«وصول».. عن المستقبل الذى نعرفه! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«وصول».. عن المستقبل الذى نعرفه!

نشر فى : الخميس 5 يناير 2017 - 10:10 م | آخر تحديث : الخميس 5 يناير 2017 - 10:10 م
أفضل ما حققه الفيلم الأمريكى «Arrival» أو «وصول»، الذى أخرجه دينيس فيلنييف، وقامت ببطولته إيمى أدامز هو أنه لا يقدم إبهارا خاويا من المعنى مثل كثير من أفلام الخيال العلمى، ولكنه يوظف الخيال، والبناء المشوق، لكى يقول أشياء عن العلاقة مع الآخر عموما، وعلاقتنا بالمستقبل، وبمصائرنا المحددة، كما أنه يمتاز بعناصر جيدة للغاية ومتكاملة، كالسيناريو والإخراج والموسيقى التصويرية وبالطبع المؤثرات البصرية. فكرة الفيلم المأخوذة عن قصة قصيرة تعتمد على استقبال الأرض لمجموعة من الكائنات الفضائية، ومحاولات العلماء التواصل مع هذا الآخر العجيب، والذى أطلقوا عليه تعبير «هيبتابود»، وهى كلمة تعنى «ذوات الأرجل السبعة»، إنها كائنات تشبه الإخطبوط، ولكنها ترسم من خلال أذرعها أشكالا غامضة، يحاول العلماء ترجمتها، أى أننا بالأساس أمام محاولة للتواصل، وفك شفرة الآخر، الذى يصنف فى البداية على أنه عدو للإنسان، فنحن بالضرورة أعداء لما نجهل، ولكن العلماء يكتشفون أنهم أمام كائنات مسالمة جاءت إلى عالمنا بهدية، وبرسالة سلام وصداقة. ولكن البعد الأعمق فى الفيلم هو أن هذه الكائنات الغريبة، التى انتشرت على الأرض فى أكثر من دولة، وفى قارات العالم المختلفة، ستؤثر على عالمة اللغويات، وبطلة الفيلم د لويز بانكس (إيمى أدامز)، بحيث تجعلها قادرة على رؤية المستقبل، وبالذات فيما يتعلق بإنجاب د لويز لطفلة جميلة، سرعان ما تموت إثر مرض نادر، ويصبح سؤال المحورى هو: هل سنختار أن نعيش أحداث المستقبل حتى لو كانت سيئة إذا أتيحت لنا فرصة معرفة ذلك؟ اللعبة إذن لها وجهان: علاقة مع الآخر للتواصل معه، وعلاقة ومعرفة بما سيحدث فى الغد، والسيناريو الذكى يستغل الوجهين ببراعة ليقدم بناء مشوقا للغاية، بحيث يؤدى كل مشهد إلى اكتشاف مزدوج للكائنات الفضائية القادمة فى سفن ذات أشكال بيضاوية، ولحكاية الطفلة التى ستنجبها د. لويز فى المستقبل، ومصيرها الذى ينتهى بالموت. فيما يتعلق برحلة اكتشاف الكائنات، يقدم السيناريو ما حدث فى مونتانا عند هبوط سفينة الهيبتابود، حيث تفرض حالة الطوارىء، ويتم عزل السفينة الغربية ومحاصرتها بقوات الجيش، ثم يقوم قائد القوات (يلعب دوره فورست ويتاكر) بالإستعانة بخبرة عالمة اللغويات د لويز، كما نكتشف أنه أعد أيضا فريقا كبيرا، أبرز أعضائه إيان دونلى (جيرمى رينر) عالم الفيزياء، ونتتبع محاولات التواصل عبر الشاشات مع العلماء فى الدول التى هبطت فيها سفن الفضاء الغامضة. نتابع بالتفصيل كيفية التواصل الحذر مع الآخر المقبل من الفضاء، من خلال ملابس خاصة، مع استعداد دائم لإطلاق النار، وتدمير الهيبتابود، ولكن د. لويز تكتشف أن هذه الكائنات لها لغة خاصة، تتكون من دوائر لها دلالات، ثم تبذل جهدا خاصا لفك شفرة تلك الكتابة، حتى تتوصل إلى عبارة تفيد معنى استخدام السلاح، مما يجعل الجيش الأمريكى متحفزا، بل إن وزير دفاع الصين تشانج يتخذ قرار فعليا بتدمير سفينة الكائنات الفضائية، التى هبطت فى بلاده، وتنجح د. لويز فى النهاية فى الاتصال بالوزير الصينى للتراجع عن القرار، كما تنجح فى معرفة المعنى المقصود من رموز الكائنات الدائرية. هكذا يرى صناع الفيلم إن العلم وحده هو وسيلة اكتشاف الآخر، يحدث ذلك على مستوى اكتشاف د لويز وزملائها للغة الكائنات الفضائية، ويحدث أيضا عندما يتم التنسيق بين الآخرين فى دول العالم التى هبطت فيها السفن الفضائية، بل إن رسالة الهيبتابود لم يكن ممكنا فهمها، كما أردوا هم، إلا بأن تستكمل كل دولة جزءا من الرسالة، حتى تكون مفهومة المعنى. وصول الكائنات كان إذن درسا فى ضرورة التواصل مع الآخر سواء كان بشرا أو كائنا فضائيا غريب الشكل، ولكنه كان أيضا وسيلة لاختبار المستقبل، إذ إن الهيبتابود لديها هذه القدرة، التى انتقلت بالتالى إلى د لويز، بل إن تلك الكائنات قرأت فى المستقبل أنها ستحتاج مساعدة البشر بعد ثلاثة آلاف سنة، لذلك كانت تلك الكائنات صاحبة مصلحة فى اتحاد وتواصل البشر معا. ولكى يبرز السيناريو فكرة اكتشاف المستقبل أيضا، فإنه يتلاعب بشكل ماكر بالماضى والحاضر والمستقبل: يبدأ من النهاية بوفاة الطفلة هانا، ابنة د لويز، ثم نعود إلى حكاية نزول السفن الفضائية، واستدعاء د لويز للتفاهم مع الكائنات، وتتخلل ذلك مشاهد اكتشاف د لويز للغة الهيبتابود، واكتشافها لما سيحدث مستقبلا لطفلتها، وهكذا تخرج من قلب الفلاش باك الطويل (حكاية لويز مع الهيبتابود حتى فهم لغتها) مشاهد مستقبلية (فلاش فوروارد للطفلة التى لم تجىء بعد وصولا إلى وفاتها)، وبذلك يبدو أمامنا الزمن مثل نهر متدفق، لا يوجد فيه فصل بين الماضى والحاضر والمستقبل، بل إن مصائرنا تحيط بها دائرة، مثل تلك الأشكال التى رسمتها الكائنات الفضائية. الدائرة فى الحقيقة هى مفتاح الفيلم، حيث ننتهى من نفس نقطة البداية، واللغة التى يتم فك شفرتها، مفردااتها تنويعات على الشكل الدائرى، وابنة لويز اسمها «Hannah»، وهى كلمة تنطق من اليسار إلى اليمين، مثلما تنطق من اليمين إلى اليسار، فكأنها أيضا دائرة مصير، تحيط بالطفلة، التى تولد ثم تموت ثم تولد حكايتها من جديد. هنا ترجمة سردية للفكرة التى تعيد تشكيل الزمن، وتؤكد أنه نسبى تماما، بدليل أن الزمن الذى نستخدمه، يختلف عن الزمن عند كائنات الهيبتابود، كما أن مارأته د لويز لم يكن قد حدث بعد، ولكن حتى بعد أن عرفت بمصير طفلتها، وحتى بعد أن عرفت أن زميلها إيان هو والد طفلتها المستقبلية، فإنها تقرر أن تتزوج منه، وكأننا أمام دائرة قدرية فرضتها الكائنات، ثم أكدتها د لويز بالإختيار، ذلك أن الحب يستحق المغامرة، حتى لو كان الموت يقف فى نهاية الطريق. تقول د. لويز: «اللغة هى صانعة الحضارة»، فيقول زميلها إيان: «العلم هو صانع الحضارة»، والفيلم ينحاز تماما للعلم كوسيلة لفهم الآخر، بل ويتخيل أنه يمكن أن يجعلنا نرى مستقبلنا، كما ينحاز الفيلم للتواصل بشكل عام كأسلوب للحياة، ورغم أن الموت مؤلم، إلا أن الأكثر منها إيلاما هو تلك الحياة الخاوية، بدون حب، وبدون تواصل بين البشر، تماما كما حدث عندما أظلمت الشاشات، التى يتم من خلالها متابعة سفن الفضاء وكائناتها فى بقية دول العالم. يمتلك الفيلم إيقاعا مشدودا متوترا ومكثفا، كما أن يبسط الأفكار العلمية الخاصة بفك شفرة رموز الهيبتابود، ويبسط أيضا فكرة تأثر د لويز بقدرة الهيبتابود على كشف المستقبل، وقد كانت إيمى أدامز وفورست ويتاكر فى حالة جيدة للتعبير عن طرفى اللعبة: عالمة لغويات تؤمن بالتواصل وتثق بالكلمة واللغة، ورجل عسكرى لا يثق إلا بالسلاح، وفى النهاية يحقق وصول الكائنات إلى الأرض وصولا للتفاهم، ووصولا للمستقبل، من دون إطلاق رصاصة واحدة، وياله من معنى جميل يستحق عناء الرحلة كلها.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات