بؤس المثقف.. والترجمان - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 5:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بؤس المثقف.. والترجمان

نشر فى : الجمعة 2 سبتمبر 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 2 سبتمبر 2011 - 9:00 ص

 اتسم عصر مبارك المخلوع بالانحطاط والفساد فى كل المجالات، فقد عاشت مصر على مدى أربعة عقود مرحلة مستمرة ومتواصلة من التردى والهوان. التردى فى جميع المجالات من التعليم والجامعات إلى الصحة والمستشفيات، ومن الزراعة إلى الصناعة والاقتصاد، ومن العمران الذى تحول إلى عشوائيات تحيط أحزمتها القبيحة بالمدن إلى المواصلات وحوادث القطارات وغرق العبارات. فقد أصبح الفساد فيه هو القاعدة وليس الاستثناء، فانهارت معه القيم واستشرى ما دعوته فى دراسة سابقة بسلم القيم الاجتماعية والأخلاقية المقلوب، حيث أصبحت القيم النبيلة التى تقوم عليها كل المجتمعات السليمة، من صدق وأمانة وعلم واجتهاد ونزاهة فى قاع السلم، بينما ارتفعت القيم المنحطة من الكذب والجهل والنهب والفهلوة والصفاقة والضعة إلى قمة السلم فقد ارتفع مردودها جاها وأموالا. أما الهوان فحدث عنه ولا حرج، حيث حول النظام الساقط مصر إلى «الكنز الاستراتيجى» للعدو الصهيونى، فعاث فى المنطقة فسادا. وهان شأنها حتى تجاسرت عليها بغاث الدول، وتطاولت عليها بلاد لم يكن لها مكان على الخريطة من قبل.


حراس الكلمة وكلاب الحراسة

لذلك لم يكن غريبا أن تنحط الثقافة هى الأخرى طوال العقود الأربعة الأخيرة، كما انحط التعليم وهانت السياسة، وأن يدخل المثقفون إلى «حظيرة» هذا النظام الفاسد الفاقد للمصداقية والشرعية معا. وبدلا من أن ينهض المثقف بدوره العقلى والنقدى فى قيادة الوعى وإرهاف الضمير، أصبح خادما للاستبداد، وتحول إلى أداة لإحكام قبضة السلطة على الواقع، وانتاج خطاب تدليسى يعزز هيمنتها عليه. وبدلا من أن يكون المثقف ممثلا لضمير الأمة وحارسا لقيمها العقلية والأخلاقية، أصبح كلب حراسة لحماية النظام، ينقض بشراسة على من يعارضه أو يكشف عريه من المصداقية والشرعية. هكذا تحول المثقف، الذى أغدق عليه النظام الفاسد الساقط أمواله ومناصبه وجوائزه المغشوشة إلى تابع بائس لأجهزة الأمن التى تسيره وتوجهه كالدمية. يتباهى بصداقته الحميمة للجلاد، ويتحول إلى كاتب تقارير تافه يلهث وراء فتات ما تقدمه له النظم الاستبدادية العربية التى استخدمته بذكاء طوال عقود الانحطاط الأخيرة.

لكن المثير للحزن والسخرية، أن مثل هذا المثقف التابع البائس لم يسقط مع سقوط النظام بعد الثورة، وإنما سارع بصفاقة لا نظير لها فى أى مكان فى العالم، للحديث باسمها، والزعم بأنه من أشد مناصريها، وتحول خطابه إلى العملة الرديئة التى تطرد العملة الجيدة من السوق. وتبشر بضرورة استمرار الاستبداد الذى لا حياة له ولا دور إلا بخدمته. وأخذت الثورة تعانى من خطاب هذا المثقف التدليسى كما تعانى من مؤامرات الثورة المضادة عليها وفلول النظام. فهو الطليعة الثقافية الممثلة لهما معا وقد ارتديا قناعه الجديد، حسب نظرية فرانز فانون الشهيرة «جلد أسود وأقنعة بيضاء»، ولكن بعد أن زالت مرحلة الاستعمار القديم الذى تحدث عنه فانون، وأصبحنا فى عصر الاستعمار الجديد الذى لم يتورع المثقف البائس عن دهان وجهه بأصباغه القبيحة.

