تفكيك العقد الاجتماعى وإعادة تركيبه - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تفكيك العقد الاجتماعى وإعادة تركيبه

نشر فى : الثلاثاء 5 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 5 فبراير 2013 - 8:00 ص

من المفكرين من أنكر وجود العقود الاجتماعية بشكل صريح ملموس، وإن قبل بوجودها الضمنى، وثمة من ذهب إلى التنديد بالفكرة من أساسها. ولكن يبقى العقد الاجتماعى مفهوما راسخا فى الفكر السياسى، تعددت التعبيرات عنه وطرائق تفسيره. ويزيد من ترسخ المفهوم بساطته واتخاذه شكلا ملموسا فى العصر الحديث، هو شكل الدستور.

 

تفسير منتشر للعقد الاجتماعى فى مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادى والعشرين يقول إن النظام السياسى الناصرى قد جعل الدولة تكفل للمصريين احتياجاتهم المادية الأساسية، وأضاف إليها حقوقهم فى المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، وأن المصريين فى مقابل ذلك تنازلوا عن حرياتهم السياسية، حرية كل من التعبير والتنظيم وحكم أنفسهم بأنفسهم، أى أنهم تنازلوا عن حقهم فى الديمقراطية.

 

•••

 

نفس التفسير يرى أن العصر الساداتى اعتبر أن ضمان الاحتياجات الأساسية للمواطنين عبء على الدولة لايمكن لها تحمله، وأن العدالة الاجتماعية والمساواة يضرَان بتراكم رأس المال الضرورى لتوليد الدخول والثروات، ولتحقيق النمو الاقتصادى. هكذا بدأت الدولة تتخلص تدريجيا من «أعبائها» وتسمح باختلال الموازين الاجتماعية. فى مقابل ذلك، أقرَ النظام الساداتى للمواطنين بحريات سياسية شكلية ومنقوصة. العقد الاجتماعى فى ظل النظام الساداتى امتنع عن كفالة الحقوق المادية للمواطنين، وفى الوقت ذاته استمرَ فى حرمانهم من الديمقراطية.

 

ويردف التفسير أخيرا أن نظام مبارك استمرَ على نهج السادات، ثم زاد من سرعة توغله فيه، فانكمش ما تكفله الدولة من احتياجات المواطنين، دون أن يؤدى النمو الاقتصادى الذى تحقق على مذبح الامتيازات والفساد والاختلالات الاجتماعية إلى أن يلبى الاقتصاد من تلقاء نفسه هذه الاحتياجات. وقام النظام بخداعه وسطوه على حريات المواطنين دون أن ينشأ النظام الديمقراطى الذى كان يمكن أن يصحح الاختلالات الاجتماعية. العقد الاجتماعى فى العصر المباركى صار ضحكا مطلقا على الذقون وعدوانا سافرا على حقوق المواطنين! لا هو لبَى حقوقا اقتصادية واجتماعية ولا هو وفرَ حقوقا سياسية!

 

•••

 

لما استقرَ فى وجدان كتلة حرجة من المصريين أن العقد الاجتماعى الذى أبرموه فيما بينهم، وأنشأوا الدولة الحديثة بموجبه وأوكلوا إليها تطبيقه، متوسمين فيها احترامه، لما استقرَ فى وجدانهم أن هذا العقد قد انحسر وأن الدولة قد فككت التزاماتها بمقتضاه، انتفضوا ثائرين. ثار المصريون لاسترجاع حرياتهم التى سلبها النظام المباركى، وأملوا فى أن تجدَ الدولة، بعد سقوط رأسه، فى تنظيم حياتهم، وفى توفير الظروف الضرورية لتلبية احتياجاتهم. فى بداية ثورتهم، وثق المصريون فى أن النظام السياسى الجديد سيشخص احتياجاتهم تشخيصا سليما، وسيمكِن الدولة من أن توفر لهم حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعا. على هذا الأساس احترم المصريون الدولة، أو على الأقل لم يقل احترامهم لها عما كان عليه أيام سطوة الفساد، وجبروت أمن الدولة.

 

بمرور الأيام، ادرك فريق من المصريين أن تحايلا قد جرى على حقوقهم السياسية، وأن الممارسة الفعلية لحقوقهم الاقتصادية قد تراجعت، وتأكد فريق ثان، مهمل على مرِ الزمان، زادت سياسات النظام المباركى من وطأة الإهمال عليه، تأكد هذا الفريق من أن أى تغير لم يطرأ على حرمانه من حقوقه الاقتصادية والاجتماعية أولا ثم والسياسية، وأن السلطة الحاكمة لم تبد أى اهتمام بهذه الحقوق، حتى ولو اهتماما رمزيا لا يتعدى الكلمة الحلوة! 

 

•••

 

ارتسمت ملامح النظام السياسى الجديد بممارسة القائمين عليه للسلطة واحتكارهم لها، ثم بمناسبة اعتماد الدستور عنوة فى ديسمبر 2012، ثم زادت هذه الملامح وضوحا بمحاولة سن قانون انتخابى فج فى اجحافه، هدفه تكريس احتكار السلطة وإدامته. عندها أيقن الفريقان، كل على حدة، أنهما إن لم يتحركا فإن مصير حقوقهما، لا محالة، مزيدا من التدهور. الفريقان يتكونان من جماعات وأحزاب متعددة. الفريق الأول، هو جبهة الإنقاذ الوطنى، يتكون من أحزاب وجماعات ليبرالية ويسارية يجمعها التوجه المدنى، وفصل المجال الدينى عن المجال السياسى فصلا يتفق وتقاليد الدولة الحديثة فى مصر التى لم تعاد الدين يوما بل راعته واستلهمته. اختلفت الأوزان النسبية للقضية الاجتماعية ولدور الدولة فى تصحيح انحراف السوق الحرَة لدى كل من هذه الأحزاب والجماعات، ولكنها اتفقت على مقاومة إعادة انتاج التسلط والسلطوية. الفريق الثانى يتشكل من مجموعات شتَى، بعضها معروف والبعض الآخر مجهول أو تختلف بشأنه التقديرات. هذا الفريق لا مركزية فيه، ولا تنظيم يلمه، ولا فكر واحدا يجمعه. هذا الفريق يغذيه شباب حاضره بائس ومستقبله مسدود، ومواطنون رافضون تلقائيا لسطوة أى فريق يمارس السلطة وحده ويحتكرها، وأطفال شوارع وسكان مناطق عشوائية على أطراف المدن وفى داخلها لم تعن الدولة بهم يوما لا قبل الثورة ولا بعدها، وجماعات مشجعى أندية كرة القدم التى صارت من الفاعلين الاجتماعيين المؤثرين فى العملية السياسية لأول مرَة فى أى مكان فى العالم، ومع هؤلاء وأولئك جماعات الشباب متفاوتى التطرف الذين لا يثقون فى الدولة أصلا ويظنون أنها ستخدم الأقوياء دائما على حساب الضعفاء. الفريق الأول، جبهة الإنقاذ، استقوى بسخط الناس على احتكار الإخوان المسلمين للسلطة، وهو رأى فى حجم الاحتجاجات أكبر سند له فى مواجهة السلطة. احتجاجات الجبهة سلمية، والسلمية هى امتداد لأهم ما ميَز الموجة الأولى للثورة فضلا على أنها فى طبيعة نضال الجمهور المنتمى لأحزاب وجماعات الجبهة أو المناصر لها. الفريق الثانى ليس لديه الشيء الكثير يخسره، وهو فى أغلبه لا إطار فكريا لديه يشجع على السلمية أو يثنى عنها، ولكنه وقد أعوزته الوسيلة من جانب، بإلإضافة إلى كونه ضحية العنف التاريخى بل والحالى للدولة من جانب آخر، استرجع الحريات التى كان قد تنازل عنها لهذه الدولة ومارس العنف تجاهها بدرجات متفاوتة.

 

•••

 

تحرك الفريقان ونزلا إلى الشوارع، المكان الوحيد الذى تركه الحكام لهم، كما كان مبارك قد فعل من قبلهم، ليرفعا شعاراتهم، ويعرضا مطالبهم التى يريدون تضمينها العقد الاجتماعى المصرى الجديد. بالنسبة للفريق الأول الشعارات والمطالب تتمحور حول الدفاع عن الحريات والمساواة بين المواطنين، وتوسيع دائرة العمل السياسى، ومقاومة احتكار السلطة باسم الدين، والدعوة غير المفصَلة إلى العدالة الاجتماعية. هذه شعارات ومطالب الفريق الأول الضرورية للحفاظ على النظام العام. الفريق الثانى، لا يفسِر بوضوح شعاراته ومطالبه، ولكن جوهرها هو رفض النظام العام المرتبط بدولة غيركفؤة فى تلبية احتياجات مواطنيها، دولة لا تكفل العدالة الاجتماعية، وترى جماعة منه أنها لا تقيم العدالة. ولكن الفريقين والجماعات المكونة لهما نزلت إلى الشوارع أيضا لتسجِل شعبيتها، ووزنها النسبى بين الجمهور، ومهاراتها فى التعامل بأدوات العمل السياسى.

 

•••

 

مجمل الأمر أن تحرك الفريقين فى شوارع المدن المصرية هو بمثابة التفاوض مع القائمين على السلطة. وليس عرض السلطة للحوار بل ولتعديل الدستور الذى لم يمض الشهر الواحد على اعتماده الا تعبيرا هو الآخر عن عملية التفاوض الجارية.

 

عملية التفاوض هذه ستفضى فى أغلب الظن إلى اتفاق، لأنه من مصلحة كل من الإسلاميين الموجودين فى الحكم وجبهة الإنقاذ استعادة النظام العام لأن انهياره سيكون على حسابهما معا، وسيدفع الإخوان المسلمون الثمن بشكل خاص. غير أنه إذا لم يشكل الاتفاق عقدا اجتماعيا جديدا ترد فى صدارته احتياجات وحقوق الغاضبين من أبناء الشعب، فإن الاتفاق سرعان ما سيسقط لينزوى الفريقان معا وليفسحا الطريق لفاعلين سياسيين ومجتمعيين جدد.

 

 

 

أستاذ السياسات العامة

 

بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات