مستقبل التنمية لم يعد كما كان! - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 9:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مستقبل التنمية لم يعد كما كان!

نشر فى : الأربعاء 1 مايو 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 مايو 2024 - 7:30 م

يواجه العالم أزمة تنمية؛ فهكذا تؤكد مؤشراتها التى تم استعراضها فى الأسبوع الماضى الذى خصصت أعماله فى الأمم المتحدة لمناقشة قضايا التمويل. وقد استهل التقرير السنوى الشامل عن تمويل أهداف التنمية المستدامة بالإفصاح عن حقيقة الأوضاع بأن 15 فى المائة فقط من هذه الأهداف على المسار السليم لتحقيقها فى عام 2030، وأن نصف هذه الأهداف بعيدة ومنحرفة عن هذا المسار، وأن 35 فى المائة منها أسوأ مما كانت عليه أوضاعها عند إشارة البدء فيها منذ 7 سنوات ونيف كان أكثرها عجافا.

ولا تُظهر مؤشرات النمو الاقتصادى أن العالم سيعوض فى النصف المتبقى من الطريق ما أضاعه فى النصف الأول منه.

فالجهود الراهنة فى مسارات التمويل والاستثمار والتجارة متهافتة تعوقها الحروب والصراعات الدولية وتربكها الإجراءات الحمائية المسيّسة التى تضر بشركاء التجارة ولا تحقق نفعا اقتصاديا يذكر للمبادرين بها. بما يدرجها تحت بنود الحماقة كسلوك معيب لكل من يلحق الضرر بغيره بلا نفع لنفسه، إذ يستشرى الضرر فيلحق الأذى البالغ بمرتكبى الحماقات الاقتصادية، وإن جاءت وسط صياح المشجعين لإجراءات شعبوية قصيرة النظر ضيقة الأفق امتلأت بها سجلات الأفكار السيئة البالية التى عدّ مرتكبوها دائماً أنهم يحسنون صنعا.

ونشهد اليوم ألوانا من أذى الحماقات الدولية التى استباحت حياة الناس حربا، وأضرت بأسباب معيشتهم بتدمير المناخ والتقاعس عن إنفاذ التعهدات المتراكمة بالتصدى لتغيراته منذ اتفاق باريس لعام 2015، وقوضت فرص التنمية بالإفراط فى الاستدانة بلا عائد، وأهملت الرعاية الصحية؛ فتركت الجوائح والأمراض المعدية تحصد الأرواح، وجعلت الارتقاء بالتعليم والثقافة والمعرفة، وهى من جوانب الاستثمار الأهم فى البشر، فى ذيل قوائم الاهتمام. ثم يأتى من يتعجب من استفحال أزمة التنمية غير مدرك أنها من النتائج المحتومة لمقدمات معلومة.

ذكرنا فى المقال السابق أن استقرار معدل النمو الاقتصادى عند رقم 3.2 بالمائة فى العام الماضى وتوقع استمراره عند هذا الحد المتدنى فى العامين الحالى والمقبل من النذر السيئة لمستقبل التنمية المستدامة التى تحتاج لمستويات أعلى كمّا ونوعا. كما أن البلدان النامية يتطلب تقدمها ما لا يقل عن ضعف هذا الرقم لكى تضيق الفجوة بينها وبين البلدان المتقدمة ذات الدخل الأعلى.

وفى تقرير لجنة النمو التى قاد أعمالها الاقتصادى مايك سبنس الحائز على نوبل فى الاقتصاد، أكد الحاجة إلى تحقيق البلدان النامية متوسط نمو لا يقل عن 7 فى المائة لمدة 25 عاما متصلة حتى تحقق التقدم والتقارب مع البلدان المتقدمة. والمؤسف أن بلدانا نامية، بما فيها أغلب البلدان العربية والإفريقية، يقل فيها النمو الاقتصادى السنوى عن المتوسط العالمى، مع تفاوت قطاعى وإقليمى ونوعى، يمنعنا من وصف نموها بالشمول والاطراد. فضلا عن افتقاد لأبعاد التطور الجديدة للتنافسية؛ فهو ضعيف الإنتاجية مفتقر لإسهام الاقتصاد الأخضر والتحول الرقمى وممكنات تحقيق وثبات من خلال الذكاء الاصطناعى.

