الدكتور محمد المخزنجى يكتب: الجلطة التى أنارت بصيرتها - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدكتور محمد المخزنجى يكتب: الجلطة التى أنارت بصيرتها

نشر فى : الخميس 29 أبريل 2021 - 9:15 م | آخر تحديث : الخميس 29 أبريل 2021 - 9:15 م
مقدمة:
ليس أدب «الخيال العلمى» وحده هو ما يستمد مصداقيته الإبداعية من استناده إلى حقائق ومنطق علميين، فحتى الأدب الواقعى إن لم يتكئ على تدقيق علمى، فإنه يقامر بنسف نفسه متى ما تكلمت الحقيقة العلمية.
............................................................................................................................................

إنها أقصوصة أدبية، وراءها قصة واقعية، وأمامهما كتاب علمى، فلنبدأ بالأقصوصة:
«الحلو دا.. الحلوة دى»
أصابتها جلطة المخ المفاجئة فانصعق كل أحبابها، هى التى ظلت غندورة حتى بعد الستين.. مشرقة، ومهندمة، وضحوكًا، وتذكر دوما بأنها كانت الوحيدة ــ من بين كل بنات العائلة ــ من تزوجت بعد قصة حب، بل أسطورة حب ريفية. وخرجت من الغيبوبة بأقل كثيرا مما توقعه الأطباء: خزل خفيف فى الجانب الأيمن، واختزال لكل لغتها فى كلمتين: « الحلو دا» و«الحلوة دى»!
الحلو دا، والحلوة دى ــ صارت تشير بهما إلى كل ما تطلبه أو تريد التعبير عنه. حتى بعد أن تعافت سريعا من خزلها وصارت تقف فى المطبخ.. تطهو ببراعة كعهدها، لكنها لا تمتلك عندما تريد شيئا إلا أن تشير إليه، بآخر ما تبقى لديها من اللغة تشير.. تريد ملعقة فتطلب: «الحلوة دى»، وتريد الثقاب فتقول: «الحلو دا». وتتألم من عدم فهم مرادها فتثور، وتشتم: «الحلو دا دا دا دا. الحلوة دى دى دى دى»، لكنها ما تلبث حتى تضحك متأثرة بضحك الآخرين من حولها.. تضحك حتى تدمع.
وتدمع عيونها وتفيض وهى تشير إلى موضع ذبحة فى صدرها لم يتوقعها أحد: «الحلوة دى ى ى ى ى »، وتشير إلى موضع القلب المذبوح ألما: «الحلو دااااااا». ثم غامت نظرتها بينما كانت يمناها ترتفع قليلا فى الهواء.. ترتفع واهنة لتشير إلى شىء ما، غامض، هائم، وتسميه أيضا: «الـ حلو دا. الـ حلوة دى» ــ وإن كانت تنطقها باستسلام وحزن.. حزن شفيف، حتى سكتت.
سكتت، وسكنت، فلم ينفجر فى البكاء ــ على شدة الحب لها ــ أيٌّ من أحبابها الكثر الذين تحلَّقوا حول سريرها الجميل العالى: زوجها ــ العاشق القديم، وأولادها، وبناتها، وأحفادها، والأقارب، والجيران، فقد فوجئوا فور سكوتها وسكونها ــ ويقسمون على ذلك ــ بنفحة من عطر حلو، أحلى ما يكون، تغمر المكان وتحلق فيه.. كأنها طائر خُرافى بهى، لايبين، ويوشك فى الصمت.. أن يتجسد.
*****************
هذه الأقصوصة كتبتها من وحى حالة حقيقية لمريضة من أقاربى استُدعيت لإدراكها فى حالة حرجة وأنا نائب للأمراض النفسية فى مايو عام 1981، ولم يكن ممكنا أن أتخلى عن الاحتشاد والاجتهاد بشأنها، فلم يكن متاحا هناك غيرى وقد كان الوقت متأخرا فى الليل، صحيح أن جوهر تخصصى وعملى كان ينصب على طب الأمراض النفسية Psychiatry، أما تخصص طب المخ والأعصاب Neurology فكان ــ آنذاك ــ مجرد إطلالة جانبية من الطب النفسى لاستبعاد ما يُشتبه فى انتمائه إلى طب الأعصاب، وتحويله إلى متخصصيه، إلا أن الضرورة حتمت أن أشخص الحالة وأقدم لها علاجا إسعافيا يمنع تدهورها، حتى تُعرَض على طبيب أعصاب مختص فى الصباح التالى، وقد كان.
اختزال لغوى ساحر.. ومربك.