فقد طالعتنا الصحف المصرية صباح الجمعة الماضى، جمعة طرد سفير العدو الصهيونى والمطالبة بقطع تصدير الغاز له، بصورة مثقف بائس من خدام الاستبداد وهو يقوم بدور الترجمان للسفيرة الأمريكية الجديدة، آن وودز باترسون، التى قابل الكثيرون تعيينها فى مصر بالاستهجان. فالسفيرة التى كانت قبل قدومها إلى مصر سفيرة لبلادها فى باكستان إبان تصاعد العمليات العسكرية الأمريكية فيها وتنفيذ عملية اغتيال بن لادن، وقبلها ممثلة لبلادها فى الأمم المتحدة أيام حشد التأييد لتأخير أى وقف لإطلاق النار أو إدانة للعدو الصهيونى إبان حربه المجرمة على لبنان عام 2006، معروفة بأسلوبها المقتحم وبتدخلاتها السافرة فى الشئون الداخلية للبلاد التى تعمل بها وتتعامل معها كمندوبة سامية للقوة العظمى، وليس كسفيرة أو دبلوماسية عادية. سواء أثناء عملها فى أمريكا اللاتينية التى أشعلت فيها نيران العنف والتدمير، أو باكستان التى يعتبرها البعض مسئولة عن تصاعد العنف، وتزايد العمليات العسكرية فيها وفرق بلاكووتر Blackwater/Xe سيئة الصيت، وجيش من جنود المخابرات المركزية الأمريكية يتجاوز 3000 عنصر مخابراتى؛ بصورة ضج معها الباكستانيون منها. وأدى أسلوبها لتعكير علاقات الولايات المتحدة مع باكستان، وإرسال سفير آخر معروف بحنكته الدبلوماسية ودماثته هو كاميرون مونتر كى يصلح ما أفسدته باترسون.


المندوبة السامية الأمريكية

ومن يكشف عن تاريخها وسيرتها فى الإنترنت يجد ما يسره! فهى عضو بارز منذ فترة طويلة فى مركز الأمن الأمريكى الجديد، وهو أحد مراكز المحافظين الجدد، قل غلاة الصهاينة الجدد، لذلك لم يكن غريبا أن يحظى تعيينها كسفيرة جديدة لمصر ما بعد الثورة، بإجماع الكونجرس الذى يسيطر عليه المحافظون. وهناك تقارير لويكليس تثير الشبهات والتكهنات حول دورها فى رفض حماية بنازير بوتو أو التواطؤ فى عملية اغتيالها فى باكستان. ومن يراجع الصحف الأمريكية والباكستانية التى تناولت سيرتها سيعرف كيف شكت منها دوائر الصحافة والسياسة هناك بسبب أسلوبها الفظ وتدخلها السافر فى السياسات والتعيينات. ربما لهذا رافقها الترجمان فقد ترشحه لوظيفة جديدة لو نجحت بمصر فى ممارسة ما فعلته فى باكستان. فهى معروفة بأسلوبها الفظ ومنهجها الاستعلائى كمندوبة سامية لبلادها، تأمر فتطاع. وقد بدأت حياتها الدبلوماسية فى مصر بطريقة غير دبلوماسية على الإطلاق، حينما توجهت لزيارة المجلس العسكرى، قبل أن تقدم أوراق اعتمادها، لتطرح عليه إملاءاتها، مطالبة بالتراجع عن إثارة قضية التمويل الأمريكى لمنظمات المجتمع المدنى كى لا يؤجج مشاعر العداء لأمريكا. مما دفع البعض إلى وصف الزيارة بالخطيرة وبالتدخل السافر فى الشئون الداخلية المصرية.
هذا قليل من كثير سيجده من يبحث عن سيرة السفيرة فى الإنترنت. أما الترجمان الذى ظهر بجوارها أمام مسجد السلطان حسن وقد «فشخ» فمه، وبانت عليه أمارات النجاح والحبور فإن الحديث عنه يطول. والترجمان لمن لا يعرف هذه المفردة من أبناء الثورة، وجيل المرشدين السياحيين والإنترنت، هو شخصية شبه أمية، قبل أن يصبح الإرشاد السياحى مهنة تتطلب معرفة وتعليما جامعيا. شخصية كانت تتسم بالفهلوة، والقدرة على التقاط بعض الكلمات الأجنبية، مع قليل من المعلومات السياحية، ثم تحوم كالهوام حول من يترددون على الأماكن السياحية، تتسول بتلك المعلومات رضاهم، وتقدم لهم تطوعا معلوماتها المغشوشة مقابل «بقشيش» يتفق حجمه مع نوع السائح ومكانته.


الترجمان

أقول لم استغرب إطلاقا حينما شاهدت صورة هذا المثقف الذى أنهى حياته الوظيفية بفرض التطبيع البغيض مع العدو الصهيونى على الحياة الثقافية التى قاومته ببسالة طوال أكثر من ثلاثين عاما. وتخصيص صفحة للثقافة العبرية كل أسبوع فى المطبوعة الحكومية الأدبية الوحيدة فى مصر، فى وقت لا تحظى فيه الثقافة المغربية أو السودانية أو العراقية أو السورية أو حتى الليبية بصفحة كل عدة أشهر. وها هو يبدأ حياته بعد المعاش بالعمل كترجمان للسفيرة الأمريكية الجديدة، وهو يتجول معها حول معالم القاهرة القديمة. وأنا لا يهمنى هنا اختيارات هذا المثقف البائس، ولا نوعية «البقشيش» الذى ستدفعه له السفيرة نظيرا لخدماته التطوعية تلك. فقد استمرأ مثقفو عصر مبارك البغيض الولوغ فى الوحل وفيما هو أبشع من الوحل رائحة. كما كانت مكاناتهم فى هذا النظام الساقط القديم تتحدد لا بمدى قربهم من رموز النظام وعائلته الحاكمة فحسب، ولكن أيضا بعدد الدعوات التى وجهتها لهم السفارة الأمريكية إلى حفلاتها ومناسباتها المختلفة.

لكننى استهجنت كثيرا أن أرى هذا المشهد بعد الثورة، وفى جمعة طرد سفير العدو الصهيونى. وأن تصف الصحف هذا المثقف الذى ضبط متلبسا بالقيام بدور الترجمان، بأنه «روائى شهير» أو «كاتب كبير» (لأن فى هذا الوصف إهانة للرواية وللكتاب معا). واستهجنته أكثر لأن هذا «الترجمان» البائس يزعم أنه مع الثورة، وأنه من الذين دعوا إليها، ويكذب فى الصحف، الفرنسية خاصة، زاعما بأنه من مطلقى شرارتها. لكن هذا فى نهاية الأمر هو المصير الجدير بمن أختار ألا يحترم شرف الكلمة، وأن يكون أحد كلاب حراسة نظام هوى. فقد كان يصدع رءوس القراء بصداقته الحميمة للذراع اليمنى للجلاد، حبيب العادلى، والمسئول عن أمن الصحافة والثقافة. فمن أضاع شرف الكلمة، لا يبقى له إلا شرف مصاحبة المندوبة السامية الجديدة، والتى جاءت إلى مصر تسبقها سمعتها فى التدخل فى أمور البلاد والعباد التى مثلت بلادها فيها.


تنويه

علمت أن (الشروق) كشفت عن أن رسالة مانديلا التى أشرت إليها فى الأسبوع الماضى غير صحيحة، لكن عدم صحة الرسالة لا ينال من تحليل المقالة لطبيعة الثورة المصرية وجدتها، وضرورة البحث عن استراتيجيات جديدة تقودها إلى تحقيق غاياتها.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات