البدايات الصغيرة للمتغيرات الكبيرة - محمد السماك - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 5:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البدايات الصغيرة للمتغيرات الكبيرة

نشر فى : الأحد 6 سبتمبر 2009 - 9:54 ص | آخر تحديث : الأحد 6 سبتمبر 2009 - 9:54 ص

 يعلّمنا التاريخ أن كثيرا من الأحداث والمتغيرات الكبيرة غالبا ما تبدأ بأحداث صغيرة ومحدودة. من الثورة الأمريكية ضد بريطانيا، إلى الثورة البلشفية ضد القيصرية.. ومن حركة اللاعنف الغاندية ضد الاحتلال البريطانى للهند، إلى حركة الأفارقة ضد التمييز العنصرى فى جنوب أفريقيا.

وكذلك من حركة الاحتجاج الطلابية الأمريكية ضد الحرب فى فيتنام إلى حركة الاحتجاج الايرلندية ضد الهيمنة البريطانية على ايرلندا.

ولابد للتاريخ من أن يشير فى المستقبل إلى نتائج انتفاضة الحجارة فى الضفة الغربية ضد إسرائيل (1987)، وإلى الحرب الإسرائيلية على غزة (2009)، كما أنه لابد أن يشير إلى نجاح المقاومة الإسلامية فى لبنان بتحرير الجنوب فى عام 2000 بعد 22 عاما من الاحتلال الإسرائيلى، على أنها كلها كانت بدايات لما سيحدث من تحولات ومتغيرات.

كذلك فان التاريخ سوف يجيب عن التساؤلات المطروحة اليوم حول تداعيات الانتهاكات الفاضحة لكرامة الإنسان وحقوقه التى ارتكبتها القوات الأمريكية فى سجن أبوغريب فى العراق وتلك التى ارتكبتها فى جوانتانامو للأسرى العشوائيين الذين اعتقلتهم فى أفغانستان ثم أطلقت سراحهم إثر ثبوت براءتهم بعد سنوات طويلة قضوها تحت القهر والإهانة والتعذيب.

فى عام 1770 قامت فى ميناء بوسطن الأمريكى حركة احتجاج ضد القوات البريطانية المحتلة. يومها حاولت تلك القوات تفريق المحتجين بالقوة، فقتلت خمسة منهم. ولايزال الأمريكيون حتى اليوم يشيرون إلى تلك الواقعة بالمجزرة (نذكّر خمسة قتلى فقط).

غير أن أهمية هذا الحادث الصغير تكمن فى أنه أطلق شرارة استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا. ثم إن المحامى الأمريكى الذى قاد عملية إدانة عناصر القوات البريطانية أمام المحكمة بسبب استخدامها العنف، أصبح الرئيس الثانى للولايات المتحدة وهو جون أدامز!.

هذا الحادث البسيط قلَب صورة العالم رأسا على عقب. فاستقلت الولايات المتحدة عن بريطانيا لتنطلق فى مسيرتها التى أوصلتها اليوم إلى أقوى قوة فى العالم.

كذلك فان حادثا بسيطا آخر وقع فى عام 1905 فى مدينة سان بطرسبرج فى شمال روسيا أدى إلى سقوط النظام القيصرى بعملية ثورية دموية واسعة النطاق. ففى يناير من ذلك العام، نظمت مسيرة احتجاج شعبية أمام القصر الشتوى للقيصر. لم تكن المسيرة ضد النظام، فالمتظاهرون كانوا يرفعون الأناجيل ويهتفون بحياة القيصر، إلا أنهم كانوا من الفقراء الذين يطالبون بالغذاء والكساء..ولكن قوات الأمن ردّت باستخدام العنف فقتلت منهم المئات.

بقى هذا الحادث يتخمّر فى المجتمع الروسى حتى قامت الثورة البلشفية بعد 12 عاما لتطيح بالقيصر ونظامه. فمن كان يتصور أن تتحول مظاهرة محدودة إلى «خميرة» للثورة الانقلابية الشيوعية التى أودت بالآلاف فيما بعد والتى صنعت الاتحاد السوفييتى وأطلقت النظام الشيوعى وصدّرته إلى أرجاء العالم؟

حتى حركة اللاعنف التى أطلقها المهاتما غاندى فى عام 1919 لإخراج القوات البريطانية المحتلة من الهند فرضت فيما بعد متغيرات لم تكن فى الحسبان. فالمسيرة السلمية الصغيرة التى تصدّت لها القوات البريطانية فى مدينة أمريستار فى ربيع ذلك العام أدّت إلى مقتل 379 متظاهرا لم يكن أى واحد منهم يحمل حتى سكين مطبخ.

ولكن هذا الحادث كان بداية نهاية الاحتلال البريطانى والخطوة الأولى نحو استقلال الهند، التى تتبوأ اليوم مكانة متقدمة بين دول الديمقراطية الكبرى فى العالم.

ولقد تكرر هذا الأمر فى جنوب أفريقيا ولو بصورة مختلفة. ففى مايو من عام 1960 تصدّت قوات الحكومة العنصرية لمظاهرة نظّمها سكان البلاد الأصليون مطالبين بحقوقهم الوطنية. فقتلت قوات الأمن 69 شخصا منهم. ومنذ ذلك الوقت أخذت حركة المقاومة ضد الأبارتيد ــ التمييز العنصرى بعدا عالميا تواصل فى التضخم الاستنكارى وفى المقاطعة السياسية والاقتصادية إلى حدّ سقوط النظام؛ وقد تمثّل ذلك بخروج نيلسون مانديلا من السجن إلى رأس السلطة ليقود حركة التسامح التى أنقذت الأقلية البيضاء من ردّ الفعل الانتقامى الذى كانت تخشى منه.

حتى الحرب الأمريكية على فيتنام ما كانت لتضع أوزارها من خلال دبلوماسية المفاوضات السرية، التى قادها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنرى كيسنجر، من دون مظاهرات الاحتجاج ضد الحرب التى قامت فى طول الولايات المتحدة وعرضها، وخاصة فى الجامعات. ويشكل الحادث الذى وقع فى جامعة «كنت» فى مايو من عام 1970 نقطة الانطلاق. ذلك أن الحكومة الأمريكية كانت تخطط لتوسيع نطاق الحرب من فيتنام لتشمل كمبوديا، مما ألهب حماس الطلاب ضد التوسعة وضد الحرب من حيث المبدأ. يومها قتل أربعة طلاب داخل حرم الجامعة برصاص قوات الأمن فعمّت المسيرات الجامعات الأخرى..وبعد ثلاث سنوات، اضطر الكونجرس إلى وقف تمويل الحرب.. وبالتالى إلى وقف الحرب نهائيا. ولعل خروج الولايات المتحدة من مدينة سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية يمثل أبشع صور الهزيمة التى عرفتها الولايات المتحدة فى تاريخها الحديث، حيث اضطر السفير الأمريكى ومساعدوه، وكبار الجنرالات الفيتناميين المتعاونين مع الجيش الأمريكى إلى مغادرة البلاد بواسطة طائرة هليكوبتر أمريكية نقلتهم من على سطح مبنى السفارة الذى احتلته قوات الفيتكونج الثائرة!.

وكادت بريطانيا تواجه الحالة ذاتها فى شمال ايرلندا فى عام 1972 بعد وقوع أحداث ما يوصف بيوم الأحد الدموى. ففى مدينة «لندن درى» وقعت اشتباكات دموية بين القوات البريطانية والمتظاهرين المحتجين على الهيمنة البريطانية البروتستنتية، فقتل 13 منهم. وكان جميع القتلى من الايرلنديين الكاثوليك. ومنذ ذلك الوقت أدركت لندن استحالة إعادة الايرلنديين الكاثوليك إلى بيت الطاعة البريطانى.

ولعل إسرائيل بعد انسحابها المذلّ من جنوب لبنان فى مايو 2000، تدرك استحالة احتلاله من جديد رغم تفوقها العسكرى كمّا ونوعا، ورغم الغطاء السياسى الذى توفره لها الولايات المتحدة على النحو الذى بدا واضحا خلال حرب يوليو 2006 ونتائجها التى اعترف بها تقرير فينو جرادوف الإسرائيلى.

ولعل إسرائيل تدرك كذلك بعد الحرب التدميرية التى شنّتها على قطاع غزة فى عام 2008 استحالة كسر شوكة الشعب الفلسطينى فى تطلعاته المشروعة لإقامة دولته الوطنية.

ولابدّ أن يشكل حادثا الحرب على لبنان والحرب على غزة بداية لمتغيرات جذرية مستقبلية على النحو الذى عرفه العالم من خلال التجارب التى مرّت بها مجتمعات عديدة أخرى.. وفى مناطق مختلفة.

والواقع انه منذ سقوط النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا بدأ العدّ العكسى لسقوط النظام العنصرى فى إسرائيل. وهذه العملية قد تطول أو تقصر وفقا للمعادلات التى تعيد صياغتها إرادة الشعوب العربية والإسلامية؛ وهى لا تحدث، ولم تحدث سابقا قضاء وقدرا!.

تعرف إسرائيل هذه المعطيات معرفة جيدة، إلا أن الإسرائيليين، مثلهم مثل الكثيرين من شعوب العالم يعتقدون أنهم كابن نوح سوف ينجون من الطوفان، وان ما حدث لغيرهم لن يحدث لهم وذلك لمجرد أنهم يهود! إلا إن «المؤرخين الإسرائيليين الجدد» يحذرون من مغبة المضى قدما فى تجاهل حقائق التاريخ، داعين إلى ممارسة النقد الذاتى بالاعتراف بالشعب الفلسطينى وبحقوقه، وبأن إسرائيل لم تكن أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض، وان السلام الذى لم تحققه إسرائيل بستة أو سبعة حروب، لن تحققه بثمانية أو بثمانية عشرة حربا. فغطرسة القوة التى تسود المجتمع الإسرائيلى تدفعه نحو المصير ذاته الذى اصطدم به متغطرسون من قبل. من هتلر وموسولينى فى أوروبة حتى دو كليرك فى جنوب أفريقيا وإيان سميث فى زيمبابوي(روديسيا سابقا).
عانى اليهود كثيرا من جرائم التمييز العنصرى على يد النازية الألمانية. ولكن رغم هول المعاناة، فإن سلوكهم ضد الفلسطينيين بما يتسم به من عدوانية ووحشية، يشير إلى أنهم لم يتعلموا من التجربة التاريخية التى مرّوا بها.

لقد توسعت حدود الرايخ الثالث من نهر الفولجا شرقا حتى بحر المانش غربا.. ولكن أين الرايخ.. وصاحبه؟ لو تعلمت إسرائيل من هذا الدرس هل كانت تقول اليوم بالدولة اليهودية وبالحدود التوراتية من البحر إلى النهر؟

إن قراءة التاريخ شىء، وصناعته شىء آخر.

محمد السماك كاتب وصحفي لبناني
التعليقات