دونج تونج مصر - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 9:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دونج تونج مصر

نشر فى : الخميس 6 ديسمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 6 ديسمبر 2012 - 8:00 ص

 

لم تكن هناك أوامر سمع وطاعة تخرجهم من بيوتهم، ولا أتوبيسات تأتى بهم من الأطراف البعيدة، ولا حاويات ماء حكومية إخوانية تنتظرهم لتروى عطشهم حين يعطشون، ولم يكونوا يفيضون فى الشوارع بوجوه عبوس وتشنج برغم انتفاضتهم. كانوا ينبعون من كل الجهات كأنما يستجيبون لنداء الحقوق الإنسانية العادية، الفطرة النقية التى فطر الله الناس عليها، لا تأويلات دعاة التكفير والتنفير وتجار الدين والفتنة، ولا تعصبات عصبة لا ترى فى غيرها غير أغيار وغبار، وراحوا يملأون الشوارع المحيطة بقصر الانتفاخ بالسلطة، ويفيضون فى ميدان الحرية، فبدوا كأنهم ظاهرة طبيعية تسترد ما سُلب منها لؤما وغدرا وغيلة. بدوا مثل بحيرة تستعيد امتلاءها بفيضان مباغت، مستعيدة ذاكرة نضارتها فى ظاهرة مد بعد جزر لتغمر ما بُنى على أرضها بالباطل، وترتفع فوق هذا الباطل لتغرقه، فيما مشيدو الباطل يتصارخون: «كيف نترك أرضنا. كيف نترك أرضنا»، فترد البحيرة الفتية العفية الملآنة: «هذه ليست أرضكم، بل أرضى». حدث هذا فى مصر بعد غروب الثلاثاء الماضى، وهو يذكرنى بظاهرة «مد البحيرة» التى تُعبِّر فيها البحيرات عن غضبها تجاه من غصبوها أرضها حين الجزر، وأشهر هذه الغضبات مثلتها بحيرة «دونج تونج» فى مقاطعة «هيونان» الصينية. فلنتأمل ونتعظ، فما من شىء يجرى على الأرض إلا وفيه رسالة إلهية للبشر. يا بشر.

 

 

  تُعتبر بحيرة «دونج تونج» ثانى أكبر بحيرة مياه عذبة فى الصين، بمساحة أصلية تزيد على ستة آلاف كيلومتر، تقلصت مع الجور البشرى على الأنهار التى تغذيها إلى ما يقارب نصف هذه المساحة، فراح البشر يبنون على أرضها التى انحسرت عنها المياه مساكن ومصانع ومتاجر وهم لا يدركون أن للبحيرة حقوقا وملكية أصيلة وروحا لا تُهان، ففجأة حدث فيضان هائل بعد جفاف مرير، وامتلأت البحيرة مغرقة كل ما ابتناه الغاصبون على أرضها، أو «سريرها» بتعبير علماء البحيرات، فغرق عشرات آلاف البشر الذين انتهكوا حرمة «سرير البحيرة»، وتشرد أكثر من مليونى إنسان جراء هذه الغضبة. فالطبيعة مثل البشر لها أيضا ممتلكات وحقوق، وتسعى حتما ويوما لاستردادها. وهذا ما فعلته وكررته هذه البحيرة، وهى تستعيد سريرها وتنفض عنه من احتلوه وتمددوا فيه، وتمطعوا وتنطعوا وكأنهم امتلكوه إلى الأبد. لكن لا، فسرير البحيرة هذا وسدته ودثرته البحيرة عبر قرون وقرون من الفيض بعد الغيض، من الصبر على العطش والفرح بالرى، فمع كل فيضان تأتى الأنهار المندفعة بأطنان وأطنان من الرواسب الدقيقة المعلقة فى المياه، ومع استقرار المياه فى حوض البحيرة تأخذ هذه الرواسب فى الهبوط نحو القاع، تغطيه بطبقة ناعمة تكون سميكة فى الشتاء ورقيقة فى الصيف، طبقة فوق طبقة، عاما بعد عام، تشبه حلقات نمو الأشجار، وتشير إلى السنين والعقود والقرون التى تكوَّن فيها هذا السرير الوثير الذى تتطامن فيه مياه البحيرة. فمن يتخلى عن صبر السنين والعقود والقرون؟! لا دونج تونج الصينية تقبل، ولا دونج تونج البشرية المصرية تستسلم للقبول. فهل هذا هو ما حدث فى ثلاثاء فيضان المصريين أمس الأول؟ ويُنذر بالمزيد؟

 

 

بلى، فمصر الفريدة هذه عبر سنين وعقود وقرون وألفيات، وبطابع أرضها المنبسطة السهلة وواديها الأخضر المعمور، بمناخها الرحيم، وبتواشُج صنعه النهر الريان الممتد من أقصاها إلى أقصاها، شكَّلت نموذجا فريدا للتعايش والتسامح والتآزر وعدم التمييز بين بنيها، من كل الأديان والألوان والجذور، كلنا مصريون، هذه حقيقة لم تنقطع أبدا ولم تتشوش برغم إغارات كل من جاءوا وكل من ذهبوا وكل من عاثوا ومن عبثوا. هذه الحقيقة، روح مصر السوية الممتدة، صمدت سنين وقرونا، ولم تتعرض للتشويه المجرم كما تعرضت فى السنة الأخيرة، وتحديدا بعد ما أسماه المُشوَّهون المُشوِّهون «غزوة الصناديق»، ولم يكونوا نفرا بل ظاهرة، إن شاء الله عابرة، ظاهرة مغتربة عن حقيقة هذه الأمة المتعايشة المتسامحة الوسطية المعتدلة المتراحمة المحبة للحياة، عطية رب الحياة، ظاهرة بعضها من جفاف وجلافة الصحراء، وبعضها من قساوة جبال جرداء لم نألف جهامتها.

 

 

طلعت هذه الظاهرة على مصر والمصريين، تكفر وتنفر، وتعتبر نفسها صاحبة الدين والوكالة الحصرية عن الله فى الأرض، ومن ليس معها فهو ضدها، وبعد فرية الصناديق، وتسليم المصريين المُسالمين، بالطبع والطبيعة، بنتيجة هذه الصناديق رغم كل ما شابها من لعب غير نظيف وخداع باسم الدين، قلنا مرحبا لمن فاز ولو بفارق هامشى، ولو باختيارات جوهرها الخوف من البديل لا اختيار الأصيل، وانتظرنا خيرا من «بتوع ربنا»، فإذا بهم «بتوع قهرنا»، وفى ظلالهم السلطوية الدنيوية النهمة للتسلط، راحت تترعرع وجوه التكفير والتنفير، بل كانت هذه الوجوه جزءا من ملامحهم حين يكشرون، وحين يحشدون، وطبيعى فى مثل هذا الخداع أن تنكشف حقيقة الفخ الذى وقعت فيه مصر، ويستهدف أكثر ما يستهدف حقيقتها الأصيلة كوطن للتعايش والتسامح وحب الحياة والتدين الجميل، حقيقة روحها. وما كان فيضان الثلاثاء فى الميدان وحول القصر، إلا دفاعا عن أصالة وجدارة هذه الروح.

 

 

خطأ حكم الإخوان الأكبر الذى استنفر كل هذا الرفض لهم، ولن يكف عن الاستنفار طالما مضوا فى غى المتسلطين والمتكلسين من قادتهم، هو العبث بروح مصر وتجاهل أعماقها وهم مأخوذون ببريق وغطرسة السلطة وسعار الإقصاء والتسلط، لأنهم ينسون أنهم بذلك إنما يستفزون صبر الروح المصرية ويفجرون غضبة المصريين كما غضب البحيرة لاستعادة سريرها، وما كان فيضان الثلاثاء إلا استنفارا بعد سلسلة طويلة مريرة من عبث الإخوان بمكونات الدولة الأمة، الحارسة لروحها، مجلس شعب كان سيركا مبتذلا حله القضاء فأعاده الرئيس الإخوانى فى قرار عنترى اضطر للرجوع عنه، وجمعية تأسيسية لكتابة الدستور لا تعبر عن جماع الروح المصرية لا شكلا ولا جوهرا، وعد الرئيس بتصحيح عوارها قبل أن يتمريس وأخلف وعده بعد ذلك، ثم كان هناك تفكيك وتلفيق إخوانى فاضح فى الهجمة العنترية على الصحافة الحكومية، وتهديدات للصحف المستقلة، وإنذار ووعيد للإعلام الحر الذى رموه بالفساد ووصفوا موهوبيه بسحرة فرعون، ثم جاء الإعلان الرئاسى الفظ واللئيم ليخلط حقا بباطل وغايته التمكين الديكتاتورى للرئيس الإخوانى، وتحصين لمجلس الشورى الإخوانى السلفى الذى لم ينتخبه غير 7%، وتكريس لجمعية كتابة دستور مشوهة، وكل هذا لغايات سلطوية تسارع وتفاقم افتضاحها. وهنا بدأ الفيضان لقوى روح الأمة الجامعة فى الثلاثاء قبل الماضى، فاختلق الإخوان وغلاة السلفيين سبتا مزعوما يدعى نصرة الشرعية والشريعة وينطوى على تهديدات الفرم والعنف وتخرصات التكفير والتنفير، ثم أسفر عن رداءة الحصار للمحكمة الدستورية وما تبعه من حصار مماثل لمجلس الدولة ضمن مخطط تدمير قلعة القضاء المصرى واستبداله بقضاء متأخون، أى على مقاس الأقلية التى ظلت تزعم أنها الأغلبية حتى كشفها طوفان الثلاثاء أمس الأول.

 

 

طوفان ملأ البحيرة بتحضر متألق، لا تكفير فيه ولا تنفير، ولا حتى حرمان للإخوان والسلفيين من حقهم كمواطنين فى وطن يتسع للجميع، وإن كان هؤلاء لا يريدونه إلا لهم ولمن يذعنون لعجرفتهم وشراهتهم للسلطة والتسلط على سائر خلق الله فى مصر بزعم أنهم وحدهم رجال الله، والله غنى عن العالمين. طوفان يهتف برغم كل سلسلة الاعتداءات السفيهة على روحه «سلمية.. سلمية». لم يهتفوا «اعطينا الإشارة واحنا نجيبهملك فى شيكارة» ولا جعروا «أفرم.. أمفرم». وعادت جمالات إبداع ثورة يناير تتألق، صورا بهية فى خضم الطوفان المصرى الحضارى، كان أكثرها لفتا للأبصار والبصائر ذلك المشهد الرائع لضابط الشرطة الشاب الوسيم محمولا على أعناق المتظاهرين وهم يهتفون «ريد واحدة.. إيد واحدة»، ثم مدرعة الشرطة التى كانت تنساب كما زورق وديع متبوع بموجة من جنود آمنين وسط المتظاهرين السلميين الهاتفين أيضا «إيد واحدة.. إيد واحدة». وأنا أهتف الآن بإلحاح «إيد واحدة.. إيد واحدة» لا لمجرد الاحتفاء بوعى جديد مأمول لشرطة كل المصريين، وجيش كل المصريين، بل كنداء لشباب هذا الطوفان الذى يستعيد عافية بحيرة الوطن الجامعة: ليس دوركم الحضارى هو مجرد سلمية الانتفاض، بل الحفاظ بكل الطاقة والتنظيم الجاد على سلامة أفراد الشرطة والجيش إن حضروا.. جيش وشرطة بلا لحى، بلا تعصب، قوة نقية لا أظنها إلا منتمية لروح مصر، مصر التسامح والتعايش وعدم التمييز وحب الحق والخير والجمال.. تحيا مصر.. ومرحبا بكل من يدافع عن جميل روحها حتى من ندرة المستنيرين من السلفيين والإخوان إن أرادوا.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .