نجحت العملية وماتت السوق - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نجحت العملية وماتت السوق

نشر فى : الأحد 3 مايو 2015 - 9:45 ص | آخر تحديث : الأحد 3 مايو 2015 - 9:54 ص

محافظ البنك المركزى المصرى ذكرنا بقصة الطبيب الذى طمأن أهل المريض على نجاح الجراحة التى أجراها. ثم أعرب عن أسفه لأنه مات. ذلك أن المحافظ فعل نفس الشىء. إذ نجح فى وقف مزايدات تجار الصرافة على الدولار. لكنه قتل السوق. وحين أراد أن يحاصر الذين يتلاعبون بالدولار فإنه جعل كل من أدخل حفنة دولارات إلى مصر يندم على «الحماقة» التى ارتكبها، ليس ذلك فحسب، لكنه أيضا وضعنا أمام مفارقة محيرة. إذ فى حين أن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى كان بمثابة دعوة عالية الصوت لجذب الاستثمارات والترحيب بها فى مصر، فإن القرارات التى أصدرها مضت باتجاه معاكس تماما، إذ كانت بمثابة حملة «ناجحة» لطرد الاستثمارات وتحذيرها من عواقب القدوم إلى مصر.

القصة متداولة على ألسنة كل من له علاقة بالسوق أو له حساب بالعملة الصعبة فى البنوك المصرية. إذ ما عاد يسمح له بسحب أو إيداع أكثر من عشرة آلاف دولار فى اليوم، بحد أقصى خمسين ألف دولار فى الشهر. وهذا القرار أصاب بالشلل كل المستثمرين الذين يستوردون أو يصدرون سلعا أو يحتاجون إلى خامات أو ماكينات من الخارج، ويتعاملون فى عدة ملايين من الدولارات كل شهر. كما أنه سبب مشكلة عويصة لكل أصحاب المصالح خصوصا المرضى الذين تتجاوز نفقات علاجهم الحدود المعلنة. وفى هذه الحالة فإن بعض تجار العملة أصبحوا يوفرون المبالغ المطلوبة للراغبين فى الخارج، بعد دفع مقابلها المصرى فى داخل البلاد بزيادة ٥٪ على الأسعار المقررة. وسمعت من بعض الأجانب الذين يمثلون شركات ومؤسسات بالخارج ان شركاتهم لا تعتمد هذا الاسلوب، وان مثل تلك المقايضات يتعذر تسجيلها فى حساباتهم المالية.

حدثنى البعض أيضا عن أزمة كبرى يواجهها الليبيون والسوريون الذين حملوا معهم أموالهم إلى مصر، وقرروا أن يستقروا فيها بعدما طال أمد الفوضى والاضطرابات التى ضربت الاستقرار فى بلديهم. منهم من اتجه إلى إقامة مشروعات ومنهم من عزم على شراء عقارات لسكناهم هم وعائلاتهم. هؤلاء جميعا أصبحوا يواجهون أزمة لم تخطر لهم على بال. ذلك أنهم ما عادوا قادرين على سحب الأموال التى جلبوها معهم إلى مصر لتنفيذ مشروعاتهم أو شراء العقارات. وفى الوقت ذاته فإنهم ما عادوا قادرين على إخراجها من مصر إلى أى بلد آخر، وهو ما أثر بالسلب على فرص الاستثمار وعلى سوق العقار الذى أصيب بالركود. وما فعلوه انهم جمدوا مشروعاتهم، ونصحوا غيرهم بألا يكرروا الخطأ الذى وقعوا فيه. وفى الوقت الراهن على الأقل فإن تركيا صارت البلد الأكثر جذبا لهم، ذلك أنها تستقبلهم بغير تأشيرات دخول، وبغير قيود على إدخال الأموال أو إخراجها.

أدرى أن القيود التى فرضها البنك المركزى أوقفت الزيادة فى سعر الدولار، وقلصت إلى حد كبير الفرق بين سعره فى محال الصرافة وسعره فى البنوك. وقد قرأنا تصريحا نشر على لسان السيد هشام رامز محافظ البنك المركزى ذكر فيه أنه نجح فى القضاء على السوق السوداء خلال ٤٨ ساعة، وهو بالضبط ما فعله الطبيب سابق الذكر الذى تباهى بنجاح العملية الجراحية التى أجراها. إلا أن السيد رامز لم يشر إلى ما جرى للسوق بعد ذلك وما أصاب حركة الصرف وسمعة الاستثمار فى مصر جراء «النجاح» الذى أحرزه، فى حين أن الطبيب لم يستطع أن يخفى أن مريضه مات بعد الجراحة!

سألت من أعرف من خبراء الاقتصاد الذين آثروا عدم ذكر أسمائهم، فكان رأيهم أن تحليل المشكلة كان خطأ من البداية، وان ما ترتب على ذلك جاء خطأ بدوره. وفى تحليلهم أن الأزمة الاقتصادية ظهرت فى مصر نتيجة تراجع مواردها من النقد الأجنبى بعد ثورة ٢٠١١. إذ ضربت السياحة وتوقفت الاستثمارات الأجنبية. وإزاء شح هذه الموارد فإن الاقتصاد لا يجد أمامه عادة سوى خيارين اثنين، فإما أن يقلل من مصروفاته أو أن يسعى جاهدا لزيادة دخله عن طريق تنشيط القطاع الإنتاجى ورفع كفاءته لزيادة تصديره إلى الخارج. لكن ما حدث أننا لم نتخذ خطوات جادة على هذين الصعيدين. إذ لاتزال المصروفات تحتاج إلى ضبط ومراجعة، كأن يوقف مؤقتا استيراد السلع الكمالية التى تغرق الأسواق (الأطعمة الفاخرة والأجبان التى لا تحصى أنواعها وأكلات القطط والكلاب نموذج لذلك) كما ان القيود المفروضة لا تسمح بزيادة الإنتاج أو تحسينه، حيث يتعذر ذلك فى ظل القيود المفروضة على شراء الخامات والماكينات، الأمر الذى لا يشجع أى مستثمر على أن يطور إنتاجه لكى يجذب المستهلك المحلى والمستورد الأجنبى.

لست فى وارد اقتراح الحلول، لأننى لست مختصا بالموضوع، لكننى أنقل آراء أهل الخبرة بالسوق أو بالاقتصاد، خصوصا، أننى صرت أسمع شكاواهم وانتقاداتهم حيثما ذهبت. ما أثار انتباهى ليس فقط ان القرارات التى اتخذت لم تؤد إلى ارتباك السوق وإصابته بالشلل، ولكن أيضا أنها لم تلق ما تستحق من دراسة وتمحيص من جانب أهل الاختصاص والخبرة قبل صدورها. وإذا صح ذلك فإنه ينقل المناقشة إلى مستوى آخر يثير قضية أكبر مثارة فى المجال العام، تتمثل فى التساؤل حول آلية إصدار مثل تلك القرارات التى تهم مستقبل السوق والبلد، أين تناقش ومن يشارك فى المناقشة وهل تؤهله خبرته لذلك أم لا؟ ــ إلى غير ذلك من الأسئلة التى باتت تتردد كثيرا فى فضاءات الاقتصاد والسياسة دون أن يجيب عليها أحد!

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.