قراءة فى مظاهرة 29 يوليو - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 3:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة فى مظاهرة 29 يوليو

نشر فى : الأحد 7 أغسطس 2011 - 10:27 ص | آخر تحديث : الأحد 7 أغسطس 2011 - 10:27 ص

 لم تكن مليونية 29 يوليو كغيرها من المليونيات، إذ كانت سابقاتها تقوم على التوافق والوحدة فى حين قامت هذه على ضدهما، وهو مؤشر خطير على مسار الثورة وعلى القوى المختلفة جميعا، ويستوجب فى ظنى قراءة وتقييما للموقف تساعدان على الخروج منه بأقل الخسائر.

ما بين مليونتى 8 و29 يوليو كان اعتصام أهالى الشهداء والمتضامين معهم، والذى جاء امتدادا لاعتصام سابق تعامل الأمن معه بقسوة مساء 28 يونيو، قبل أن ينضم مئات الثوار لدعم الأهالى وإجبار قوات الأمن التى اعتدت عليهم على الانسحاب.

كانت المطالب الرئيسة للاعتصام شديدة الارتباط بهذا المشهد، إذ تمحورت حول تفكيك منظومة الاستبداد (التى أدت لقتل الشهداء وضرب وسب ذويهم والمتضامنين معهم)، ووقف المحاكمات العسكرية للمدنيين (وبعضهم تم اعتقاله فى هذا المشهد بسبب تضامنه مع أهالى الشهداء)، والإسراع بالقصاص العادل من قتلة الثوار، وقد تميزت هذه المطالبات بمزيتين: أولاهما سهولة صياغة إجماع وطنى حولها، وثانيتها مركزيتها فى استكمال الثورة وإحداث التغيير المنشود، وكانت الأسابيع السابقة للاعتصام قد شهدت تباطؤا ملحوظا فى هذه المسارات جميعا، وكلها كان قد وصل لنقطة حرجة تفصل بين الإصلاحات الممكن وصفها بالشكلية، وتلك المركزية التى لا يمكن العودة عنها.

كانت للاعتصام مطالب أخرى أقل مركزية وإلحاحا، بعضها كان توافقيا وتتعلق بالعدالة الاجتماعية وبجدول زمنى محدد المعالم للمرحلة الانتقالية مصحوب بصلاحيات حقيقية للحكومة تمكنها من العمل، وبعضها كان أقل توافقية وظهورا فى الميدان ولكنه أعلى صوتا خارجه كأولوية الدستور والمبادئ فوق الدستورية وإقالة المجلس العسكرى.

انصب التركيز الإعلامى على الممارسات الخاطئة لبعض المعتصمين (وهى ممارسات أدانها المعتصمون واتخدت المجموعات الحقوقية من التدابير ما يضمن عدم تكرارها)، وعلى المطالب الخلافية التى تم ترديدها عن طريق شخصيات يستفز وجودها الأطراف غير المشاركة فى الاعتصام، وأدى ذلك (مع أسباب أخرى) لعدم مشاركة القوى الإسلامية فى الاعتصام، وكانت المخالفات الحقوقية تبريرا إضافيا لذلك.

كانت عزيمة المعتصمين ــ وفى القلب منهم أسر الشهداء والمعتقلين وسجناء المحاكم العسكرية ــ صلبة فى مواجهة الضغط الإعلامى والحر والوقت؛ استمر ضغطهم على الحكام فقدموا تنازلات جزئية كالإصلاحات الواسعة (لا التغيير) فى الداخلية، والتغيير الوزارى، والمحاكم العلنية، وهى كلها جيدة لكنها ليست قلب المطالب، فظل المعتصمون فى الميدان واستمر الضغط على الحكام.

أعلن المجلس العسكرى عن تعديلات على البيان الدستورى، تضع آلية اختيار الجمعية التأسيسية للدستور، لم يكن هذا المطلب مركزيا فى الاعتصام، بل لم يكن على أجندة أغلب المجموعات المعتصمة، وتم تسويقه لا باعتباره حديثا حول آلية الاختيار، وإنما حديث حول المبادئ فوق الدستورية.

