أهداف سويف تروي لـ«الشروق» أسباب الاستقالة من مجلس أمناء المتحف البريطاني - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 8:58 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أهداف سويف تروي لـ«الشروق» أسباب الاستقالة من مجلس أمناء المتحف البريطاني

أهداف سويف
أهداف سويف

نشر في: الخميس 18 يوليه 2019 - 5:16 م | آخر تحديث: الخميس 18 يوليه 2019 - 5:19 م

 

تنشر "الشروق" في السطور التالية ما يمكن وصفه بـ"شهادة" تدلي بها الكاتبة الكبيرة أهداف سويف عن أسباب استقالتها الأخيرة من مجلس أمناء المتحف البريطاني، والتي تسببت في جدل واسع بالمجتمع الثقافي الإنجليزي والأوروبي، ووصفها ريتشارد لامبرت، رئيس أمناء المتحف، بأنها "لحظة حزينة وغير متوقعة".

وأهداف سويف، أديبة مصرية ومحللة سياسية واجتماعية؛ تكتب بالإنجليزية، وتعيش بين القاهرة ولندن، صدر لها عدد من المجموعات القصصية والرويات ومنها «عائشة، في عين شمس، زينة الحياة، زمار الرمل، وخارطة الحب، الصادرة عن دار الشروق، ورُشحت لنيل جائزة «بوكر» الأدبية، كأول كاتبة عربية يتم ترشيحها للجائزة.

 

المتحف البريطاني من المتاحف الموسوعية، وهي قلة في العالم.

موضوع المتحف هو كيف عاش الإنسان ويعيش، وكيف بنى الحضارة، والمتحف ملتزم بأن يكون الدخول إليه مجانياً. يأتيه نحو سبعة ملايين زائر كل عام، ويحتل مكانة متفردة في وعي الأمة - وربما في وعي العالم. ومنذ أيام، قدمت استقالتي من مجلس أمنائه. 

لم تكن استقالتي بسبب مسألة واحدة، بل كانت استجابة تراكمية لما لمسته من جمود المتحف إزاء قضايا محورية في اهتمامات من يفترض أن يكونوا ضمن جمهوره الأساسي: الشباب، وأصحاب الحظ الأقل. 

المؤسسات الثقافية العامة عليها مسؤولية كبيرة، ليس فقط مسؤولية مهنية، وإنما مسؤولية أخلاقية، تُظهرها في المواقف التي تتخذها من القضايا الأخلاقية والسياسية الكبرى. عالمنا اليوم مشتبك في صراعات حول التغير المناخي، وحول التفاوت الرهيب في أوضاع البشر الاقتصادية، وحول تراث ومخلفات عصور الاستعمار، وحول تساؤلات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. والمتحف عليه أن يأخذ من كل هذه القضايا موقفاً أخلاقياً واضحاً. 

***

في أوائل عام 2016 أثرت مع مدير المتحف، ومع رئيس مجلس أمنائه، وفي المجلس أيضاً، إشكالية قبول المتحف المبلغ المالي الذي تقدمه شركة بريتيش بتروليوم كل عام لدعم معرض ثقافي أو تاريخي مهم، وما يتيحه هذا للشركة العملاقة من مظهر إيجابي في الساحة الثقافية. وكان درساً لي أن وجدت أن تواطؤ المتحف في "غسل وجه" شركة البترول لا يثير أي قلق عند من حادثتهم - ويستمر هذا بالرغم من تعاظم الاحتجاجات التي يأتي بها نشطاء حماية البيئة إلى داخل المتحف وتفننهم المبدع في ابتكار أشكال فنية لها تكسبها قبولا كبيرا عند الزوار. المتحف بهذه الشراكة يقدم لبريتيش بتروليوم كسباً ضخماً ومتفرداً في العلاقات العامة، وفي المقابل فالدعم المادي الذي تقدمه الشركة للمتحف ليس بالحجم الذي يصعب معه الحصول عليه من مصدر آخر. وبالتالي، فأنا لا أرى سبباً لحرص المتحف على هذه العلاقة - والتي أعاد منذ أيام إعلان تمسكه بها- إلا أن يكون الحرص على ألا يُنَفِّر قطاعاً من عالم الأعمال، وأن هذا الاعتبار له من الثقل ما يغلب القلق العاجل والمشروع حول أثر شركات البترول على البيئة والذي يُعَبِّر عنه الشباب في العالم كله - بما في ذلك تلامذة المدارس الذين هم جمهور طبيعي للمتحف. 

في يناير 2018 أشهرت شركة كاريليون العملاقة - وهي شركة تقديم خدمات - إفلاسها. كان المتحف قبل خمس سنوات قد أحال إلى كاريليون 139 عاملا هم عمالته للنظافة والكافيتريات والبريد وغير ذلك من الخدمات. وحين أفلست كاريليون كانت قد تخلصت من الكثيرين منهم وتبقى فقط ستون. ظل الستون يأتون إلى العمل أثناء "تفليسة" كاريليون. بعضهم كان قد عمل في المتحف عشرين عاماً قبل أن يحال إلى "المخدم" الضخم، وكانوا يريدون العودة مُعَيَّنين على قوة المتحف. وفي ذلك الوقت، في مواقف مشابهة، أعادت بعض المؤسسات - مثل القصور الملكية التاريخية، ومركز الساوث بانك الثقافي - تعيين عمالها. المتحف البريطاني رفض التفاوض مع العمال أو حتى الاستماع لهم. بدأت حواراً مع زملائي في مجلس الأمناء حول الموضوع لكن تم إغلاقه على وجه السرعة.

 وفي نوفمبر 2018 تم إطلاق تقرير فرنسي طلبه الرئيس ماكرون وقام به باحثان أكاديميان، وكان تقريراً راديكالياً أوصى بإعادة كل الآثار الإفريقية الموجودة بالمتاحف الفرنسية إلى بلادها. وقد فجّر هذا التقرير نقاشاً كان يجري حثيثا حول إشكالية ملكية/الحفاظ على/إعادة المقتنيات التراثية، فنزل إليه المتاحف وممثلو الحكومات والمثقفون والصحفيون في العديد من البلاد. والمتحف البريطاني وليد وربيب الإمبراطورية وممارسات الاستعمار، وهو محط الأنظار والترقب، وهو بالكاد ينطق. إن المتحف في موقع متفرد، يتيح له أن يدير نقاشاً، عصفاً ذهنياً عالمياً حول أمور مثل علاقة الجنوب بالشمال، حول الأرض المشتركة وإرث الإنسانية وروابط التاريخ وأغلاله. ماهي رسالة المتحف إلا أن يساعد العالم على استشراف عالم أفضل؟ وفي الطريق، أثناء النقاش والجدل، ربما ندرك شيئاً عما لا يستطيع إلا متحف موسوعي ضخم عريق تقديمه للبشرية، وربما يساهم هذا بعض الشيء في تبرير احتفاظه بمقتنياته في لندن. 

لكن مصداقية المتحف في إدارة هذا النقاش ستعتمد أيضاً على اتخاذه موقف أخلاقي واضح يضعه في موقع الحليف للأجيال القادمة. 

***

المتحف يقوم بعمله المهني على أكمل وجه، فالقيمون على المقتنيات من أكثر المهنيين في العالم تميزاً في مجالاتهم، والأبحاث التي ينشرها المتحف مذهلة في اتساعها وعددها وصرامتها، والمتحف قد أقام شبكة حيَّة من أمناء المتاحف حول العالم من خلال برنامج التدريب العالمي الذي دشنه منذ ١٣ عاماً، كما ساهم في تأسيس مشروع «الأعمال الفنية الدائرة» والذي يساعد في التعرف على الأعمال المسروقة وتتبعها حال ظهورها في السوق، وفي مصر له دور كبير في مشروع الحفاظ على متحفنا الفريد في ميدان التحرير، كما أن المتحف قد بادر إلى مشروع ضخم لإعادة صف أو عرض مقتنياته لتحكي حكاية أكثر إنصافاً عن عالم أكثر تداخلاً - ولكن، وفي النهاية، فإن أي حكاية يختار المتحف أن يحكيها سيراها الناس ضمن إطارها الأوسع: كيف يدير المتحف حياته: من أين يأتي بما يصرف، كيف يعامل عمالته، ما هي الهيئات والنظم التي يتخذها زميلة أو رفيقة درب؟

إن المتحف البريطاني ليس خيراً مطلقاً في حد ذاته؛ هو خيرٌ فقط بالدرجة التي يؤثر بها تأثيرا خيِّراً على العالم. ومقتنياته المأثورة هي نقطة انطلاق، هي فرصة، هي أداة. هل سيستعملها المتحف ليؤثر بالخير في مستقبل كوكبنا وسكانه؟ أم سيستمر في تكريس المكاسب الاستعمارية وتحصين وتجميل الشركات العملاقة؟ 

المدارس تأتي بالأطفال إلى المتحف - هم نفس الأطفال الذين يعيشون الآن قلقاً وجودياً بسبب التغير المناخي؛  كيف يستجيب الأطفال لشارة بريتيش بتروليوم الضخمة تهيمن على أهم المعارض؟ ماذا يعني أن تكون سياسات العِمالة عند متحف يصر على أنه "للجميع" سياسات تدفع بالعمال إلى حياة غير آمنة ومتذبذبة اقتصادياً؟ المتحف البريطاني مشيد على مقتنيات تُبَيِّن كيف تشكل العالم ثم عاد وتشكل ثانياً وثالثاً عبر التاريخ؛ هل سيساهم الآن في تشكيل عالم عادل مترابط مفتوح - عالم يسمح باستمرار الحياة للأجيال القادمة، أم سيستمر في التعاون مع أولئك الذين يفككون هذا العالم ويدمرونه أمام أعيننا؟

حزنت للاستقالة؛ حزنت لوصولي إلى الاقتناع بأن هذا هو الفعل الأكثر فائدة المتاح لي.

 

***

 

طالع مقالات أهداف سويف في "الشروق"



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك