هامش للديمقراطية.. عن تعرجات السير الذاتية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هامش للديمقراطية.. عن تعرجات السير الذاتية

نشر فى : الثلاثاء 5 نوفمبر 2013 - 7:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 5 نوفمبر 2013 - 7:00 م

نعود إلى البدايات: بجانب تشويه الوعى العام والتشوهات القيمية والفكرية والسياسية التى تلحقها بمواطناتها ومواطنيها (منظورا إليهم ليس بصفاتهم الفردية، بل كجماهير وحشود)، تفرض الفاشيات ونظم الحكم الشمولية والسلطوية والنظم المسخ تعرجات كثيرة وفى بعض الأحيان مأساوية على السير الذاتية وتضع مكوناتها الشخصية والأسرية والمهنية فى معية تقلبات عنيفة ينذر توقعها مسبقا.

ألحت على هذه المعانى وأنا أقرأ رواية «لعبة وسيطة» للكاتبة الألمانية مونيكا مارون (صدرت فى ٢٠١٣ عن دار فيشر للنشر وعنوانها باللغة الألمانية هو «Zwischenspiel» والتى تسجل بها عبر أدوات أدبية متنوعة أبرزها الحوار بين الأموات والأحياء تعرجات السير الذاتية للألمان الشرقيين وتقلبات حياتهم العنيفة التى أحدثتها الدولة البوليسية وشمولية الحزب الواحد بين منتصف أربعينيات القرن العشرين وعقده الأخير الذى شهد انهيار نظام الحكم الشمولى فى ألمانيا الشرقية والتحاقها ضمنا بالنظام الديمقراطى الليبرالى لألمانيا الغربية.

تروى مارون عن فنانين وأدباء وموظفين بسطاء خضع بعضهم لقمع الدولة البوليسية وقبل العمالة له إما بالتأييد الصاخب المشوه للوعى العام أو الصامت أو بتقديم خدمات التجسس على «الزملاء والرفاق» وكتابة التقارير عنهم وتداعيات ذلك على سير ذاتية مريضة ومبتسرة. تروى عن البعض الآخر الذى حاول الهروب من السجن الكبير المسور الذى مثلته ألمانيا الشرقية باتجاه ألمانيا الغربية، وعندما أصاب النجاح (أى هرب ولم يقتل أو يعتقل) تهتكت روابط حياته الشخصية والأسرية والمهنية بتضحيات بالغة وأحيانا بإلحاق الظلم للمحيطين به وبات مطالبا فى أواسط العمر بالبدايات المؤلمة الجديدة.

تروى مارون عن مظاليم الدولة البوليسية من فنانين وأدباء ومثقفين وصحفيين الذين لم يخضعوا لها بالكامل وتحايلوا على قمعها وأدواتها أحيانا بتنازلات جزئية كنقد الأوضاع القائمة بكتابة «ما بين السطور» أو بتجاهل بعض أبعاد السيطرة البوليسية على المجتمع وانتهاكات حقوق الإنسان وتقييد الحريات فى سبيل الحفاظ على مواطئ أقدام فى المساحة العامة لبناء الوعى الديمقراطى، وحين انهارت ألمانيا الشرقية وأطلع الرأى العام على تصنيف الدولة البوليسية لهؤلاء المظاليم «كعناصر غير ضارة» اعتبر هذا دليلا على العمالة أو المهادنة وصكا يخول الاستبعاد من دولة الوحدة الديمقراطية.

تروى مارون، بتوريات وبكتابة «ما بين السطور»، عن سيرتها الذاتية وهى الأديبة التى هربت إلى الغرب قبل انهيار ألمانيا الشرقية وتهتكت حياتها القديمة وصنعت روابط شخصية ومهنية جديدة كمدافعة عن الحرية وناقدة للواقع المعيش للشيوعية التى تحولت إلى دولة بوليسية وإلى شمولية الحزب الواحد، وحين انهارت ألمانيا الشرقية اكتشف أنها كانت تصنف من بين «غير الضارين» من قبل للأجهزة الأمنية واعتبرت دوائر واسعة فى الحياة الأدبية والفكرية الألمانية هذا بمثابة صك لنزع المصداقية الديمقراطية عنها وتجريدها من مصداقية الدفاع عن الحريات لتدفع بسيرتها الذاتية إلى تعرجات وتقلبات جديدة.

تروى مارون، رافضة لثنائيات الأبيض النقى والأسود الحالك وغير مستسيغة لمقولات التطهر الخالص والنجاسة الكاملة، عن استحالة أن ننجو كمواطنات ومواطنين لفاشيات أو لنظم حكم غير ديمقراطية من دنس هذه النظم أو أن نباعد بين سيرنا الذاتية وبين التعرجات والتقلبات المستمرة أو أن نتطهر تماما حين نغادر جغرافيا هذه النظم (بالانسحاب فى المكان أو الهروب من المكان) أو حين تغادرنا هى بالانهيار والتفتت. ولا يختلف الواقع المصرى الراهن قيد أنملة عن ذلك، ولا نملك كمصريات ومصريين مهما تضاربت منطلقاتنا ومواضعنا ومواقفنا القدرة الفعلية على الابتعاد الكامل عن دنس غياب الديمقراطية ولا عن تعرجات السير الذاتية.

غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات