ضم التاريخ الإسلامي العديد من الأئمة والفقهاء الذين أثروا العالم بعلمهم ومؤلفاتهم وتتلمذ علي يديهم الكثير، واستفاد الناس من فتواهم في شئونهم الحياتية، ومنهم من تطرق لشئون الدولة وجاهد في سبيل إعلاء كلمة الحق ومحاربة أعداء الإسلام.
وتستعرض "الشروق" في شهر رمضان الكريم وعلى مدار أيامه، حلقاتها اليومية من سلسلة " أشهر الأئمة في التاريخ الإسلامي"، لتأخذكم معها في رحلة نتعرف فيها علي بعض الشخصيات التاريخية الإسلامية التي سطرت أسمها بحروف من نور.
وفي هذه الحلقة، نرصد محطات بارزة في حياة العلامة الإمام العز بن عبد السلام، من كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي.
مولده ونشأته
وُلد العز بن عبد السلام بدمشق سنة 577هـ، ونشأ بها، ودرس علوم الشريعة واللغة العربية، وتولى الخطابة بالجامع الأموي والتدريسَ في زاوية الغزالي فيه، واشتُهر بعلمه حتى قصده الطلبة من البلاد، كما اشتُهر بمناصحة الحكام ومعارضتهم إذا ارتكبوا ما يخالف الشريعة الإسلامية برأيه.
طلب العلم
كانت دمشق في زمن العز بن عبد السلام حاضرة العلم والعلماء منذ العصر الأموي، يقطنها العلماء من كافة الفنون، ويجتمع فيها أئمة العلم البارعون، ويقصدها الطلبة من كافة الأصقاع، وكان المسجد الأموي جامعةً للعلوم والطلاب والعلماء.
ويظهر من سيرة العز بن عبد السلام أنه عاش في أسرة فقيرة مغمورة، فلا يوجد ذكر صريح لأبيه وأمه، أو أجداده وأعمامه وأخواله، أو أي شيء عن مراحل طفولته، وكل ما تذكره المصادر أنه ابتدأ العلم في سن متأخرة.
وتوجه العز إلى طلب العلم بجد واجتهاد وهمة عالية؛ ليُعَوِّض ما فاته في المدة السابقة من طفولته وصباه، فقصد العلماء وجلس في حلقاتهم، ينهل من علومهم، ويكب على الدراسة والحفظ، والفهم والاستيعاب، حتى حفظ «التنبيه» في فينة قصيرة، واجتاز العلوم بمدة يسيرة.
تحصيله للعلوم
وجمع العز في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية، فدرس التفسير وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه، واللغة والتصوف، والنحو والبلاغة، وعلم الخلاف، ولم يكتف العز بدراسة هذه العلوم، ولكنه تفوق في معرفتها والتأليف فيها، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد.
قضى العز بن عبد السلام معظم حياته في دمشق، وكان أكثر تحصيله وطلبه للعلم على علمائها، ولكنه ارتحل عنها ثلاث مرات لأغراض مختلفة، الأولى: رحلته إلى بغداد، والثانية: رحلته إلى مصر، والثالثة: رحلته إلى الحجاز بقصد الحج والعمرة، وكانت هذه الأخيرة في الغالب بعد سنة 644هـ.
محنته مع الملك الأشرف موسى
تمثل هذه القضية أول مواقف العز بن عبد السلام بدمشق، وصدامه مع الملك الأشرف موسى الأيوبي، وكان العز قد ذاع صيته واشتهر علمه، وظهرت شخصيته في الحياة العلمية وعلى المستوى الرسمي والشعبي، وكان العز على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري من أهل السنة والجماعة في العقيدة وصِفات الله تعالى، ومنها صفة الكلام، ويقول: "إن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته، قديم أزلي، وليس بحرف ولا صوت"، خلافاً لبعض الحنابلة، وكان الملك الأشرف يميل إلى الحنابلة ويستمع إليهم، فاستغلوا ذلك وأوغروا صدره على العز، فوقعت الواقعة.
موقفه من تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين
لما مرض الملك الأشرف موسى مرض الموت، طلب من العز بن عبد السلام الزيارة والنصح والدعاء، فأشار عليه العز بإبطال المنكرات ورد المظالم، وتطبيق الشرع والالتزام بالقرآن والسنة، فأمر السلطان المريض أخاه إسماعيل (الذي يتولى السلطنة بالنيابة) بتنفيذ ما أمر به الشيخ العز، وإبطالِ ما يرى إبطالَه، ثم توفي الملك الأشرف سنة 635هـ، فخلفه أخوه الملك الصالح إسماعيل.
ولم يكن إسماعيل على وفاق مع العز منذ حياة أخيه الأشرف، فكان إسماعيل سيء الظن بالعز، ولكنه لم يجرؤ على عزله من خطابة الجامع الأموي أو الإساءة إليه؛ لما رآه من تكريم الأشرف موسى والملك الكامل للعز وإكبارهما إياه، ولِمَا يتمتع به العز من مكانة مرموقة في المجتمع، وثقة وحب من جمهور المسلمين.
بعد وفاة السلطان الأيوبي الكامل حدث نزاع علي خلافته وانتهت السلطة إلى ابنه الصالح أيوب، الذي فكر في ضم مصر له، ففكر عمه إسماعيل في اللجوء إلى الصليبيين أعداء المسلمين، فتحالف معهم لينجدوه من الصالح أيوب ويساعدوه عليه، وسلّم إليهم لقاء ذلك صيدا والشقيف وصفد وغير ذلك من حصون المسلمين، وذلك سنة 638هـ. وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، فغضب العز بن عبد السلام، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة.
وبدأت الجولة الأولى باستفتاء العز في مبايعة الفرنج للسلاح، فقال: "يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين" ، ثم صعد منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله، ويقول: "اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهى فيه عن معصيتك"، والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على الأعداء.
وكان إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسّ بالخطر الذي يحدق به، والثورةِ المتوقَّعةِ عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل العز من الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكي الذي شاركه في الإنكار على فعل السلطان، ولما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما، وألزم العز بملازمة داره، وألا يفتي، وتلقى العز العزل راضياً مرضيّاً، ولكنه ضاق بالإقامة الجبرية وتعطيل العمل المسؤول عنه شرعاً، فقرر مغادرة دمشق، فاتجه إلى مصر عن طريق القدس، سنة 638هـ
قتاله الصليبيين
شارك العز بن عبد السلام عملياً في الجهاد والقتال ضد الصليبيين الذين اتجهوا لاحتلال دمياط وسائر مصر بعد أن وصلوا إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فهّبَّ الجيشُ المسلمُ في مصر لمواجهة الغزاة، قال ابن السبكي: "وكان الشيخ (العز بن عبد السلام) مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخُ حالَ المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح" يا ريحُ خُذيهم" عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثرُ الفرنج، وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد ﷺ رجلاً سخّر له الريح" وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحةَ من كرامات العز بن عبد السلام.
وفاته
توفي العز بن عبد السلام في جُمادى الأولى سنة 660هـ، باتفاق المؤرخين وعلماء التراجم، وقد بلغ ثلاثاً وثمانين سنة من العمر.
اقرأ أيضا: أئمة الإسلام (13).. الإمام ابن الجوزي علامة عصره المعروف بغزارة إنتاجه الدعوي