فى البدء كانت الدبلوماسية.. الميلاد فى نيويورك على هامش «الأمم المتحدة»
خلاف المجند نبيل فهمى مع أشرف مروان وأول لقاء بمبارك
7 سنوات كأول مستشار سياسى لوزير الخارجية
إنشاء كلية الشئون العالمية فى الجامعة الأمريكية عام 2008 أثار قلق دوائر السلطة فى مصر
تستعرض "الشروق" على حلقلت بدءا من اليوم صفحات من كتاب "في قلب الأحداث" للدبلوماسي المصري البارز نبيل فهمي، وزير الخارجية الأسبق، والصادر عن دار الشروق.
ويستعرض الكتاب نصف قرن من الأحداث الدولية والإقليمية والوطنية تابعها مؤلفه عن قرب؛ بصفته مواطنًا طموحًا وشاهدًا مباشرًا وممارسًا دبلوماسيًّا ومسئولًا سياسيًّا.
وفيما يلي أولى الحلقات:
«نشأت فى بيت تمثل الشئون الدولية فيه جزءا من غذائه اليومى، وربما لهذا اخترت العمل فى الحقل الدبلوماسى بعد فترة تردد عقب انتهاء دراستى الجامعية».
كان مولدى فى مدينة نيويورك عام١٩٥١ عندما كان والدى إسماعيل فهمى عضوا دبلوماسيا فى بعثة مصر الدائمة لدى الأمم المتحدة. وتزامن هذا مع عصر التحولات الوطنية والعالمية، سواء بثورة 23 يوليو 1952 التى أطاحت بالحكم الملكى وأقامت حكما جمهوريا فى مصر، أو بنشوب الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية بقيادة أمريكا والشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق.
الوزير الأسبق إسماعيل فهمي مع نيكسون وكيسنجر
وعندما تخرجت فى الجامعة الأمريكية بالحصول على درجة البكالوريوس فى الفيزياء والرياضيات فى يناير ١٩٧٤، فوجئت باتصال من الدكتور أشرف مروان زوج كريمة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ومدير مكتب الرئيس أنور السادات للاتصالات الخارجية، ودعانى للانضمام إلى مكتبه وقبول التعيين فى رئاسة الجمهورية فى إطار إعادة تشكيل المكتب اعتمادا على نسبة أكبر من الشباب.
وعندما سألته عن كيفية معرفته بأننى أنهيت دراستى وسأبدأ خدمتى العسكرية الإلزامية، قال مروان إنه كان يراجع محاضر اجتماعات مجلس الوزراء للعرض على الرئيس، فوجد نقاشا حول نظام التعليم فى مصر، وتعليقات والدى الذى قال إن ابنه الأكبر تخرج فى جامعة القاهرة، وأن الابن الثانى على وشك التخرج فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو الأمر الذى جعله يستخلص سريعا بأن على أداء الخدمة العسكرية، باعتبارى الابن الثانى، مضيفا أن التحاقى بالعمل فى رئاسة الجمهورية سيسهل إلحاقى بالحرس الجمهورى كمجند بعد انتهاء فترة مركز التدريب العسكرى.
كان العمل مع مروان جذابا للغاية، حيث يراعى احتياجات الموظفين الأكبر سنا ويكرمهم ماديا، وكان منفتحا ودائم التواصل مع الشباب بالمكتب، ويتجاهل تماما الجوانب الشكلية، ويواجه بسرعة العقبات البيروقراطية أو يتجاهلها إذا لم يتمكن من اختراقها.
انعكس ذلك أيضا على اتصالاته الدولية، فكان يتصل بالشخصيات الدولية مباشرة باسم الرئيس السادات، كما كان يجرى اتصالات مباشرة مع أجهزة المخابرات العربية والأجنبية لتسهيل انجاز المهام التى يكلفه بها الرئيس دون الالتزام بالضوابط التقليدية المنظمة للتواصل مع مثل هذه الأجهزة.
وأثار أسلوب عمل مروان وصعوده السريع ردود فعل مختلفة، ووصف إعلاميا بأنه الطفل المعجزة، بل ظهرت بعد وفاته روايات مختلفة عن كونه جاسوسا إسرائيليا، أو عميلا مزدوجا لمصر لدى إسرائيل.
وعلى الرغم من أننى كنت مقربا من مروان وشاهدا على الكثير من تصرفاته غير التقليدية، مثل قدرته على توفير طائرات غير تجارية لرحلاته وجولاته، وإقامته فى أغلى فنادق العالم، واتصالاته مع شخصيات مثل كمال أدهم مدير المخابرات السعودية أو نائب الرئيس الليبى عبدالسلام جلود، فضلا عن اتصاله بمكتب وكالة المخابرات الأمريكية بالقاهرة ــ فليس لدى دليل أو معلومات محددة تجعلنى أرجح نظرية على أخرى بالنسبة لدور أو مهام مروان خلال فترة وجوده فى مؤسسة الرئاسة المصرية. كما أن أغلب الاتهامات المثارة حوله تتعلق بأحداث قبل التحاقى بالمكتب. ففى النهاية كنت شابا فى أول السلم الوظيفى فى رئاسة الجمهورية اعتبارا من فبراير ١٩٧٤.
وفى صيف ١٩٧٥ حدثت مشكلة غير متوقعة لى مع أشرف مروان على الرغم من أن علاقة العمل كانت ودية للغاية، ولكن يبدو أن بعض مشاعر الغيرة من آخرين فى مكان العمل أدت إلى سوء التفاهم بيننا. وبسبب شعورى بعدم ارتكاب خطأ وعدم التقدير قررت على الفور الاستقالة من عملى فى رئاسة الجمهورية، وطلب عودتى إلى الثكنات العسكرية لاستكمال فترة تجنيدى فيها.
وكخريج حديث دون تجربة وظيفية وسياسية لم أدرك أن استقالة موظف فى رئاسة الجمهورية، خاصة عندما يكون ابن وزير الخارجية لن تمر مرور الكرام، فاستدعانى نائب الرئيس حسنى مبارك الذى كان مشرفا على مكاتب رئاسة الجمهورية.
استمع مبارك بصبر وود لتعليقاتى، كما تقبل رفضى للحديث عن تفاصيل سوء الفهم مع مروان، وترددى فى الالتحاق بالعمل فى مكتب نائب الرئيس الذى تأسس حديثا. وفى النهاية أشار إلى أنه مادمت فى فترة التجنيد الإجبارية، فليس أمامى سوى خيارين، إما العمل فى مكتبه كمجند بزى عسكرى، أو الحضور بزى مدنى وقضاء الفترة المتبقية فى خدمتى العسكرية فى التعامل مع وسائل الإعلام الأجنبية من غرفة قريبة من مكتب نائب الرئيس، فاخترت البديل الثانى.
ولم تكن هذه بداية معرفتى الشخصية بمبارك حيث كان التعارف المباشر الأول لى مع النائب حسنى مبارك قبل ذلك بشهور، وفى يوم زفافى تحديدا، عندما قبل الرئيس السادات دعوة والدى لحضور حفل الزفاف، وطلب السادات دعوة الفريق حسنى مبارك قائد القوات الجوية للحفل قبل التاريخ المحدد للمناسبة مباشرة. وعندما أبلغه والدى بأنه لا يعرف مبارك شخصيا، قال الرئيس أنه سيعينه قبل الحفل مباشرة نائبا له، وسيكون الفرح مناسبة طيبة ليظهر فى ساحة عامة بصفته المدنية الجديدة.
الرئيس السادات وقرينته في حفل زفاف الوزير الأسبق نبيل فهمي
وخلال فترة عملى فى مكتب نائب الرئيس، تلقيت عدة عروض للعمل فى القطاع المصرفى والتى كانت مغرية بالنسبة لى، لكن لم يكن الأمر ممكنا قبل انتهاء خدمتى العسكرية، فى الوقت نفسه فإن صديقى المقرب رمزى عز الدين تحدانى أن أنجح فى اختبار القبول الصعب للعمل فى وزارة الخارجية، ولم يكن العمل فى الوزارة جذابا بالنسبة لى، لكننى بحماس الشباب قررت قبول التحدى، لأخوض الاختبارات وأجتازها فتبدأ رحلتى مع العمل الدبلوماسى رسميا، على الرغم من أننى تلقيت عرضا للعمل فى سيتى بنك بمرتب يعادل ٢١ ضعف مرتب الملحق الدبلوماسى الجديد بالخارجية المصرية.
كانت أول مهمة دبلوماسية كاملة لى فى الخارج خلال الفترة من ١٩٧٨ إلى ١٩٨٢ فى البعثة المصرية الدائمة لدى المقر الأوروبى للامم المتحدة فى مدينة جنيف.
فى نهاية فترة خدمتى فى جنيف، اخترت العمل فى إدارة المنظمات الدولية بوزارة الخارجية فى القاهرة، خلال الفترة من ١٩٨٢ إلى ١٩٨٦، مفضلا البقاء فى القاهرة خمس سنوات كاملة، فى حين كان الدبلوماسى فى ذلك الوقت يقضى عاما أو عامين على الأكثر فى القاهرة قبل العودة إلى إحدى بعثاتنا الدبلوماسية فى الخارج. وكانت الإقامة لفترة طويلة فى القاهرة أمرا غير مرغوب بالنسبة لأغلب الدبلوماسيين فى العادة، حيث يفضلون التجربة الدبلوماسية الخارجية، إلى جانب الهرب من الأجر المنخفض للخدمة فى القاهرة.
فى ربيع ١٩٨٦ طلب منى السفير عبدالحليم بدوى مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة، الانضمام إلى فريق عمله فى نيويورك. وقرر تكليفى بملف نزع السلاح فى أول لجنة شكلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا الغرض.
وفى عام ١٩٨٩ تم انتخابى لمنصب النائب الثانى لرئيس اللجنة الدولية لنزع السلاح. وكان الرئيس المنتخب للجنة دبلوماسيا فنزويليا، وسرعان ما استدعته بلاده لتولى منصب نائب وزير الخارجية، وكان النائب الأول لرئيس اللجنة دبلوماسيا إيرانيا، ورفضت الدول الغربية توليه رئاسة أى من اجتماعات اللجنة، وبالتالى ترأست أنا الاجتماعات طوال الأشهر الثلاثة لانعقاد الجمعية العامة. وفى ختام جلسات اللجنة شكرنى بعض المندوبين الكبار على حسن إدارتى لها. وأشار سفير الجزائر وآخرون إلى أنهم عملوا كسفراء فى هذه اللجنة تحت رئاسة الابن بعد أكثر من عقدين من العمل فيها شبابا تحت رئاسة الأب إسماعيل فهمى.
وبعد شهور قليلة من عودتى إلى ديوان الوزارة فى القاهرة عام ١٩٩١، اختار الرئيس مبارك، عمرو موسى وزيرا للخارجية، فقرر الأخير تعيينى مستشارا سياسيا له.
كانت وظيفة المستشار السياسى لوزير الخارجية مستحدثه فلم يكن لها توصيف سابق أو مهام محددة من الناحية الرسمية، ومن الناحية العملية أصبحت مستشارا بشأن كل ما هو جديد، أو ما يمكن أن يشكل مشكلة، أو له حساسية خاصة، الأمر الذى فرض على التواجد بشكل دائم إلى جوار وزير الخارجية أو البقاء على اتصال دائم به سواء فى مصر أو فى الخارج.
هذا الوضع جعلنى مسئولا عن الكثير من القضايا الشائكة أو الصعبة فى وزارة الخارجية، أو حلقة الاتصال المسئول عن نقل الأخبار غير السارة للوزير، أو تلك التى تصل من الخارج بعد منتصف الليل أو قبل الفجر، فكانت مهمة شاقة وصعبة وإنما ممتعة لأى شخص مهتم بمتابعة إدارة علاقات بلاده الخارجية والمشاركة فيها، فى الوقت نفسه فإن هذا المنصب ارتبط بوجودى فيه، وعند تعيينى سفيرا لمصر فى طوكيو، لم يشغل دبلوماسى آخر هذا المنصب بعد ذلك ولأكثر من عقدين.
وبعد سبع سنوات من العمل كمستشار سياسى لوزير الخارجية، تعاملت خلالها مع مجموعة من الأحداث شديدة الأهمية، وفى مقدمتها الصراع العربى الإسرائيلى، طلبت من موسى الموافقة على إعفائى من منصب المستشار السياسى وتعيينى فى إحدى بعثات مصر الدبلوماسية.
وفى عام ١٩٩٧ تم اختيارى سفيرا لمصر فى اليابان وهو ما رحبت به باعتبار العمل فى طوكيو سيكون أهدأ وأقل توترا مقارنة بعواصم أخرى، إلى جانب أنه يتيح لى فرصة اختبار قدراتى فى التعامل مع ملفات مختلفة نسبيا مثل الاقتصاد والتجارة.
وقال لى أصدقاء إن اليابانيين ترددوا فى البداية فى قبول ترشيحى سفيرا لدى طوكيو، فقد كنت صغيرا نسبيا وكانت أول مرة أتولى فيها منصب سفير، ولكن السفارة اليابانية فى القاهرة أوضحت لقيادتها فى طوكيو أننى أحظى بسمعة طيبة فضلا عن علاقاتى القوية مع مركز السلطة فى مصر.
المفارقة أن خدمتى فى اليابان كانت حاسمة فى تحديد مستقبل عملى الدبلوماسى، فقد زار الرئيس مبارك اليابان فى أبريل ١٩٩٩، وكانت الزيارة ناجحة للغاية، فى حين كنت مازلت سفيرا هناك، وعلى وشك مغادرتها بعد ترشيحى للعمل كمندوب دائم لمصر لدى المقر الأوروبى للأمم المتحدة فى جنيف. وكان مبارك فى حالة مزاجية جيدة، وتحدث معى فى الكثير من الموضوعات، والذى تصورت أنه كان مجرد حوار بسيط أو دليلا على الشخصية الودودة للرئيس. وبعد شهور أدركت أن الأسئلة التى طرحها على بشأن أفضل طريقة للتعامل مع الولايات المتحدة كانت جزءا من عملية بحث يقوم بها لاختيار سفير جديد فى واشنطن، حيث كان سفير مصر هناك أحمد ماهر قد وصل إلى سن التقاعد. وكانت خلاصة ردودى على أسئلة الرئيس مبارك أثناء زيارته لليابان هى أن أمريكا أكبر كثيرا من أن يتم تجاهلها، لأنها تتيح فرصا هائلة وأخطاؤها لها تداعياتها الخطيرة التى تؤثر على الكثير من الدول، لذلك فقد كانت وجهة نظرى أن التواصل المستمر مع الإدارة الأمريكية أمر ضرورى، لكن من المهم أن يقوم هذا التواصل على الحديث الصريح معها حتى فى حالات الخلاف الحاد، وبالنسبة لى، فإن مصر وأمريكا دولتان مهمتان وتحتاجان إلى بعضهما البعض، فى الوقت نفسه، فإن سوء الفهم يشكل معضلة ويجب تجنبه، فى حين أن اختلاف الآراء أمر حتمى ويمكن التعامل معه فى النهاية.
وقبل أن يستقل سيارته فى طريقه إلى المطار فى ختام زيارته لليابان، التفت مبارك نحوى وسألنى عن عمرى، وقد مر وقت طويل منذ كنت فى الثالثة والعشرين من عمرى عندما كنت مجندا فى القوات المسلحة وأعمل فى مكتب نائب رئيس الجمهورية، فقلت بتهور: «لقد كبرت»، ليرد مبارك «كلنا كبرنا، فكم عمرك؟»، فلما قلت له إن عمرى ٤٨ عاما، ألمح زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية دون إطناب إلى أن هناك شيئا ما فى ذهن الرئيس. لم أتوقف عند هذه المحادثة القصيرة لكن عزمى عاد ليقول «هل تتصور أن يكون الرئيس مشغول بعمر أى شخص منا؟».
وبعد زيارة مبارك لطوكيو أرجأ وزير الخارجية تنفيذ قرار نقلى إلى جنيف دون إبداء أسباب، وفى أغسطس 1999، أشار إلى احتمال ألا أذهب إلى هناك على الإطلاق، وبعد ذلك بوقت قصير اتصل بى مجددا ليهنئنى على تعيينى سفيرا لدى الولايات المتحدة، وطلب منى المرور على مصر لمقابلة الرئيس قبل السفر إلى واشنطن وبدء عملى الجديد.
وقد وصلت مبكرا إلى قصر الاتحادية يوم ١١ أكتوبر ١٩٩٩، لأجد تجمعا كبيرا، وكان قد تم اختيار أعضاء الحكومة الجديدة، وحضروا إلى القصر لأداء اليمين الدستورية. أمضيت مع الرئيس ٤٥ دقيقة على الأقل من صباح ذلك اليوم فى لقاء مثير لكن غريب، وكان الوزراء الجدد وموظفو الرئاسة ينتظرون خارج المكتب بصبر نافد.
بدأ الرئيس كلامه بتأكيد أنه هو من اختارنى كسفير لدى الولايات المتحدة، وهى المعلومة التى أصر على تكرارها عدة مرات خلال تلك الجلسة. وشكرته مؤكدا أن تعيين كل السفراء هو حق للرئيس وبخاصة فى العواصم المهمة ومنها واشنطن كما وعدته ببذل قصارى جهدى. ورد على الرئيس بإعادة تأكيد أن تعيينى فى هذا المنصب كان اختيارا شخصيا له بسبب فهمى الجيد للعقلية الأمريكية ونزعتى الاستقلالية، والتى لن تسمح لجماعات المصالح من الجانبين بالتأثير على إدارتى للعلاقات الثنائية بين مصر وأمريكا. وبعد ذلك أمضى مبارك الجزء الأكبر من وقت اللقاء فى شرح أسباب التعديل الوزارى الذى قرره، وبخاصة مبررات تغيير رئيس الوزراء كمال الجنزورى، ليحل محله عاطف عبيد، وقد اخترت عدم التعليق على الأمر، والتركيز على الموضوعات التى استهلكت أغلب اهتماماتى خلال العامين اللذين أمضيتهما فى طوكيو.
فى منتصف ٢٠٠٨ ومع اقتراب فترة عملى فى واشنطن التى استمرت نحو ٩ سنوات من نهايتها، ترددت شائعات كثيرة داخل الدوائر المصرية عن المهمة التالية لى، البعض تكهن بأننى سأتولى منصب وزير الخارجية، وآخرون قالوا إننى سأعمل كمستشار أمن قومى للرئيس.
الوزير الأسبق نبيل فهمي مع الرئيس مبارك
بعد ذلك بأسابيع فى سبتمبر ٢٠٠٨ زارنى ديفيد أرنولد وليزا أندرسون، وكانا فى ذلك الوقت رئيس وعميد الجامعة الأمريكية على الترتيب، ووجها لى الدعوة للانضمام إلى الجامعة الأمريكية وإنشاء كلية خاصة للشئون العالمية والسياسة العامة، وقد أخذتنى المفاجأة بالكامل، حيث لم أفكر أبدا فى العمل الأكاديمى قبل ذلك. وقلت لضيفى إننى لا أعرف شيئا عن العمل الأكاديمى، ولم يكن ضمن خططى، ولكن أندرسون أكدت بصورة حاسمة أن كل ما يريدونه شخصية قيادية فى مجال الشئون الدولية مع التركيز على السياسات، وعرضت على دعمها الشخصى فى التعامل مع الشئون الإدارية واقترحت أن تكون هى ومدحت هارون عميد كلية العلوم والهندسة فى الجامعة مساعدين غير رسميين فى شئون الإدارة الأكاديمية إذا تطلب الأمر ذلك، فى الوقت نفسه، وعلى الرغم من تنويهى إلى إن الوقت مازال مبكرا للحديث عن تفاصيل أو عقود أو شروط العمل أو الاعتبارات المالية فإنها وضعت ظرفا على المائدة متضمنا عرضا تفصيليا.
وفى البداية كانت محاولة شرح المنطق وراء إنشاء مثل هذه الكلية للمجتمع المصرى أمرا صعبا، فالكثيرون لم يستطيعوا التمييز بين الشئون العالمية والعلوم السياسية، كما أن القطاعات القريبة من الحكومة لم تكن مرتاحة خاصة لتناولها موضوعات عديدة قانونية وإعلامية وسياسية تتعلق بأسس الحكم الرشيد، وعلى الرغم من أننى لم أعد موظفا فى وزارة الخارجية، أبلغنى مسئول من مكتب الرئيس مبارك بأن الرئيس يسأل عما إذا كانت هذه الكلية جزءا من حملة الدبلوماسية الشعبية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن، والتى كانت تعتمد بشكل أساسى على التواصل مباشرة مع الشعوب فى الشرق الأوسط بعيدا عن الحكومات، فأكدت له أن الكلية ليس لها أى علاقة بهذه الحملة، فعاد لى مرة أخرى مؤكدا عدم اعتراض الرئيس على إنشاء الكلية على أن تركز على الرسالة الأكاديمية.
وبعد عامين من تأسيس كلية الشئون العالمية والسياسة العامة فى الجامعة الأمريكية، جاءت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ التى اعتبرها صحوة وثورة شعبية تاريخية سعيا من الشعب للمشاركة فى تحديد المستقبل لذلك انضممت إلى جهود مجموعة من الشخصيات العامة كانت تجتمع فى صحيفة الشروق وعرفت إعلاميا باسم «لجنة الحكماء» بهدف تحقيق أهداف التحول السياسى الأمن والانتقال إلى مرحلة جديدة من التاريخ المصرى دون وقوع البلاد فى مستنقع الفوضى.
وبعد ثلاثة أشهر طلب منى المجلس الأعلى للقوات المسلحة تولى وزارة الخارجية، خلفا لنبيل العربى الذى تم ترشيحه أمينا عاما لجامعة الدول العربية. ومرة ثانية رفضت العرض، حيث كنت مازالت غير مهتم بتولى منصب وزارى.
وفى ٢٠١٣ ثارت مصر للمرة الثانية خلال ثلاث سنوات، فى تجربة متوقعة لكنها مؤلمة وبخاصة بالنسبة لدولة ذات تاريخ طويل ولديها مؤسسات دولة عميقة. كانت السنوات الثلاث التى أعقبت الإطاحة بمبارك مليئة بالتطلعات الشعبية المشروعة إلى نظام حكم أفضل، لكنها أيضا شهدت تهديدات خطيرة لهوية الأمة المصرية كدولة مركزية كوزموبوليتانية شبه علمانية، وكان نشطاء ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ مازالوا متمسكين بنموذج الحكم الرشيد ومازالوا غير راضين لأن طموحاتهم لم تتحقق، وكان تيار الوسطية المصرى يخشى على هوية الدولة التى شعروا أنها مهددة من جانب أيديولوجيا الإسلاميين والأنشطة غير الشفافة لجماعة الإخوان المسلمين، وكنت دائما على المستوى الشخصى أشعر بعدم الارتياح للصبغة الدينية المتزايدة للسياسات والحكم، ومع ذلك كنت مستعدا للاعتراف بحق الجميع بما فى ذلك الإسلاميون فى تبنى توجهات مختلفة، على أن يكون ذلك فى إطار الحفاظ على هوية مصر.
ولم أكن عضوا نشطا فى المعارضة خلال السنة التى أمضاها الرئيس الراحل محمد مرسى فى الحكم، وفضلت التعبير عن آرائى بطريقة مستقلة وبشكل فردى عبر المقالات الصحفية. وفى الواقع كنت أتابع وأشارك فى الأحداث فى أغلب الأحيان عبر وسائل الإعلام، وأرى أن البلاد منقسمة وتفقد هويتها. وفى هذه الظروف لم أكن أستطيع رفض عرض الانضمام إلى الحكومة المصرية التى تشكلت فى أعقاب الإطاحة بمرسى فى ٢٠١٣، وفى ١٦ يوليو ٢٠١٣ أديت اليمين الدستورية كوزير للخارجية بدعوة من رئيس الوزراء حازم الببلاوى.
كان العام الذى أمضيته فى منصب وزير الخارجية صعبا للغاية داخليا وإقليميا ودوليا، مع تعدد الصدمات المجتمعية الناجمة عن ثورتين خلال أقل من ٣ سنوات، بعد ستة عقود من الاستقرار المحلى وقدر كبير من الجمود السياسى، وربما اللامبالاة المجتمعية. شكلت هاتان الثورتان دليلا واضحا على تزايد الرغبة الشعبية فى نظام حكم تشاركى وقابل للمحاسبة. فبعد 2011 لم يعد المصريون مستعدين للاستسلام لأى سلطة وكانوا يريدون لبلادهم الاستقلال والقوة. وفى هذا السياق والمناخ المجتمعى كان من الطبيعى أن تتم مراجعة واسعة أيضا لمنهج السياسة الخارجية للبلاد وخياراتها مع نظرة نحو المستقبل. وكانت هذه هى رؤيتى لمهمتى وتحدياتى كوزير للخارجية.