محاولة لتفسير الغباء! - بلال فضل - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 4:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محاولة لتفسير الغباء!

نشر فى : الثلاثاء 6 أغسطس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 6 أغسطس 2013 - 8:00 ص

إذا كنا لا نستطيع منع الغباء من تدمير حياتنا فلماذا لا نحاول تفسيره على الأقل؟.

لا أظنك تختلف معي فيما تعرضنا له بفعل الغباء الذي كلما اقتربنا من السير على بداية الطريق الصحيح يدفعنا مجددا نحو طريق خاطئ نكرر فيه نفس حماقاتنا بحذافيرها، وإن أبدعنا فلا يكون إبداعنا إلا سعيا لتجويد الحماقة أكثر. كلما وصل إلى الحكم حاكم جديد قلنا لأنفسنا ونحن راغبون في الراحة من مناهضته "يستحيل أن يكون غبيا ليكرر أخطاء من سبقوه"، لكنه دائما يدهشنا ويكون أغبى مما نتصور، فنندفع لمعارضته ومنع غبائه من إفساد حياتنا، ونحن نتحسر على حظنا المنكوب بالأغبياء، وعلى الراحة التي لا تُكتب لنا أبدا.

في روايته الرائعة (في قبوي) يتأمل سيد أدباء الإنسانية ديستويفسكي ظاهرة الغباء الإنساني التي تشهد عليها ملايين الوقائع عبر تاريخ الإنسانية، والتي تجعل البشر ينبذون الطريق الذي يقودهم نحو خيرهم ومصالحهم ليسيروا في طريق غامض مختلف مليئ بالمخاطرات والمصاعب، مع أنهم ليسوا مجبرين على ذلك أبدا. يقول ديستويفسكي "قد تجد إنسانا يتهكم على عماوة الأغبياء الحمقى الذين لا يفهمون لا مصالحهم الحقيقية ولا القيمة الحقيقية للفضيلة، ولكن ما إن ينقضي ربع ساعة، ربع ساعة على وجه الدقة والتمام، حتى نراه يقوم بعمل سخيف أو يرتكب حماقة، دون أي سبب غير اندفاع داخلي أقوى من جميع اعتبارات المصلحة والمنفعة، يجعله يعمل على نقيض جميع القواعد التي ذكرها، على نقيض العقل، على نقيض مصالحه".

ما الذي يجعل الإنسان يفعل ذلك؟، ربما كان جاذبية الحرية التي تفتنه أكثر من المصلحة فيندفع وراءها؟، ربما كان عطشه الدائم إلى أن يبدو مستقلا حتى لو سار في طريق الشر أكثر من سيره في طريق الخير الذي قد يحقق له المصلحة، هذا ما يعتقده بطل الرواية الذي يصل في النهاية إلى نتيجة تفسر له كل غباوات البشر من حوله، حين يرى أن الإنسان مخلوق غريب الأطوار يمكن أن يتم تعريفه بأنه الحيوان الذي يتميز بالعقوق، فهو إذا وصل إلى السعادة لا يلبث أن يندفع في شذوذ ما، فيدمر نفسه بنفسه ويهوي إلى قاع العذاب لا لهدف سوى أن تكون له الكلمة الأخيرة والقول الفصل، وأن يبرهن لنفسه على أنه إنسان وليس مسمارا في آلة.

يقول ديستويفسكي على لسان بطله "إن خير تعريف يعرف به الإنسان هو أنه: كائن عاق يمشي على قدمين، وليست هذه الآفة آفته الرئيسية وإنما آفته الرئيسية أنه سيئ الطبع، وأنه احتفظ بسوء طبعه هذا منذ عهد الطوفان الكبير، وإذا قلنا سوء الطبع فقد قلنا طيش السلوك، حاولوا أن تلقوا نظرة على تاريخ الإنسانية: ماذا ترون؟، قد تقولون: نرى فخامة وروعة، نعم هذا جائز، وقد تقولون: إننا نرى تنوعا كبيرا، حقا إن هناك شيئا من تنوع يخلب الألباب ويتيه فيه الفكر ولا يصمد لإغرائه مؤرخ، وقد تقولون أننا نرى تشابها ورتابة، ممكن، فالناس في الواقع لا يزيدون على أن يقتتلوا. اقتتلوا أمس، ويقتتلون اليوم، وسيقتتلون غدا، حقا أن في هذا إسرافا في التشابه والرتابة، اعترفوا بذلك. إننا نلقى كل يوم أناسا يظهرون لنا عقلاء حكماء، أناسا يحبون الإنسانية، ويهدفون إلى أن يعيشوا حياة تستوحي العقل وتستلهم مبادئ الشرف بغية أن يؤثروا في أقرانهم بالقدوة الحسنة وأن يبرهنوا لهم على أن في وسع الإنسان أن يلتزم في حياته جانب الحكمة، ولكن ماذا يحدث عندئذ؟، إنكم تعرفون أن عددا من محبي الحكمة هؤلاء ينتهي بهم الأمر عاجلا أو آجلا إلى أن يخونوا أفكارهم وأن يتورطوا في قصص فاضحة".

بعد كل هذا التشريح المؤلم يطرح ديستويفسكي على لسان بطله سؤالا هو سؤال أيامنا هذه بامتياز، كما كان سؤال الأجيال التي سبقتنا، وسيكون سؤال الأجيال التي تلينا إن لم تواجهه بقوة وشجاعة وتتعلم من تجارب الذين خلوا من قبلها: "لماذا نرى الإنسان يحب الهدم والفوضى حبا يبلغ حبه للبناء، لماذا ينقاد الإنسان لعقوقه ويقوم بتلويث نفسه بارتكاب أخطر الحماقات وأضر الحقارات مهما غرق في السعادة وأغدقت عليه جميع خيرات الأرض"، وبعد تفكير يجد البطل نفسه أمام إجابة وحيدة: "إن الإنسان يفعل كل ذلك لكي يبرهن لنفسه أنه بشر حر الإرادة وليس إصبع بيانو تلعب به قوانين الطبيعة، ومن أجل إثبات ذلك يسبب شرورا كبيرة ويصب على العالم لعنته، وحتى عندما تستكين نفسه ويحقق شيئا ويقترب من تحقيق هدف، فإنه يخشى بغريزته أن يبلغ هدفه ويتم الصرح الذي يبنيه، فيلجأ إلى تدمير ما بناه، لأنه أصبح غير راضٍ عما حققه، حتى لو بدا ذلك للآخرين نكتة مضحكة، ربما لأن الإنسان نفسه كُوِّن تكوينا مضحكا جدا، تكوينا يبعث على الضحك مثلما تبعث عليه نكتة رخيصة قائمة على اللعب بالألفاظ".

يبدو تفسير ديستويفسكي على تشاؤمه مقنعا وقريبا من القلب و"جاي على الجرح كمان"، ليس فقط لأنه يتسق مع المأثورات الدينية ومع الحكم الشعبية المتوارثة بل وحتى مع أغاني عربي الصغير ورمضان البرنس وكافة البكائيات الشعبية التي يرفع أبطالها شعار "ضربت الودع ما لقتش صاحب جدع" بتنويعات مختلفة، لكن تأملنا لرواية ديستويفسكي ومصير بطلها المظلم بل ولمجمل أدب ديستويفسكي يقودنا إلى نتيجة مهمة هي أن الإستسلام لتفسير وحيد في فهم الغباء الإنساني والتعامل معه على أنه قدر مقدور لا يستحق المقاومة والكفاح ليس بدوره إلا نوعا اشد وأنكى من الغباء، فكيف لك أن تقاوم الأغبياء وأنت تختار أن تكون منهم، وكيف تدعي الذكاء وأنت تظن أن من الممكن تفسير أي شيئ في الدنيا تفسيرا نهائيا، لذلك يبقى أنك لو انشغلت بمقاومة الغباء بدلا من تضييع الوقت في تفسيره لكان ذلك أفضل لإنقاذ نفسك ووطنك من الأغبياء. 

(أستأذنكم في أجازة قصيرة بمناسبة عيد الفطر المبارك وأعاود الكتابة السبت بعد المقبل بإذن الله. كل سنة وأنتم طيبون ومصر ناجية ولو إلى حين من شرور الأغبياء من مختلف الماركات والموديلات).