شعر الإسلاميون بتهديد الهوية، فالمبادئ فوق الدستورية ــ فى نظرهم ــ هى سعى لتجريم مشروعهم، فحشدوا الحشود وأعلنوا مشاركتهم فى مليونية 29 يوليو، أعلنت المجموعات المعتصمة مطالبها التوافقية، حاول الإخوان التقارب معهم، ولكن القوى الإسلامية الأقل نضجا انشغلت بهاجس الهوية (غير المهددة أصلا) وبرفض المبادئ فوق الدستورية (المرفوضة من كثير من المعتصمين) فى مواجهة المعتصمين، كانت معركة خاطئة، فلا المعتصمون عبروا عن رفضهم أو نقدهم للهوية العربية الإسلامية، ولا خرجت منهم هتافات رافضة للشرع الشريف، ولا ضغطوا على المجلس العسكرى لمبادئ فوق دستورية، ولا أعلن المجلس عن نيته القبول بفكرة هذه المبادئ!

العقلاء من الطرفين اتفقوا على المطالب التوافقية، الأقل حكمة وافقوا على مضض أو ثمنوا التوافق مع تحفظات جزئية، ثم فاجأوا الجميع بخوض معركة الهوية، قرر بعض المعتصمين تعليق المشاركة فى المليونية تجنبا للصدام، تجاذب الطرفان الإخوان فاتخذوا موقفا وسطا، بقوا فى الميدان، ولكنهم لم ينضموا إلى هتافات السلفيين وطلباتهم.

خرجت من المشهد عدة رسائل مقلقة؛ أخطرها أن الصف الوطنى يسهل شقه، إذ يسهل تجنب تنفيذ الاستحقاقات الثورية محل الإجماع الوطنى بالتلويح بتهديد وهمى على الهوية، فبعض فصائل التيار الإسلامى قدمت هذه الأولوية الوهمية على تفكيك منظومة قمع واستبداد كانوا أول من تضرر منها، وكانت النتيجة المباشرة لهذا الشق هى فض الاعتصام بالقوة فى نهار اليوم الأول من شهر رمضان المبارك، فض الاعتصام بالكامل لا الاكتفاء بفتح الطرق المرورية مثلا.

ونتيجة هذا الشق هو لجوء كل طرف أعزل للعسكر احتماء بهم من أخيه، فيكون المدنى فى التحليل الأخير أضعف، وهو أمر تبدو آثاره على مستقبل الثورة مقلقة إن لم يتم تداركها، فالتيار الذى خرج للميادين رافضا المبادئ فوق الدستورية استخدم لذلك أسلوبا زاد من مخاوف الطرف الآخر على نحو يزيد المطالبات بها، ومن ثم فهو ــ من حيث لا يدرى ــ يضع قيودا على الإرادة الشعبية، لأن أصحاب الكثرة العددية غير قادرين على التعامل بحكمة مع ظرف دقيق.

ثم إن شق الصف بما يعنيه من زيادة الاستقطاب بين القوى الإسلامية وغيرها له نتائج انتخابية ستكون هى الأخرى ذات تأثير كبير على مستقبل الثورة، فهو استقطاب مفيد انتخابيا للتيار الإسلامى كونه يحول المعركة الانتخابية من معركة سياسية إلى صراع هوية، وبحسب استطلاعات جالوب ــ وهى ذات مصداقية عالية ــ فإن القوة السياسية للإسلاميين ليست كبيرة، فنسبة تأييد السلفيين فى حدود 7%، والإخوان 15%، والوسط 5%، أى أن ربع الشعب المصرى فقط هو الذى يؤيد الإسلاميين فى المعركة السياسية، أما فى صراع الهوية فإن أكثر من 80% من الشعب المصرى يدافع عن الهوية العربية الإسلامية للوطن، وبالتالى فإن إبقاء الصراع فى دائرة الهوية يعنى فوزا انتخابيا مريحا ــ ومنفردا ربما ــ للتيار الإسلامى.

وليست المشكلة أبدا فى صعود التيار الإسلامى، فهو فى مجمله فصيل وطنى كغيره من الفصائل التى لا بد من احترام الإرادة الشعبية إن أتت بها للحكم، ولكن المشكل يكمن أولا فى احتياج هذه المرحلة الدقيقة للتوافق لا التنافس كون معركة التحرر الوطنى لم تنته بعد وتركة النظام السابق لا يستطيع أى فصيل سياسى أن ينهض بها منفردا.

والمشكل الأخطر فى ظنى هو السياق الحاكم لهذا الصعود الإسلامى، الذى قد يأتى ــ فى سياق الاستقطاب ــ مصحوبا بأمرين: أولهما مواد دستورية تعطى الجيش الحق فى التدخل دفاعا عن مدنية الدولة، وثانيهما رفض واسع من السياسيين والإعلاميين للصعود الإسلامى (وهو رفض لا مناص منه إن كان صعودا على أساس الهوية لا السياسة)، واجتماع العاملين يعنى أن القوى الإسلامية المرشحة للوصول للسلطة ستصل إليها منزوعة الإرادة، إذ ستبقى إرادتها أسيرة بيد من يملك ــ دستوريا ــ التدخل لعزلهم فى أى لحظة، وسيسهل ذلك سياسيا انحياز النخب ضدهم، وهو ما يعنى ــ فى التحليل الأخير ــ أن الثورة التى رامت حكما مدنيا ديمقراطيا ستعود بمصر إلى حيث كانت: حكما مدنيا مرهونا بإرادة مؤسسات عسكرية أكثر من ارتكانه إلى إرادة الشعب.

لا يزال تجنب هذا السيناريو ممكنا، وطالما بقى الأمر كذلك فقد وجب على القوى الوطنية الناضجة منع حدوثه، وذلك عن طريق الاضطلاع بدورها فى بناء التوافق والبناء على المشترك الوطنى، ويكون ذلك فى تقديرى بمفاصلة يقوم بها كل طرف مع متطرفى جانبه، الإسلاميون مع التيارات التى تقحم صراع الهوية فى العراك السياسى والقوى الأخرى مع أطرافها الهامشية التى تريد بتر مصر من سياقها الحضارى والتأريخى، ولا بد ــ مع ذلك ــ أن تتحمل هذه القوى بشجاعة ومسئولية النقد الذى ستواجهه من المزايدين عليها ــ هوية وثورية ــ فى مسعاها هذا، ولا يكون ذلك إلا بالتعاضد فيما بينها لوضع بذور الحركة الوطنية أو استعادتها.

إن هوية مصر العربية الإسلامية أوسع من حركاتها الإسلامية والقومية، فالأولى باقية ومتجذرة والثانية يصيبها ما يصيب الحركات من قلة الوعى وانغلاق الأفق بسبب تصحر سياسى وثقافى واجتماعى عانته البلاد لفترات طويلة، وبالتالى فإن الحركة الإسلامية ستبقى جزءا من الحركة الوطنية، احتكارها للساحة أو اقصاؤها منها خيارات لا ديمقراطية ثبت أنها لا تأتى إلا بالفشل والوبال، فعلى القوى الأكثر نضجا أن تعى أن غيرها لم ينل الفرصة الكافية فى الممارسة السياسية، وبالتالى فلا يزال يحتاج للتقويم والنقد، ولا بد أن تدرك تلك القوى الأقل نضجا أن مستقبل الأوطان لا يقبل المقامرات السياسية والمراوغات الصغيرة، ولا بد أن تدرك القوى السلفية أن فهمها للشرع ليس هو الفهم الوحيد، وأن الإسلام للشعب المصرى هو مرجعية لا أيديولوجية، وأنه يقبل خروج توجهات سياسية مختلفة منه، كلها متفق مع أصوله ومواطن الإجماع فى فروعه، وأن هذا التنوع هو حكمة من الله بالغة.

إن العيش المشترك محتوم والمصير المشترك مقدر، وبغير التحلى بالحكمة سيكون هذا العيش مرا، وهذا المصير مشئوما.

التعليقات