بوصفة ميكانيكية بسيطة يحتاج تحقيق أهداف التنمية المستدامة إلى معدل نمو اقتصادى مرتفع. يتطلب هذا النمو استثمارات فى رأس المال البشرى وفى البنية الأساسية وفى تمتين الاقتصاد والمجتمع وتعزيز قدراتهما على التوقى من الصدمات واحتوائها. تستلزم هذه الاستثمارات تدفقات مالية مستمرة، قدّرتها دراسة كلفت بها رئاستى قمة المناخ لشرم الشيخ ودبى بنحو 5.4 تريليون دولار سنوياً للبلدان النامية والأسواق الناشئة، باستثناء الصين. وتشير الدراسة التى أعدتها لجنة خبراء بقيادة الاقتصادية فيرا سونجوى واللورد نيكولاس ستيرن، إلى أن هذا الرقم يتضمن 2.4 تريليون مطلوب تأمينها من مصادر محلية وخارجية لتمويل تخفيف آثار الانبعاثات الضارة والتحول للطاقة الجديدة والمتجددة والتكيف مع تغيرات المناخ.

وللعلم فهناك تقديرات أقل لحجم فجوة التمويل، إذ قدّرها تقرير تمويل التنمية المستدامة بنحو 4 تريليونات دولار. ويرجع التفاوت إلى اختلاف منهجية التقدير وشمولها، ولعدم توافر تقديرات دقيقة عن التمويل على مستوى كل دولة يمكن رصده وتجميعه لتحديد الفجوة العالمية.

ويتوافر عالميا من أرصدة المدخرات الأصول المالية ما يكفى ويفيض بكثير عن احتياجات التمويل المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية. فقد أشار تقرير لمؤسسة «برايس ووتر هاوس» تحت عنوان «إدارة الأصول والثروات»، إلى أن الأصول المالية تحت إدارة مديرى المحافظ ارتفعت من 85 تريليونا فى عام 2016، إلى 111 تريليونا فى عام 2020 الذى شهد جائحة كورونا، ومقدر أن تصل إلى 145 تريليونا فى عام 2025. وعلى خلاف ما كان مأمولا فى بداية تطبيق برامج التنمية المستدامة بعبارة «من المليارات إلى التريليونات» التى صدرت كعنوان طموح فى تقرير لبنوك التنمية الدولية، يشير لارى سمرز وزير الخزانة الأمريكى السابق والبروفسور سينج فى مقال أخير لهما، إلى أن الواقع يشير إلى «مليارات تخرج وملايين تدخل»، فى إشارة منهما إلى تراجع صافى التدفقات المالية إلى البلدان النامية. إذ تحصلت منها المؤسسات الخاصة على 68 مليار دولار فى شكل سداد لأقساط الديون وفوائدها، بينما سحبت منها المؤسسات المالية الدولية 40 مليار دولار أخرى. أفنعجب مرة أخرى من سوء أحوال التنمية المستدامة عالميا؟ فمن أين تأتى التنمية بلا محركات للنمو؟ وكيف تعمل محركات النمو من دون استثمارات؟ وكيف للاستثمارات أن تنشط من دون تدفقات مالية ملائمة وسريعة ومستمرة توجه حيث أولويات التنمية وعوائدها على الاقتصادات والمجتمعات؟ إن لم يتغير هذا النهج المستمر البائس ذو الآثار التعسة الراهنة، فمن التضليل أن يروج البعض لمعجزات ومفاجآت قد تتحقق على المستوى العالمى. وإذا علينا أن نبدأ بانطلاقة جديدة فهى بالتوقف الفورى عن ارتكاب الحماقات، وعلى مداويها التحوط والتوقى من شرور الحمقى استرشادا بقول المتنبى:

«لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها».

التعليقات