لم يكن هناك فى تلك الليلة، فى ذلك المكان، أية إتاحة لأية تقنيات طبية مما هو متوافر الآن لتدقيق التشخيص، وكان نقل المريضة إلى المستشفى المناوب لاستقبال الطوارئ ليلتها، لا يعِد بأكثر مما يمكن أن أقدمه لها. اعتمدتُ على التاريخ المرضى للحالة وشكل بدء الأعراض وتطورها والفحص الإكلينيكى للرؤية والحركة والاستجابات الحسية، ودققت فى استبعاد أن تكون الحالة سكتة دماغية نزفية (hemorrhagic stroke) ناتجة عن تمزق وعاء دموى مغذٍ للمخ، وهو ما تعلمناه كأبجدية شديدة الأهمية ضمن منهج طب الأعصاب فى مرحلة البكالوريوس، واستقر تشخيصى على أنها سكتة (أو جلطة) دماغية إقفارية (ischemic stroke) نتيجة تضيُق أو انسداد فى أحد شرايين النصف الأيسر من المخ، مما تسبب فى نقص تروية منطقةٍ ما فى هذا النصف بالدم الحامل للأوكسجين والمغذيات المختلفة، كان واضحا أنها منطقة ترتبط بتوليد اللغة، فقد كانت المريضة حين فحصتها فاقدة للنطق، إضافة إلى شلل النصف الأيمن من جسمها.
سارعتُ بتدبير الحالة بالأدوية المناسبة كحالة إسعافية تمنع أو تقلل تدمير الخلايا العصبية فى المنطقة المصابة لحين عرضها على مختص بطب المخ والأعصاب فى اليوم التالى، وقد كان سويا محترما، وغير خاضع لذلك التنافس «التجارى» والخيلائى بين تخصصين طبيين شديدى التجاور، أيَد تشخيصى وأثنى على ما قدمته للمريضة، ووضع لها خطة علاجية وتأهيلية طويلة المدى كالمعتاد فى مثل حالتها، ومكثت أتابعها كقريبة وكانتصار صغير أحرزْتُه، ولم يمر شهر إلا وقد حققتْ تقدما كبيرا فى وقت قياسى، وإن بقى معها خزل النصف الأيمن من الجسم مع إعاقة حركية خفيفة، وإعاقة لغوية بدت شديدة الغرابة ومحيرة لمختصى المخ والأعصاب حينها، صحيح أن مركز الكلام يتموضع فى نصف المخ الأيسر الذى ضربته الجلطة، لكن ذلك الاختزال العجيب للغتها فى مجرد اسم إشارة، تُذكِره وتؤنثه «دا» و«دى»، وتُلحقه بصفة «حلو» و«حلوة»، كان ــ طبيا ــ أعجوبة عضوية شديدة الغرابة ومجهولة المنشأ، أما فنيا، فكان ومضة ساطعة لإثارة الدهشة، تُغرى انتباهة الأدب!!
ظلت تدهشنى مفارقة هذا الاختزال اللغوى الساحر لدى قريبتى حتى توفاها الله بمضاعفات مرض السكر فى يناير 1985، ودفع رحيلها اللطيف، كما هو لُطف الاختزال فى لغتها، بدهشتى الأولى للطفو على سطح الانفعال الجمالى، فكتبت عنها تلك الأقصوصة دفعة واحدة، ودون أن «أؤلف» فيها ولو سطرا واحدا لا يتحرَى الحقيقة، وهذا أمر يتكرر معى كثيرا، مما يجعلنى أردد دائما أن الأدب الواقعى مستمر وسيستمر، فهو زاخر بسحر يفوق أى سحر خيالى، ودورنا ككُتَاب هو الانتباه لالتقاطه متى ما وَمَض أو أمطر أو فاض أو تجلَى، لكن هاجسا محددا جعلنى أتردد فى نشر هذه الأقصوصة، منذ كتبتها.. قبل خمسة وثلاثين عاما!!
نافذة تنفتح لإضاءة اللغز.
كنت خائفا أن يكون قد استولى علىَّ الخلط بين الواقع والخيال الذى ينتاب كل أديب، وأن يكشف العلم عن حقائق تطيح بواقعية حدوث هذا الاختزال الانتقائى للغة قريبتى الراحلة، لكننى منذ عامين قرأت كتاب «الجلطة التى أنارت بصيرتى» My Stroke of Insight للكاتبة الدكتورة «جيل بولتى تيلور»، وتسجل فيه تجربة إصابتها بجلطة نزفية فى المخ، وفى النصف الأيسر تحديدا، وتعافت منها، ولكن بعد ثمانى سنوات من المعاناة والكفاح الأسطوريين، فحسم الكتاب حيرتى أمام ذلك الانتقاء الجمالى للاختزال اللغوى الذى خلَفته جلطة المخ عند قريبتى، لقد كشف سحر العلم عن أصول سحر الواقع!
الكتاب ترجمته الشاعرة أستاذة الأدب العربى بجامعة الكويت الدكتورة نجمة إدريس، فقدمت بترجمتها إبداعا جماليا موازيا لإبداع السرد العلمى لمؤلِفة هذا الكتاب، الذى سأكتفى منه الآن بما أناره من لغز اختزال وانتقاء لغة بطلة أقصوصتى، فهذا الكتاب قد يكون فى حاجة إلى قراءة ثانية وربما ثالثة فيما بعد، فهو ينطوى على علم كثير مثير، ودافع للإنعاش والجدل العلميين، لأستاذة متخصصة فى المخ بجامعة هارفارد المرموقة، تصف فيه ما لم يكن ممكنا وصفه إلا بتجربة على هذا القدر الهائل من المعاناة، وهذا القدر الهائل من الوعى العلمى بما وراء معاناتها، ثم الإرادة المذهلة فى الاجتهاد والجهد من أجل التعافى، فهذا الانبثاق لكل ذلك النور الذى أضاء بصيرتها بجمال الوجود وروعة العقل البشرى، ويكاد يشكل نوعا من «صوفية» المادة الحية، يظل فى حاجة إلى وقفة أخرى، ليست مجرد عرض لما ورد فى الكتاب، بل حوار جدلى معه واستلهام منه، هكذا أتصور عرض هذه الكتب!
لقد برز التفات الدكتورة جيل بولتى تايلور إلى ألغاز العقل البشرى مبكرا، عندما بدأت أعراض الإصابة بمرض الفصام (الشيزوفرينيا) تظهر على شقيقها الذى يكبرها بعام ونصف، وقد تأكد فصامه وأُدخل إحدى المصحات العقلية وهو فى الحادية والثلاثين، وقد لاحظت جيل أنه خلال سنوات الطفولة كان هذا الشقيق الذى تصفه بأنه «أقرب مخلوق لى فى الكون» يبدو مختلفا فى إدراكه لحقيقة الأشياء، وفى اختياراته وتصرفاته، لهذا ظلت مأخوذة بما وراء اختلافه عقليَا، وعندما بدأت دراستها الجامعية فى أواخر عام 1979 وجدت نفسها مدفوعة بجوع معرفى لفهم ماذا تعنى كلمة (طبيعى)، من منظور تشريحى وفسيولوجى للمخ، وقد كان هذا المنظور حينها جديدا وناشئا، فانصرفت إلى دراسة علم النفس الفسيولوجى وألمت بأكبر قدر متاح حينها من العلم المعنى بهذا الشأن، وفى أعقاب تخرُجها عملت بمختبر بحوث الأعصاب الدقيقة واستمدت منه رسالتها للماجستير، وبعد ذلك حصلت عام 1999 على الدكتوراة فى علم التشريح العصبى، وخلال مشوارها العلمى كله، ظلت مشغولة بمحاولة فهم لماذا استطاعت هى أن تربط أحلامها بالواقع وتُحوِل هذه الأحلام إلى حقائق ملموسة، بينما لم يستطع شقيقها ذلك، وكان سؤالها الذى تمضى وراءه هو «ما هو الاختلاف فى مخ أخى، الذى يجعله يربط أحلامه وأمنياته بالأوهام والخيالات بدلا من الواقع الملموس؟»، وظل هذا السؤال يدفع شغفها بالبحث فى مرض الفصام من منظور عضوى يرتبط بتشريح وفسيولوجيا وباثولوجيا المخ، فواصلت ذلك فى منحة ما بعد الدكتوراة التى ألحقتها مُحاضِرة وباحثة بقسم علم الأعصاب فى كلية الطب بجامعة هارفرد.
عالِمة مخ فى قلب الحدث
من هذا كله، ندرك أنها كانت عالمة متخصصة، تعرف عن المخ والجهاز العصبى الكثير من الأعمق والأحدث، وعند مفصل شديد الحساسية، جديد الاقتحام، لأنه يربط أحوال النفس بما يحدث فى تكوين المخ من تغيرات، وراثية أو مكتسبة؛ فهى فى الواقع كانت أستاذة مخ وأعصاب على وجه العموم، ومتخصصة فى الأمراض النفسية المرتبطة بتغيرات الجهاز العصبى على وجه الخصوص، ومن هنا يبدو ما خاضته بتأثير جلطة المخ التى أصابتها، بدءا بما كانت ترصده منذ أول دقيقة لإصابتها وحتى تدهورها، ثم وهى تتشافى، تجربة استثنائية طويلة وعميقة لعالِمة مخ فى قلب الحدث...
صحيح أن فرضية وجود فصين للمخ قديمة قِدَم الآباء المؤسسين للطب منذ قرون، إلا أن آلية تعامُل كل فص مع المعلومات واكتساب المعرفة فى الحالات الطبيعية، واختلال ذلك فى الحالات المرضية، لم تحظَ بالاهتمام البحثى الحديث إلا فى سبعينيات القرن العشرين، ونال جراح المخ وعالم الأعصاب «روجر سبرى» عنها جائزة نوبل لعمله فى التشريح الوظيفى لألياف الجزء الثفنى callosum corpus الذى يمثل جسر اتصال بين نصفى كرة المخ، ينطوى على ألياف لمسارات عصبية تربط كل أجزاء النصفين بعضها ببعض، وكانت تلك من ومضات البداية التى قدمت فرضية «مخ شمال ومخ يمين»، التى أثبتت الخبرات الجراحية أن نصفى المخ مختلِفى القدرات ويدعم كلٌ منهما أداء الآخر حين يكونان متصلَين بشكل طبيعى، لكن حين يتم فصلهما جراحيا (أو بنزيف أو جلطة أو ورم يعزل أحدهما عن الآخر) فإن كل فص يعمل بمفرده كعقل مستقل بشخصية فريدة، وهى حالة وُصِفت للتقريب ــ الذى ثبت أنه مُخل ــ بظاهرة «الدكتور جيكل والسيد هايد»، اقتباسا من رواية الكاتب الإسكتلندى روبرت لويس ستيفنسون المنشورة عام 1886، وتتحدث عن طبيب سوى يتحول إلى شرير بجرعة من عقار ابتكره، الأمر ليس بهذا التبسيط، وليس بهذه الدرامية، لكنه أعمق وأرهف.

مراكز لغة لا تكف عن الثرثرة
من ركام ملحوظات التجربة والبحث على نصفى كرة المخ، توافرت لوائح تسرد ما يختص به كل نصف، فإضافة إلى ما كان معروفا من هيمنة كل نصف على إنتاج الحركة فى النصف المقابل من الجسم، وهو ما يظهر من شلل أو خزل على النصف الأيمن (كمثال) عند إصابة نصف المخ الأيسر بجلطة أو نزيف أو ورم، فهناك ظاهرة عدم تماثُل فى الوظائف التخصصية الأدق لكل فص، ويعنينى منها هنا ما يختص باللغة وينصب على إماطة اللثام عن أعجوبة لغة بطلة أقصوصتى، وقد أثبت كتاب الدكتورة تايلور أنها أعجوبة واقعية، تنتصر لأعاجيب الحياة فينا ــ كبشر ــ وتدعونا إلى التواضع، والاعتزاز، فالثابت من أبحاث المخ الحديثة التى وردت فى هذا الكتاب، أن مراكز اللغة فى الفص الأيسر من دماغنا تظل تتحدث معنا بشكل دائم، وهى ظاهرة سمتها جيل تيلور «ثرثرة العقل» التى تذكرنا بشراء هذا أو عمل ذاك من مسميات الأطعمة والثياب، وترتبط بظاهرة الحوارات التى نُجريها مع أنفسنا داخل أنفسنا، وتكرر مِرارا وتكرارا تفاصيل حياتنا فنظل نتذكرها، وعبرها تتحدد ذواتنا، وتزودنا بمَن نكون، ومن دونها سوف ننسى مَن نحن ونفقد معالم حياتنا وهويتنا.
على هذا النحو يوصف النصف الأيسر من مخنا بأنه مسئول عن مراكز التفكير باللغة والذاكرة، إضافة إلى معالجة المعلومات الحسية، والقدرات التنبُئية، وتحديد ما نحب وما لا نحب، ويكون دور الفص الأيمن فى الحالة الطبيعية من اتصال الفصين، أن يكمل إنجاز المراكز اللغوية للفص الأيسر عن طريق التواصل غير المنطوق، فهو يفسر تلميحات اللغة الخفية التى توحى بها نبرة الصوت وتعبيرات الوجه ولغة الجسد، ومن ثم تفرز ما هو حقيقى وما هو كاذب من الكلام بمضاهاة ما يقوله الكلام مع ما تنطق به الإيماءات والملامح.

فص الابتسامات السخية والود
تقول تايلور: «لا تفكر الشخصيتان فى فصَى دماغى فى الأشياء بشكلين مختلفين فقط، ولكنهما أيضا تنتجان العواطف وتتعهدان الجسد بطرق تعينه على تمييز الأشياء بسلاسة، ما يفكر فيه فصى الأيمن يتعلق باللحظة الآنية وبكل ما يحدث الآن، إنه يتقافز بحماس مطلق العنان، دون حذر من شىءٍ فى العالم من حوله، يطلق الابتسامات السخية، ويبدو ودودا، وعلى النقيض من ذلك، فإن فصى الأيسر يشتغل بالتفاصيل، ويسيِر حياتى فى إطار نظام وجدول صارمَين، إنه جانبى الأكثر حزما، الذى يجعل وجهى جديا، ويصدر قرارات تستند إلى ما تعلمته سابقا، هو مَن يحدد الحدود، ويصدر أحكامه على الأشياء وكونها صحيحة أو خطأ، جيدة أو سيئة.. هو مَن يترك الغضون على جبيني!».
وتضيف: «أما عقلى الأيمن فهو معنيٌ بكل ما يتعلق بثراء اللحظة، وهو ممتلئ بالامتنان للحياة وكل مَن فيها وما فيها، إنه مغمور بالرضى، زاخر بالعواطف، يعطى بسخاء، ويفيض بتفاؤل بلا حد، وأعظم النعم التى غمرتنى كنتيجة جلطة النزف الدماغى فى نصف المخ الأيسر، هى إتاحة الفرصة أمامى لتجديد وتقوية دوائرى العصبية المتعلقة بحس البراءة والنقاء والغبطة الداخلية، إننى ممتنة لهذه الجلطة، لأننى أصبحت حرة أنطلق نحو اكتشاف العالم مرة أخرى بفضول يشبه فضول الأطفال، إنه الوعى الكامن فى فصى الأيمن، فما نحن إلا كينونة عالمية مُدمَجة الخيوط ومَحيكة بتناغم، والحياة طيبة، ونحن رائعون بهيآتنا التى نحن عليها».
هذا كلام عالِمة مخ عايشت تجربة إصابة جسيمة فى المخ، لهذا لا يمكن اعتبار ما تقوله مجرد تعبير شعرى أو حس رومانسى ( برغم أنها عازفة جيتار وكاتبة أغانى ونحاته تكرس هذا كله لدعم أبحاث مخ مرضى الفصام)، فما تدلى به قائم على قاعدة علمية عضوية تنبت منها وتزهر كل تلك الأحاسيس، لهذا، أستطيع الآن أن أكون مطمئنا بشكل كبير، إلى تفسير ذلك الاختزال ــ الانتقاء اللغوى لبطلة أقصوصتى، فالحقيقة العلمية من خلال تجربة وعلم تايلور اللذَين  نثرتهما بروعة فى كتابها، تقول إن تعطيل الكثير من وظائف نصف المخ الأيسر أفسح للنصف الأيمن وجودا أرحب، ليعبر عن الوجود الجميل فى روعة الحياة المسالمة والبصيرة العطوف، فبطلة أقصوصتى عطلت جلطتها الكثير من هيمنة النصف الأيسر، فص توليد اللغة، وتجزئة الزمن، وإصدار الأحكام،  حتى لم يتبقَ منها غير إسمَى إشارة للمذكر والمؤنث هما «دا» و«دى» (وأصلهما الفصيح: ذا وذى)، تقدمهما بصفتى «الحلو» و«الحلوة» المقطوفتين من بستان لطائف النصف الأيمن من المخ، فكأن كل الوجود فيها ومن حولها صار حلوا، حتى الملاعق والطناجر والأطباق والكراسى، والناس! حالة مدهشة العذوبة والجمال داخل النفس الإنسانية يبرهن العلم أنها حقيقية، ومستندة إلى واقع عضوى، أظهرته الدكتورة جيل تايلور بتجربتها المروعة التى أذاقتها فى الوقت نفسه طعم روعة الوجود فينا.
درس أنطون تشيخوف
لقد قال سيد القصة الإنسانية الحديثة، وكاتبى العالمى المفضل دائما، الطبيب أنطون تشيخوف، إنه عندما لا يتوافق ما يكتبه مع الحقيقة العلمية فإنه يفضل ألا يكتب على الإطلاق، وأظننى وعيت الدرس، لهذا نحيت تلك القصة الموجزة خمسة وثلاثين عاما، حتى صدر الحكم من تجربة عالِمة مخ بأعرق جامعات العالم بصحة الحقيقة العلمية التى تفسر ما وراء محورها الأدبى، وهاهى أخيرا تُنشر، هنا، فى سياق علمى!
محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .