الرمز الدينى وحديث العتبة - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 11:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرمز الدينى وحديث العتبة

نشر فى : الخميس 7 يوليه 2022 - 7:15 م | آخر تحديث : الخميس 7 يوليه 2022 - 7:15 م
يلعب الرمز دورا مهما فى التواصل بين الأفراد وبين المجتمعات فى تاريخ البشرية، وفى علاقة الإنسان بربه كما فى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فالرمز إذن نوع من أنواع التواصل الإلهى والإنسانى، والرمز له أشكال متنوعة يمكن أن يظهر بالصوت أو بالصورة أو بعلامة أو بكلمة أو بقصة أو بأسطورة أو بلون أو برؤيا كما جاء فى القرآن الكريم، أو بدرس عملى من الطبيعة كدرس الغراب عن كيفية دفن الموتى... إلخ، ولكن ما نقصده من الرمز فى مقالنا هو «الإيحاء»، أى التعبير غير المباشر عن النواحى النفسية المستترة التى لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة.
من ناحية أخرى، الرمز فى اللغة هو ركيزة الصور البديعية كـ«الاستعارة» و«الكناية»، وهو أن أستعير كلمة أو رمزا أو صفة ليدل على معنى جديد غير ما يدل عليه المدلول الأصلى للكلمة أو للرمز، أو أن أشير بالكلمة أو بالرمز إلى مدلول جديد لا أريد التعبير عنه صراحة فأكنيه بشىء آخر للتعظيم ــ على سبيل المثال ــ بالصفة المراد الإشارة إليها، كوصف النبى محمد (ﷺ) بكِنية «ابن الذبيحين» لأنه حفيد «الذبيح الأول» النبى إسماعيل الذى أمر الله أباه النبى إبراهيم «أبو الأنبياء» ــ عليهما السلام ــ بذبحه، وابن الذبيح الثانى عبدالله الذى نذره للذبح أبوه عبدالمطلب ــ جد النبى (ﷺ) ــ إذا أتم عشرة من الأبناء الذكور، إلا أن الله أوحى له بنسخ ذبح إسماعيل فافتداه بمائة من الإبل، وذلك للتدليل على أن النبى محمد (ﷺ) من سلالة أعظم الطائعين لله فى التاريخ البشرى، وذلك بنذر «الأبناء» لله ــ أغلى ما يمتلك الإنسان فى حياته!
أسباب استخدام الرمز كثيرة منها الحياء والارتقاء فى مستوى الحديث مثلما جاء فى القرآن الكريم: «فَليَنظُرِ ٱلإِنسَٰنُ مِمَ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَآء دَافِق، يَخرُجُ مِن بَينِ ٱلصُلبِ وَٱلتَرَآئِبِ» (الطارق 5 إلى 7)، فكان «الصلب» و«الترائب» كناية عن الجماع الذى ينتج الماء الدافق، ومنه يُخلق الإنسان؛ وفى صورة بلاغية أخرى، «الصلب» جزء من الرجل، و«الترائب» من المرأة هما مجاز مرسل علاقتهما ذكر جزء من جسد الرجل والمرأة.
وتُعد الرؤيا من الرموز الإلهية التى يرسلها الله سبحانه ليتواصل بها مع الإنسان، فيكلفه من خلالها بأعمال وبعبادات، أو يكشف له عن أحداث مستقبلية فيَتنبه لها الإنسان، ويدبر حياته على منوالها؛ فى هذه الأيام المباركة، نستحضر رمزية رؤيا سيدنا إبراهيم التى وردت فى القرآن الكريم عندما رأى فى المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، فيستسلم اسماعيل لطلب أبيه لتحقيق رؤيته بأن يذبحه طاعة لله، ويمتثل الابن البار، ولكن الله يفتديه بذبح عظيم، ومن هذه الواقعة يتعلم الإنسان طاعة الله، وطاعة الوالدين، وكذلك معنى الأضحية التى يفتدى بها الإنسان نفسه أو من يعول.
وكذلك فى رؤيا يوسف عليه السلام عندما رأى فى المنام أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قد سجدوا له، كانت رسالة إلهية للنبى يوسف تنبأ من خلالها أبوه النبى يعقوب ــ عليه السلام ــ بمصير وبمستقبل ابنه يوسف الذى أصبح ذا شأن عظيم، وكذلك فى رؤيا ملك مصر، فى هذا الزمان، عندما رأى فى منامه سبع بقرات جميلات وسمان، يأكلهن سبع بقرات أخريات قبيحات وهزيلات؛ كما رأى سبع سنبلات خضر وحسناوات تأكلها سبع سنبلات يابسات، كانت هذه الرؤيا درسا للإنسان فى الاقتصاد، وكيفية إدارة موارد الدول، وتُبيِن أيضا أن الأيام دول بين الرخاء والشدة، وبين اليسر والعسر، كانت تلك رموزا إلهية تعلم منها الإنسان ليأخذ منها ما ينفعه فى الحياة الدنيا.
• • •
من الأسباب الأخرى لاستخدام الرمز ــ كما سبق الإشارة ــ محاولة عدم القول بالصريح، فيَفهَم الرمز فقط مَن يستطيع تفسيره، وعن هذا النوع من الرموز الذى يدور بين الإنسان وأخيه الإنسان نتذكر «حديث العتبة» فى قصة سيدنا إبراهيم، عندما قام بزيارة ابنه إسماعيل ــ عليهما السلام ــ فلم يجده فى بيته، ووجد زوجته فسألها عن أحوالهما، فشكت إليه من ضيق العيش وشدته.. فما كان من سيدنا إبراهيم إلا أن قال لها: «عندما يأتى زوجك اقرئى عليه السلام وقولى له: غيِّر عتبة بابك»، ويعود سيدنا إسماعيل إلى بيته فتخبره زوجته بما كان بوصية الشيخ العجوز، فيفهم الرمز، ويُطلِق زوجته ويُعيدها إلى أهلها تنفيذا لوصية والده.
ويتزوج بعدها إسماعيل من أخرى، ويتكرر ما حدث فى المرة الأولى، يأتى سيدنا إبراهيم لزيارة ابنه وأحفاده فلا يجده، ويجد زوجته فيسألها عن أحوالها، وهى لم تلتق به من قبل تماما كحال زوجته الأولى، فتكون إجابتها أنهم فى خير وسعة، ويسألها عن طعامهم وشرابهم فتجيبه: نأكل لحما ونشرب ماء، فيقول لها سيدنا إبراهيم عندما يعود زوجك قولى له أن «يثبت عتبته»، ويفهم سيدنا إسماعيل مضمون الرسالة، فيحتفظ بزوجته الأخيرة.
ويعلمنا الله من حديث «العتبات» أن نرضى بما قسَمَه الله لنا، بشرط أن يبذل الإنسان قُصارى جهده فى السعى والعمل الجاد، وأن يتحرى الكسب الحلال، ولا يُنكر نعمة الله عليه، ولا يطمع فيما أعطى لغيره، فإن القناعة كنز لا يفنى، ويؤمن بقوله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَ عَذَابِى لَشَدِيدٌ» (إبراهيم: 7).
وهذا الدرس يجرنا إلى أحداث غريبة فى واقعنا الحالى تتعلق بأشخاص قد أعطاهم الله المال الوفير، والجاه الكبير، ولكنهم لم يوظفوا أموالهم فيما أمر الله، باعتبار المال مال الله، والإنسان خليفة الله فى أرضه، فيقيمون حفلات الزواج الماجنة التى تصرف فيها الأموال الطائلة غير عابئين بما يمر به إخوانهم فى الوطن من أزمات مالية، ويحضرون الوجبات من أرقى المحلات العالمية بالطائرات!
ولأن «المال» فى توصيفه الشرعى أنه مال الله، والإنسان خليفة الله فى أرضه، أى أن الإنسان مكلف بأن يُنفق ماله فيما ينفع نفسه فى الدنيا والآخرة، وما ينفع الناس، وما ينفع مجتمعه، وما دون ذلك فهو الإسراف والتبذير؛ هكذا علمنا الله فى كتابه العزيز: «وَءَاتِ ذَا ٱلقُربَىٰ حَقَهُۥ وَٱلمِسكِينَ وَٱبنَ ٱلسَبِيلِ وَلَا تُبَذِر تَبذِيرا، إِنَ ٱلمُبَذِرِينَ كَانُوٓاْ إِخوَٰنَ ٱلشَيَٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَيطَٰنُ لِرَبِهِۦ كَفُورا، وَإِمَا تُعرِضَنَ عَنهُمُ ٱبتِغَآءَ رَحمَة مِن رَبِكَ تَرجُوهَا فَقُل لَهُم قَولا مَيسُورا، وَلَا تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَة إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبسُطهَا كُلَ ٱلبَسطِ فَتَقعُدَ مَلُوما مَحسُورا» (الإسراء من 26 إلى 29).
والإنسان الذى لا يتبع هذه المقاصد وجب على ولى الأمر «الحَجر» عليه؛ لأنه يخون أمانة الله التى أؤتمن عليها، فهذا يعتبر اعتداء على أموال الآخرين من الفقراء والمساكين والمحتاجين، وعلى أموال المجتمع بل وعلى المال العام الذى يُنفق منه من العملات الصعبة لإحضار مستلزمات هذه الحفلات من الخارج؛ هكذا علمنا النَبِيِ (ﷺ) فى قوله: «لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِهِ، حَتَى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ».
•••
فى هذه الأيام المباركات من حج للبيت الحرام وللأضحية، نتذكر سِيَر الأنبياء: إبراهيم وابنيه إسماعيل ويعقوب، ومن أحفاده يوسف عليهم السلام جميعا، لنستخلص من سِيَرِهم العبر والدروس التى يرسلها لنا الله بالقول الصريح فى ضرورة طاعة الأبناء لوالديهم: «وَقَضَىٰ رَبُكَ أَلَا تَعبدُوٓاْ إِلَآ إِيَاهُ وَبِٱلوَٰلِدَينِ إِحسَٰنا إِمَا يَبلُغَنَ عِندَكَ ٱلكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَهُمَآ أُف وَلَا تَنهَرهُمَا وَقُل لَهُمَا قَولا كَرِيما، وَٱخفِض لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُلِ مِنَ ٱلرَحمَةِ وَقُل رَبِ ٱرحَمهُمَا كَمَا رَبَيَانِى صَغِيرا» (الإسراء 23ــ24)، وكما سبق القول، نستحضر أوامر الله بأن للفقراء والمساكين والمحتاجين حقا معلوما فى أموالنا، وأن مراعاة ظروف المجتمع بعدم التبذير واستنكار التفاخر بالمال وبالمظاهر الكاذبة كلها من مقتضيات الإيمان الصادق، ومن التضامن الإنسانى الضرورى مع الآخرين من أبناء الوطن لمشاركتهم برفع الضيق المالى عنهم، ومحاولة مساعدتهم والتفريج عنهم بالصدقات والأضاحى، فما أجَل من مساعدة الغير، فهى أعظم ما يُشعر الإنسان بالسعادة.
ومن المؤكد أن السعادة ليست بالأكل والشرب الفاخرين، ولا بالملابس «البراند»، ولكن السعادة فى العطاء، فهى سر الدنيا ولغز الدهور، هكذا قال الشاعر أحمد زكى أبوشادى: «يَبْنُونَ لا قَصْدَ زَهْوٍ.. ولا لأَجـْلِ الإشَادَةْ.. لكـنْ وُلُوعا بخـيرٍ.. فالخيرُ أصْلُ السَعَادة».
وكما قال الحطيئة:
وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ.. وَلَكِنَ التَقيَ هُوَ السَعيدُ
وَتَقوى اللَهِ خَيرُ الزادِ ذُخرا.. وَعِندَ اللَهِ لِلأَتقى مَزيدُ...

أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) ــ جامعة الأزهر


أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات