقف واحد دون عقد نكاح شرعى، ليكتمل لنا مشهد الفراق ليكون هنا فى ساحة الأمويين، حتى ظهرت دبابة من طراز تى 90 من مفرق شارع المهدى بن بركة، ليتوجة المدفع فى الأساس نحو دار الأوبرا: «كانت الزرافة فى هذه الأثناء قد تقدمت بضع خطوات إلى الأمام، ثم تكومت فجأة على الأرض، وقد التوى عنقها الطويل برأسها المدمى فوق إسفلت الساحة».
لتنتهى الحكاية كما لو أن فى ثنايا هذا النص: «كما لو أن كل شيء معد مسبقا لهذه اللحظات، انشقت عندئذ البوابة الرئيسية الجديدة السوداء لمبنى الإذاعة والتلفزيون، وخرجت منها سيارة جيب توقفت قرب الزرافة المتكومة على الإسفلت، ترجل من السيارة مجموعة رجال أقوياء فى بذلات داكنة يحملون حبالا تخينة وجنازير، وكانت الرافعة قد توقفت، هى الأخرى فى الساحة فيما تدلت من ذراعها الهائلة كلاباتها القوية فوق كومة الزرافة النازفة. وكما لو أنهم أمضوا سنين طويلة فى حزم وتعليق الزرافات المقتولة بكلابات الرافعات بأسرع وقت ممكن».
يذكر أن خليل الرز روائى ومترجم سورى من مواليد 1956. صدرت له مسرحية وتسع روايات، منها «غيمة بيضاء فى شباك الجدة« (1998)، «أين تقع صفد يا يوسف» (2008) و«بالتساوى» (2014). وفى الترجمة عن اللغة الروسية صدر له «حكايات الزمن الضائع»، ليفغينى شفارتس (2004)، «مختارات من القصة الروسية» (2005) و«مختارات من قصص أنطون تشيخوف» فى مجلدين (2007).



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك