داليا يسري تكتب: قراءات.. في حب توفيق الحكيم - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 5:38 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

داليا يسري تكتب: قراءات.. في حب توفيق الحكيم


نشر في: الجمعة 10 يوليه 2020 - 1:35 م | آخر تحديث: الجمعة 10 يوليه 2020 - 1:35 م

عندي قناعة راسخة تكاد تقترب من اليقين، بأن ثمة علاقة خفية دائما ما تربط بين إسم الشخص وكيانه الحقيقي. أظن أن هذه القناعة تتزايد كلما حدث وطالعت صفحات من كتابات الأديب الراحل "توفيق الحكيم" إسما ومضمونًا. إن "الحكيم" هو العملاق الذي يفصلنا اليوم عن تاريخ رحيله ما يزيد عن الثلاثون عاماً، بعد أن عاش حياة مديدة عامرة بالتجارب وزاخرة الآلام انعكست بدورها على صفحاته وأعماله بالشكل الذي يجعلها تفيض بالحكمة المستمرة.
هذه الأعمال الأدبية الرائعة، لم تكن لتصل إلى متناول يد أبناء هذا الجيل بسهولة لولا أن قررت دار الشروق أن تمنحها شيئًا قد نُطلق عليه "قبلة الحياة"، وتعيد طباعتها وتوزيعها بشكل جديد. في عمل قد يُنظر إليه باعتباره، واحد من أكبر الخدمات التي قدمتها الشروق إلى الوسط الثقافي العربي برمته وليس المصري فقط. ولكن هنا يطرح سؤال نفسه، هل كل الأعمال المنشورة تملك نفس القدرة على الاستمرارية والبقاء والمواكبة تمامًا مثلما تملكها أعمال الحكيم؟!
هناك حقيقة تقول إن الأدب هو مرآه لعصره، ولكن الأديب العبقري فقط هو من يملك القدرة على أن يجعل من كتاباته مرآه مستمرة لكل العصور. وبهذه الطريقة فقط من الممكن أن نشرح كيف يبدو لنا أدب العقاد مناسبًا وساحرًا حتى في الوقت الحالي! وبمعنى آخر ليس كل أدب يستطيع أن يسافر عبر الزمن، فهناك بعض الكلمات لا يمكن أن تتجاوز أكثر من كونها مجرد حبر على ورق، سوف يفنى بفناء صاحبها وتوالي السنوات من بعده. ولكن "الحكيم" له شأن آخر، فهو صوت عبقري يؤكد في كل عمل وعبر كل سطر من سطور صفحاته، أن صوته أعمق من السنين وأطول من عمره ومن عمر كل من عاصروه في أثناء حياته.
وبهذه الطريقة، أظن وأنا ابنة هذا الزمان أن ثمة لقاءات كثيرة جمعت بيني وبين "الحكيم". كان أولها في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2017، وهناك عندما هرعت نحوه بمجرد أن لمحت مسرحية "مصير صرصار". وبعد أن انتهيت من مطالعة هذه المسرحية، أدركت بوضوح كيف يخبرنا "الحكيم" عن تفاصيل العوالم الأخرى التي تشاركنا بالحياة على نفس الكوكب. وكيف من الممكن أن ينطوي أكثر الأمور التي تثير اشمئزازنا على نمط حياة آخر خاص بها.
لم تتوقف لقاءاتي مع الحكيم عند هذا الحد، إذ أنني اكتشفت منذ مطالعة أولى كتاباته أنه يملك سحرًا خاص به، يدفعك الى الانزلاق بشكل لا إرادي خلف ملاحقة وقراءة كل ما يُتاح لك من كتاباته. الأمر ببساطة يتلخص في أنك بمجرد أن تبدأ في القراءة للـ "الحكيم"، لن تتوقف عن متابعة الأمر أبدًا. وكانت لقاءاتنا في الحقيقة متعددة وكثيرة، بشكل تضيق السطور عن شرحه والتعمق في سرد تفاصيله.
أفضل الآن إلى الذهاب نحو الحديث عن اللقاء الذي جرى عبر صفحات مسرحية "سميرة وحمدي"، هناك حيث تتجلى روح الأديب وانسانيته في أبهى صورها. عندما يقوم "الحكيم" بكل براعة بعرض صورة أخرى لحياة خرافية في بُعد آخر داخل حياة عادية للغاية تملؤها الرتابة والملل للزوجين سميرة وحمدي. وتأخذنا الأحداث ويروي "الحكيم" كيف أن "حمدي" بطل مسرحيته كان انسانًا رتيبًا لا يأبه للعلم ولا يكترث للقراءة، ولكن عندما حدث الأمر وانفتحت بوابة أخرى تُطل على بُعد مختلف من أبعاد الحياة عبر حائط منزله، يشاهد من خلالها حمدي وزوجته قصة الجريمة الشنعاء وما ترتب عليها من معاناة، تتغير حياته تمامًا بعد ذلك ويصبح شخصًا جديدًا ذو أولويات مختلفة تمامًا عما سبق.
إن ما يسحرنا ويجذبنا في كتابات "الحكيم" لا يكمن فقط في روعة القصة، أو جماليات الصياغة، وانسيابية الإحساس القادم من وراء السطور. ولكن الحقيقة ما يجذبنا نحوه، قد يكون هو صوته الذي يخاطب احساس القارئ ووعيه ووجدانه في اثناء انغماسه في القراءة. وهو الأمر الذي ينتج عنه أن تخرج من القصة وكأنك شخص جديد، ينظر الى نفس الفكرة بشكل مختلف وبعيون مُفكرة وقلب ناقد. وفي الطريق أثناء ذهابك الى العمل أو عودتك، أو كلما خلوت نفسك لن تتوقف أبدًأ عن التساؤل حول تفاصيل واعماق تلك القصة المدهشة التي عرضها الحكيم، وكل ما تحتويه سطورها من معاني ومفاهيم إنسانية عظيمة. إن الأمر ببساطة يشبه أن يكون صوت "الحكيم" هو الصوت الذي يخرج من الأوراق حتى يخاطب الضمير الإنساني.
الذكاء الأدبي عند "الحكيم" يتجلى كذلك في الطريقة، التي يعرض بها لثلاثية الأولويات القصوى عند نماذج مختلفة من البشر في مسرحية "رصاصة في القلب". أحداث المسرحية تدور بين ثلاثة أبطال "سامي-فيفي- نجيب"، وبطريقة خفية يكشف "الحكيم" من خلالهم عن وجه آخر لثلاثية الأولويات "الحب- الصداقة- المال"، ويجيب عن المعضلة التي حيرت البشر حول من منهم يأتي في المقدمة؟!
بهذه الطريقة يبعث لنا "الحكيم" من خلال مسرحيته رسالة مفادها، أن أولويات الانسان هي الطريقة التي يمكن من خلالها أن نحكم على معدنه الحقيقي. من هذا المنطلق، نرى كيف تفضل شخصية "نجيب الفاشل" الصداقة قبل أي شيء آخر، وعند "فيفي المُدللة" يأتي الحب أولاً، وفي النهاية سوف تكتشف أن "سامي" الطبيب النابغة لا يأبه لأي شيء في الحياة سوى المال.
الحقيقة أنني وقعت في حُب توفيق الحكيم منذ اللقاء الأول، وتعمقت في حبي له بعد ذلك كلما حدث وقرأت المزيد من كتاباته. وعندما فكرت أن أصف حقيقة ما أشعر به تجاه "الحكيم" وإبداعه، شعرت أن لساني يعجز عن وصف هذا القدر الغير مسبوق من الإبداع الراقي المستمر. وقررت أن اقتبس من كلماته الخاصة ما يمكن أن ينعكس على أعماله هو نفسه. الحديث هنا يدور عن فقرات مقتبسة من مجموعته القصصية "عدالة وفن"، ويقول "الحكيم" في وصف الفن الحكيم "أن الفوارق بين الماس والزجاج والذهب والنحاس هي فوراق في الإشعاع والزمن، والأمر كذلك في مجال الفن. فهناك عمل فني بارع جدًا ولكن إشعاعه ضعيف، والإشعاع غير البريق.. فقد يكون له بريق خاطف حقًا، كبريق النحاس المجلو، ولكنه يصدأ بعد حين.. وتاريخ الفن يدلنا على أعمال فنية كانت غاية في البراعة والبريق في عصرها، ثم صدئت وانطفأت بعد ذلك انطفاءة الأبد، كما يدلنا على أعمال فنية أخرى لم يكن لها مثل تلك البراعة والجاذبية واللمعة في وقتها، ولكنها استطاعت أن تحتفظ بما لها من إشعاع داخلي على مدى العصر التالية. إن البريق وحده يخطف البصر، ولكنه لا ينفذ الى الأعماق.. أما الإشعاع فقد لا يخطف البصر كثيرًا، ولكنه ينفذ الى أعماق النفس وإلى أبعاد الزمن: أي طبقات الأجيال، وهذا هو المقياس الملموس لقيمة الفن". وعن النجاح الفني، يتابع الحكيم في وصفه قائلاً "إن باب التاريخ من بلور سميك لا ينفذ منه مجرد تصفيق النجاح، ولكن الذي ينفذ منه هو شعاع الجوهر الذي ينفع الناس في كل عصر ويولد طاقات.. لأن ذاكرة التاريخ الفني لا تُشحن إلا بالاشعاعات والطاقات، لأنها هي التي تدفع المحركات التي تسير بها الانسانية".
وفي ضوء عبارات الحكيم، وددت أن أمنحه عميق شكري وامتناني نظير كل معنى انساني، وكل حكمة تسببت كتاباته في صياغتها بشكل مختلف وجديد في نفسي.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك