إلى متى تدفع مصر ثمن الريادة؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلى متى تدفع مصر ثمن الريادة؟

نشر فى : الأربعاء 6 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 6 فبراير 2013 - 8:00 ص

عندما قامت ثورة يوليو وأعلنت تصديها للاستعمار، ورفضها الانضواء تحت مظلة الأحلاف التى فرضتها قواه على المنطقة العربية، فأسقطت حلف بغداد، ومدت يديها إلى شقيقاتها العربية، وفى مقدمتها الجزائر، فمكنتها من أن تجنى ثمار استشهاد مليون روح طاهرة، وإلى جاراتها الأفريقية التى قامت الواحدة بعد الأخرى بطرد المستعمرين الأوروبيين ممن نهبوا ثروات بلادهم تاركة أهاليها تؤوى إلى الغابات مخالطة الحيوانات، لتقوم بعد سنوات قلائل منظمة الوحدة الأفريقية، حقت عليها لعنة المستعمرين الذين كانوا يتباهون بحضارتهم السامية وبثقافتهم الرفيعة التى أطلقتها الثورة الفرنسية، مخرجة الأوروبيين من ظلام الكهوف إلى نور العلم الذى أضاءت شموعه مؤلفات ابن رشد وابن سينا والخوارزمى وغيرهم من علماء العرب.. فكان العدوان الثلاثى الغاشم فى 1956 الذى وضحت فيه بطولة الشعب المصرى وفى مقدمته أبناء مدن القناة التى انتزعها عبدالناصر من أيديهم، وأذكر وقتها ــ وكنت أدرس فى جامعة ليدز البريطانية ــ أن قرأت مقالا فى جريدة المانشستر جارديان يتساءل: ماذا نفعل لكسر إرادة المصريين، وهم الذين يرضون بالاقتصار على الخبز والبصل؟.. كانت مصر تنتج غذاءها، وشعبها يفضل الخبز مع الكرامة ويغلّب مصالحه الوطنية على أى مطالب فئوية.. بل لم يكن لهذا المصطلح وجود آنذاك. ونظم الطلبة العرب مسيرة سلمية بإذن من الشرطة البريطانية، واكبتها مسيرة يهودية (فليدز من أهم معاقلهم هناك) على الجانب الآخر، دون أن يعطل أينا حركة المرور فى الطريق. وكان الإنجليز يطلون من نوافذ بيوتهم هاتفين تشجيعا لنا. وحين نظمنا مناظرة فى الجامعة، كان فى مقدمة المتحدثين رامز الحلوانى الذى ولد فى الخارج لأم أجنبية، لم ير مصر قبل ذلك، حصلنا على تأييد 60%.. ويومها قال رامز إنه سيلقى بجواز سفره فى وجوههم، وعاد فعلا بعدها ليعمل فى القسم الأجنبى للإذاعة المصرية. كان تصرفنا حضاريا، مكننا من اكتساب احترام وأصوات قوم يقدسون حرية الرأى فى نطاق حدودهم، ويفعلون النقيض خارجها.

 

•••

 

وحين أقر عبدالناصر الخطة القومية الأولى متضمنة برنامج السنوات الخمس للتصنيع فى أوائل الستينيات وأعقبها بإعلان التحول الاشتراكى، قال له يوجين بلاك الذى ترأس البنك الدولى فى لقاء شخصى معه: افعل ما تريد.. هاجم أمريكا كيفما شئت.. إلا التصنيع فلن يُسمح لك به. فسأله ماذا ستفعلون؟ هل ستدكون المصانع بالقنابل؟ فكان رد بلاك.. لدينا سبل ووسائل. واستدعى عبدالناصر الدكتور لبيب الشقر، وكان وقتها مسئولا مع على صبرى (رحمهما الله) عن التخطيط، وطلب منه أن يدرس الأمر (ومنه عرفت هذه القصة). وحينما أصر عبدالناصر على المضى فى طريق الاشتراكية الاجتماعية فى 1964، ردت ألمانيا بإيقاف المعونات الاقتصادية التى كانت من أهم مكونات عملية التصنيع آنذاك، ووجهت الأموال إلى إسرائيل بدعوى تعويضها عما لحق اليهود على يد النازيين. ولما كانت أمريكا قد استنفدت أغراضها بمؤازرة مصر فى 1956 لتضمن إبعاد البريطانيين والفرنسيين، وتثبّت أقدامها مكانهم، فقد أصابها الضيق من نجاح نموذج لا ماركسى للاشتراكية والتخطيط، يسد الطريق على رأسماليتها الشرهة التى كانت ذراعها اليمنى فى فرض سيطرتها على العالم وبخاصة الدول النامية، وفى مقدمتها العربية والأفريقية. ودفعت إسرائيل إلى عدوان 1967 تحت أنظار المدمرة ليبرتى التى حركتها قبالة الشواطئ المصرية لتقدم العون لإسرائيل عند اللزوم، وإن لم تنجُ من قذائف الصهاينة. ولعل الهزيمة التى منيت بها مصر آنذاك كانت أهون مما كانت تدبره أمريكا لنا لو انعكست الآية. وهكذا دفعت مصر مرة أخرى ثمن الريادة فى الحقلين الاقتصادى والاجتماعى، بعد ما تكبدته فى السياسى، حتى لا تحذو حذوها دول العالم الثالث حديثة العهد بالاستقلال.

 

•••

 

وحين حمل شباب مصر أرواحه على أكتافه فى 25 يناير 2011، فاستشهد منهم من استشهد، وظلوا مصرين رغم ذلك على سلمية ثورتهم، تحت حماية قواتهم المسلحة الوطنية، انزعجت القوى المسيطرة على العولمة، لأنها كانت تراهن على قيادة العالم ضد أى حركة مناهضة متهمة إياها بأنها عنف يوصف بالإرهاب. وكان لابد من تشويه الصورة التى أبهرت العالم، وملأتنا بالفخار، فحكمت على الثورة بالإعدام إثباتا لعدم إمكان الجمع بين الثورة والسلام، وأن السلام لن يطول لتعود الثورة إلى نطاق العنف الذى اقترن دائما بها، وإن كان ما نجا بثورة 23 يوليو أنها بدأت كحركة فى نطاق تطهير الجيش والنظام من الفساد، لتتحول إلى ثورة بالإنجاز لا بالسلاح. وفى ظل الانفلات الذى أصاب الأمن فشوّه صورة رجال الأمن وأطلق سراح عتاة المجرمين، ليصبح الهجوم على أجهزة ومبانى الأمن والسجون الطريق الأقصر إلى إطلاق يد العابثين الذين يحركهم أعداء الثورة ويمدونهم بالمال والسلاح، إلى حد أن يصبح ميدان التحرير مقرا لبيع زجاجات المولوتوف وعبوات المواد الناسفة والمخدرة. لو أن الثورة ظلت بيضاء نقية لكان لها سريان النار فى الهشيم، فى وقت تنشغل أجهزة عديدة، منها الأمم المتحدة، بدراسة وضع أسس نظام لإدارة شئون العالم فى ظل تنامى قوى العولمة. كان لابد من عكس تيار الثورة، والأسوأ دفع من يحملون الجنسية المصرية إلى ارتكاب أبشع جرائم القتل والتشويه والتخريب وشل حركة الاقتصاد. والأشد سوءا أن هذا يحدث فى ظل تحركات سلمية تنتهى إلى معارك دامية، ويظل الثوار مصرين على نفس الأسلوب فيسمح بتكرار المأساة، ثم ترتفع الحناجر بمهاجمة رجال الأمن.

 

•••

 

 مرة أخرى تدفع مصر ثمن الريادة، ولكن هذه المرة يختفى أعداؤها وراء فصيل من أبنائها. ألم يفكر الثوار فى صيغ بديلة للتعبير تقطع الطريق على المتربصين السوء بمصر، لتستعيد الثورة مكانتها العالمية التاريخية، وتحقق أهدافها المجيدة النبيلة؟

 

 

 

خبير فى التخطيط

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات