«الوشم الأبيض».. سؤال الهوية على أجنحة الدهشة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الوشم الأبيض».. سؤال الهوية على أجنحة الدهشة

نشر فى : الخميس 1 يونيو 2017 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 1 يونيو 2017 - 8:40 م
يستكمل الروائى أسامة علام فى روايته الأحدث «الوشم الأبيض»، الصادرة عن دار الشروق، ملامح عالمه الخاص، الذى يمزج بين أسئلة عميقة وحكايات مدهشة، تختبر آفاقا أوسع للخيال، وتمنح قارئ أعماله متعة الفن، ومتعة الفكر.
فى هذه الرواية أيضا تلك السمات العامة التى كتبت عنها من قبل فى روايتيه السابقتين «تولوز» و«الاختفاء العجيب لرجل مدهش»، حيث يظهر خليط شديد الثراء والتنوع من الجنسيات والهويات والثقافات والأماكن والبلدان، وحيث يطير السرد على أجنحة من حكايات غرائبية أحيانا، وحيث يتدفق الحكى مشوقا ومسليا ومثيرا للتأمل، من دون أن تفلت الفكرة، أو أن يتوه المعنى.
ينتمى الكاتب إلى مجموعة من الأدباء المصريين والعرب المقيمين فى كندا، بحكم عملهم، ولكنهم تأسسوا ثقافيا ومعرفيا فى بلادهم، ومن هذا الخليط بين جذور عربية، وانفتاح على كل الثقافات والأفكار، ولدت تجربة ثرية حقا. وفى حالة أسامة علام، فإن هذه الثنائية واضحة مثلا قبل الخبرة الكندية، رواية «تولوز» مثلا، تعبر عن سنوات دراسة الكاتب فى فرنسا، ولكنها أيضا تستحضر بطريقة حية ولافتة تفاصيل شخصيات وعوالم قرية بالقرب من المنصورة، وتنتقل بين فرنسا ومصر، وكأنهما جزء من لوحة واحدة.
فى «الوشم الأبيض» لعبة سردية ذكية وجديرة بالالتفات، يقودها بالأساس أربعة أشخاص: أولهم «أشرف المدنى» الطبيب النفسى المصرى الذى يعمل فى أحد مستشفيات مونتريال، وثانيهم مريضه الغريب صانع الوشم «جون سبيستيان أندريه» الذى يمتلك تاريخا غامضا، ويحمل خطرا محتملا على كل من يعالجه، وثالثهم طالبة الطب السمراء الحسناء «مود بيير» التى رسم جون سبيستيان أندريه على جسدها وشما أبيض يحمل قوة كامنة خارقة.
أما الشخصية الرابعة المحورية فهى والد أشرف، الذى تنوب عنه رسالته فى نهاية الرواية، وهو فى الحقيقة ذاكرة ابنه الذى يعيش فى متاهة الاغتراب، شخصية الأب أساسية فى بناء الرواية، وربما كان من الأفضل أن تكون حاضرة طوال الأحداث، لتضفيرها ضمن البناء، بشكل أقوى وأعمق، وحتى لا تبدو كإضافة، بعد أن انتهت الحكاية.
مونتريال هى ميدان السرد والصراع، ولكن فكرة ألوان الطيف، وتعدد الهويات والجنسيات والأماكن بل والأزمنة تعمل أيضا فى صورتها القصوى:
أشرف مثلا يقول إنه ولد فى ليبيا، ونشأ فى سلطنة عمان، وترعرع فى مصر، ودرس فى فرنسا، ويعمل فى كندا، وجون سبيستيان أندريه الذى يعامله الطب النفسى باعتباره مريضا، له هوية قديمة تعود إلى العام 1737، ويتحدث طوال الوقت عن فكرة الحلول والتناسخ، ومود بيير هى ثمرة زواج رجل من كيبيك، وامرأة من أوغندا، بل إن والدها سيتحول فيما بعد إلى امرأة، فيمتلك هويتين ماضيا وحاضرا.
أما الأماكن أيضا فهى أيضا متلونة ما بين مونتريال، وقرية صغيرة ثلجية، وفرنسا التى تفتتح الرواية، وصولا إلى واحة سيوة، وهذا التنوع يمنح فرصة كبيرة لاختبار مفاهيم أساسية عند الكاتب، مثل سؤال الهوية، وفكرة الاختلاف، ووحدة المشاعر الإنسانية.
فعلى الرغم من تلك الأطياف والهويات، فإن التواصل مستمر وممكن، والحزن هو الحزن أمام الموت فى كل زمان ومكان، والحب هو الحب فوق كل الانتماءات، والإحساس بالاغتراب حاضر فى صور متعددة، والشخصيات تحاول أن تبحث عن هويتها، وتحاول أن تجد شيئا تنتمى إليه، أما «الغرائبية» فليست مقصودة لذاتها أبدا، وإنما تفتح أفقا أكبر لرؤية الأفكار والوقائع فى سياق آخر، ومن زوايا أخرى مختلفة.
اللعبة فى «الوشم الأبيض» هى أن علاج أشرف المدنى لجون سبيستيان أندريه متعدد الهويات، سيقود الطبيب إلى اكتشاف امرأة أخرى متعددة الهويات هى مود بيير، وسيقع فى هواها، ومن خلال علاج جون، والتورط فى مشكلته العجيبة، وعن طريق حب مود، والتورط فى حياتها، وأسرار أسرتها، سيبحث أشرف فى النهاية عن هويته هو.
أى أن العالم الغرائبى الذى تمثله حكاية جون، وقصة مود، يصب فى النهاية فى قصة أشرف، التى سنعرف فى النهاية أن قصة والده، لا تقل غرابة عن قصة جون ومود، أى أن «الوشم الأبيض» هى بالأساس حكاية أشرف، وسؤاله عن ماضيه وهويته واغترابه وقدره، ولكن من خلال قصة جون ومود، اللذين يحملان أيضا الأسئلة نفسها، عن الهوية الملتبسة والصعبة عن الماضى والاغتراب والقدر.
جون مثلا يرى أنه ينتمى إلى الماضى، فهو إذن غريب، ويستعير جسدا فى الحاضر، بل إنه يشكك أشرف نفسه فى هويته الحاضرة، وينسب إليه هوية أخرى قديمة، ومود ابنة عالمين: كندا وأوغندا، وأب أصبح أما، وأم تقود قبيلة غريبة فى قلب الغابة، فوضى هويات، وأزمنة، وأسئلة، وأحداث، تجعل من العالم وجنسياته لوحة واحدة، وتطلب من أبطال الحكاية الإجابة عن الأسئلة.
ليست الغرابة هى هدف الرواية، وإنما هى الشكل الذى يمنح حرية أكبر، ومرونة أعظم فى السرد، كما أنه يحقق بالتأكيد تشويقا أكثر، ولكنه قبل كل ذلك فى صميم معنى الحياة، لدرجة أنك لا تستطيع أن تقول إن غرابة حكايات جون المريض السحرية، أكبر من غرابة حياة مود، أو تحولات والدها وأمها، أو أكبر من غرابة حياة والد أشرف فى رسالته، وعلى الرغم من تعدد الأماكن والأزمنة والتفاصيل، وعلى الرغم من أن عالم جون يميل إلى الخيال، وعالم مود ووالد أشرف يسرد بصفته واقعا، فإن الغرابة تظل دوما جزءا من التجربة الإنسانية عموما: هذا الكائن/ الإنسان معقد، من الداخل ومن الخارج، وهو غريب وعجيب، على أى نحو أردت، وبأى عدسة تأملته بها، سواء عدسة الواقع، أو عدسة الخيال، ولعلها الفكرة الأعمق الهامة فى أعمال الكاتب عموما.
يمكننا بعد ذلك أن نفهم لماذا يذهب جون ومود بالموت فى النهاية، بينما يبقى أشرف مواصلا السرد والحكى، ومستكملا قصته، وقصة والده (الابن يرى نفسه صورة من أبيه، والأب نفسه فى قصته سيبدّل عالمه، وسيعانى اغترابا مماثلا).
أشرف هو محور السرد وصوته، وليس جون ولا مود، وأشرف هو الذى سيجيب عن سؤال الهوية، باختيار الزواج من زميلته هناء المصرية، وباكتشافه لهوية والده من خلال رسالة منسية، وباكتشافه وجود شقيق له، يجب أن يبحث عنه، وتنتهى الرواية بمعرفته أن الهوية ميراث وقدر لا يمكن التخلص منه.
الآن يصبح للوشم الأبيض معنى مجازى مهم، يتجاوز معناه المباشر، باعتباره تحفة فريدة لا تتكرر، حفرها رجل يسكنه الماضى الذى لا يموت (جون سباستيان أندريه)، على جسد امرأة سمراء فاتنة الحسن (مود بيير)، وهو وشم يمتلك قوة مذهلة كامنة فيه، لعل المعنى المجازى هو الهوية المحفورة فى الجينات، وعلى الألسنة، وفى العقول، والتى لو اكتشفناها، لعرفنا قوتنا الكامنة الخارقة، وشم الهوية أعمق وشم، هو تاريخنا الشخصى، وماضينا الذى نتوه بدونه، وهو التناسخ والحلول الواقعى بين الأسلاف والأبناء، معادلا لفكرة التناسخ فى محيطها الغرائبى أو الأسطورى.
تنغلق دائرة اللعبة علينا بعد أن تورطنا فيها، فينتقل سؤال «أشرف» و«جون» و«مود» و«والد أشرف» إلى ملعبنا، ونجدنا كقراء مطالبين بالإجابة عن أسئلة الرواية الماكرة.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات