الجمال أهم من المنطق - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 9:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجمال أهم من المنطق

نشر فى : السبت 6 أبريل 2024 - 9:25 م | آخر تحديث : السبت 6 أبريل 2024 - 9:25 م
سألت صديقى القاص والروائى وكاتب السيناريو محمد رفيع عن أكثر ما كان يركز عليه أستاذه فنان السينما الكبير رأفت الميهى فى محاضراته حول «كتابة السيناريو»، فقال رفيع إن الميهى كان يرى أن «الجمال أهم من المنطق»، وعلى الكاتب ألا يتردد فى اختيار ما يراه أكثر جمالا، حتى لو كان يبدو غير منطقى، أو لا يسير مع القواعد المألوفة.
ذكرنى هذا الرأى المهم بما قاله لى يوما عازف الناى الشهير محمود عفت، نقلا عن أستاذه الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب، فقد كان الأستاذ يرى أنه «لا شىء يعلو فوق الأجمل»، وكان لا يتعالى عن الاستماع إلى اقتراح بتعديل جملة موسيقية، أو إضافة جملة ما، من أحد العازفين، إذا تبين له أن هذه الإضافة أجمل مما اختار هو، مع أن المنطق يقول إن الموسيقار والمطرب الفذ عبدالوهاب لا يحتاج إلى تعديل أو إضافة، وإن العازف، منطقيا، هو الذى يجب أن يستمع وينفذ، وعليه ألا يجرؤ على اقتراح أو تعديل، حتى لو طلب الأستاذ ذلك.
ولكن عبدالوهاب كان يرى فى العازفين أول المستمعين للحن، وهم يفهمون فى الموسيقى، والوقت متاح فى «مطبخ البروفات» لأى تعديل، قبل خروج اللحن والأغنية نهائيا إلى الجمهور.
ذكرنى كلام الميهى نقلا عن رفيع أيضا بعبارة مهمة لأينشتاين، كان يقول: الخيال أهم من المنطق، فالمنطق يأخذك من «أ» إلى «ب»، ولكن الخيال يأخذك إلى أى مكان».
تكتسب العبارة أهميتها من كونها على لسان فيزيائى عظيم، يفترض أن ينحاز إلى المنطق الصارم المحكم، الذى يميز القوانين العلمية، والنظريات الرياضية، ولكنه انحاز إلى «الخيال»، أى إنه حلم وتخيل وافترض أولا، ثم ترجم ذلك إلى منطق محكم، ومعادلات يمكن إثباتها.
شغلتنى دوما تلك الموازنة بين الأجمل، والأكثر منطقية، نتيجة شغفى بالفلسفة، بعد أن شاءت الأقدار أن أكون ابنا لأحد مدرسيها وعشاقها، وكان أبى يتحدث طوال الوقت عن القيم الثلاث التى تبحثها الفلسفة: قيمة «الحق»، التى يدرسها علم المنطق، وتناقشها نظرية المعرفة، وقيمة «الخير»، التى يبحثها علم الأخلاق، وقيمة الجمال، التى يبحث فيها علم الجمال.
ورغم وجود علاقات بالتأكيد بين القيم الثلاث، بدا لى، نظريا على الأقل، أننا أمام دوائر منفصلة، مع أننا لو تأملنا ــ مثلا ــ فى علاقة المنطق بالجمال، فإن المنطقى يتسم بالجمال بالضرورة، لأنه يحقق اتساقا عقليا وذهنيا، وقد أخبرنى محمد رفيع أن الميهى كان يرى أن المنطقى أصبح كذلك لأنه جميل.
كل منطقى جميل ومتسق ومريح، ولكن العكس غير صحيح فيما أعتقد، أى إنه ليس بالضرورة أن يكون الجميل منطقيا، فالسيريالية، وكل مذاهب الحداثة، وما بعد الحداثة، تكسر مفهوم المنطق التقليدى، وتقترح منطقا بديلا كاملا، أقل إحكاما من انضباط المنطق التقليدى.
وإذا كان العزف على النوتة الموسيقية، دون الخروج عنها، يصنع ما يسمى بالمنطق الموسيقى، فإن توظيف إيجور سترافينسكى للفوضى والضجيج فى باليه «طقوس الربيع»، قد صنع منطقا موازيا، يستغنى عن القاعدة المنطقية، فى سبيل التأثير والتعبير، ويمنح جمال التعبير حرية وأفضلية عن دقة المنطق، وبدون تلك المغامرة التى جعلت الجمال فوق المنطق، ما كان يمكن ارتياد آفاق أوسع فى الكتابة الموسيقية.
يمكن أن يقال ذلك بالمثل عن قاعدة الوحدات الدرامية الثلاث الأرسطية، وهى وحدة الحدث والزمان والمكان، التى قيدت الدراما لعدة قرون، قبل أن يتم كسرها، وجاء الكسر جماليا، وضد مؤسس علم المنطق، بل لقد صار هذا الكسر للوحدات الثلاث هو القاعدة، إلى درجة أننا نحتفى اليوم بالأفلام «النادرة» التى تستعيد الوحداث الثلاث، مثلما احتفينا بأفلام مثل «ساعة ونص»، و«وش فى وش».. إلخ.
عندى نماذج كثيرة لأهمية أن يعلو الجمال فوق المنطق، فالنهاية الأصلية والمنطقية حقا، والمكتوبة فى سيناريو عاصم توفيق لفيلم «عودة مواطن»، هى ركوب شاكر للطائرة، عائدا إلى قطر، بعد أن اكتشف أنه غريب فى وطنه الذى تغير، كما أنه فقد إخوته الذين لم يعودوا فى حاجة إليه، ولم تنقذهم الأموال التى أتى بها.
النهاية المنطقية أن يعود شاكر من حيث أتى، معلنا هزيمته، ولكن محمد خان مخرج الفيلم، قام بتغيير هذه النهاية إلى نهاية مفتوحة، حيث نرى طائرة شاكر وهى تقلع، ثم نراه جالسا فى صالة المغادرة، أى إنه لم يسافر على هذه الرحلة، ولم يعد فى نفس الوقت إلى عائلته المفككة.
هذه النهاية أجمل من النهاية المنطقية المكتوبة، لأنها تفتح القوس من جديد، وتنقل حيرة شاكر، بين المغادرة والبقاء، إلى الجمهور، وكأن خان يسأل كل متفرج: ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان شاكر؟ هل ستغادر أم ستبقى؟ هل ستعلن هزيمتك أم ستقوم بمحاولة جديدة؟
مغادرة شاكر المنطقية كانت ستريح المتفرجين، لأنه أخذ القرار نيابة عنهم، ولكن هذه النهاية المعلقة المفتوحة، ستحمل السؤال الصعب إلى بيت كل متفرج، وستخرج بالمشكلة من «حالة شاكر الخاصة»، إلى «الحالة العامة التى قد تطال كل مصرى».
هذا اختيار جمالى بديع رغم أنه غير منطقى، بالضبط مثل اختيار خان الجمالى فى فيلم «خرج ولم يعد»، فى مشهد اصطحاب خيرية لعطية، لكى يشاهد جمال الحديقة أمام الترعة، فيقطع خان قطعات قافزة، وهما يقفان أمام الماء.
منطقيا القطع هنا خشن، وسط نعومة المشهد كله، ولكن جماليا القطع هنا له وظيفة تنبه المتفرج إلى أن هذه اللحظة استثنائية فى حياة عطية، وكأن عالمه يتسع فجأة. إنها لحظة اكتشاف الجمال، وهى لحظة ليست ككل اللحظات.
المنطقى أن تكون المرأة بوجه واحد، ولكن بيكاسو رسمها بثلاثة وجوه، فولدت «التكعيبية» كرؤية جمالية متفردة.
لذلك نقول بحماس: «الجمال والخيال أهم من المنطق».
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات