فى الجدل حول: المدنية والدينية - طارق البشرى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 8:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى الجدل حول: المدنية والدينية

نشر فى : الإثنين 7 نوفمبر 2011 - 12:25 م | آخر تحديث : الإثنين 7 نوفمبر 2011 - 12:25 م

الشاعر العظيم المبدع «جلال الدين الرومى» له صورة شعرية أحسبها تصلح وصفا رمزيا لما يجرى الآن من حوار بيننا على مدى الشهور السبعة الأخيرة، فهو يحكى فى ديوانه «المثنوى» عن قصة أستاذ طلب من تلميذه «الأحول» أن يأتى له بإبريق الماء الخاص به، ولكن التلميذ الأحول نظر إلى الإبريق فصوّره الحول له أنه إبريقان اثنان، واحتار فى اختيار أيهما يحمل، ثم هداه فكره أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر، فلما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر. ويبدو لى أن هذا تقريبا ما نصنعه الآن فى حديثنا العجيب عن مدنية الدولة أو دينية الدولة، ونتساءل ونختلف فى دولة دينية أو مدنية، ونظنهما دولتين نختار بينهما، بينما هما شىء واحد، ونحن إذا حطمنا ما نظنه واحدة منهما فلن نجد الأخرى.

 

إن «المدنية» فى الاستخدام العادى لها كانت تقوم فى مواجهة «العسكرية»، وكان القانون «المدنى» يقوم فى مواجهة القانون الجنائى والقانون الإدارى. ولكنها فى الاستخدام السائد المقصود فى الحوار الدائر الآن تقوم فى مواجهة «الدينية». وهى فى هذا الاستخدام الجارى الآن مقصود بها التنظيم المؤسسى للدولة وللمجتمع. و«الدينية» فى هذا التصور يكون مقصودا بها المرجعية الفكرية والثقافية العامة التى تقوم وراء هذا التنظيم المؤسسى.

 

الدولة مؤسسة، وأى مؤسسة هى ترتيب وتنظيم لأفراد من الناس على أوضاع تمكنهم من القيام المشترك بالأعمال، وذلك بالتعاون والتبادل بين بعضهم البعض على أسس نظامية مقدرة تكفل انتظام هذا الاشتراك واطراده. ولابد لهذا التنظيم أن يقوم على أهداف محددة تبين له وظائفه وأنواع ما يؤدى من عمل. والدولة هى مؤسسة من المؤسسات، ولكنها تشكيل ذو سلطة تفرض بها بأسها على أفراد المجتمع وجماعاته لتنظيم حركته وتفعيل نشاطه. ومن حيث هى سلطة تمارس على أفراد المجتمع وجماعاته، لابد لها من مرجعية فكرية وثقافية، تسوغ لها أن تأمر وتنهى وتهيمن على حركة المجتمع، مرجعية تُشَرّع لها هذه الحاكمية.

 

والإنسان والناس جميعا، هم من يمارسون العمل داخل مؤسسات الدولة، وهم أيضا من يمارس عمل الدولة وتطبق سلطاتها عليهم بوصفهم محكومين لها. ولابد من صيغة ثقافية عامة تجمع هؤلاء الناس الحكام مع هؤلاء الناس المحكومين، وإلا كان فعل الدولة عدوانا محضا، لابد من شرعية تجمع بين الجانبين، وإلا لم يفترق عمل الدولة عن فعل المغتصبين. فإن أحد تعريفات الدولة أو أحد خصائصها هو ما يذكره العالم المعروف «ماكس فيبر» من أنها هى من يملك وسائل العنف المشروع، فالمشروعية هنا هى المرجعية الثقافية. أو بعبارة أدق أنها مجموعة من المبادئ والقيم تؤول فى التحليل إلى مرجعية ثقافية معينة، أى مورد أو مصدر ثقافى معين. والمرجعية والمصدرية هما فى ظنى أمر واحد، لأن ما تصدر عنه فى البداية لنفرع عنه التفاريع، هو ما نرجع إليه فى النهاية لنؤصل هذه التفاريع.

 

إن الإنسان كيان واحد بما يحمل من معتقدات وبما ينصاع إليه فى سلوكه من قيم ومبادئ، وبما يتراضى على الانتظام فيه من أوضاع تعامل ونظم وأساليب عمل وعلاقات مع غيره من البشر. والأصول العامة المحيطة بكل ذلك هى ما يشار إليه بما يسمى المرجعية أو المصدرية، ولا توجد دولة ولا نظام ولا فرد ولا جماعة إلا لها مرجعية ما، فى تعاملاتها ونظمها وعلاقاتها، فمثلا صدر فى فرنسا قانون يفرض منع الحجاب على المرأة فى ظهورها العام، وكان ذلك طبعا يستند إلى مرجعية سائدة فى المجتمع الفرنسى، وقد واجهها البعض بأن الأصل هو الحرية، وهى مواجهة جدلية بين أصلين مرجعيين انتهت بتوافق بينهما على نحو ما. والمهم أنه يمكن القول إنه لا يوجد إدراك بشرى بغير أن يكون له أساس مرجعى ثقافى.

 

المرجعية إذن هى مفهوم فكرى ثقافى يتعلق بالأصول الفكرية المرجوع إليها فى التقدير النهائى لبيان ما هو الصواب وما هو الخطأ، أو ما هو الصحيح وما هو الباطل الفاسد، أو ما كان يعبر عنه قديما علماء الكلام بقولهم، ما هو الحسن وما هو القبيح، وذلك فى تصرفات الناس وعلاقاتهم مع بعضهم البعض. وهى على سبيل البيان، أولا الأصول الفكرية والثقافة العامة التى تؤمن بها الجماعة، التى تشكل قوة التماسك الأساسية لها بوصفها البشرى. وهى ثانيا الأصول الفكرية والثقافية العامة التى تصدر عنها مبادئ المشروعية فى المجتمع، سواء بالنسبة للأوامر والنواهى التى يلتزمون بها فى علاقاتهم مع بعضهم البعض، أو بالنسبة لأحكام التعامل التى يتداولونها ويتبادلونها بينهم. وهى ثالثا الأصول الفكرية والثقافية العامة التى تتشكل منها هياكل النظم السياسية والاجتماعية المشخصة للجماعة والمنظمة لها بوصفها الاجتماعى والسياسى، سواء الجماعة السياسية العامة أو الجماعات الفرعية التى يتكون منها المجتمع من أسر وعشائر وقبائل وطوائف وحرف ومهن، وهى المنظمة لأنماط العلاقات الاجتماعية السائدة فى كل من ذلك.

 

المرجعية هى تشكل ثقافى يجتمع عليه الناس، والجماعة من الناس تحتاج إلى تنظيم، والتنظيم يقرر ضوابط للحركة والتزامات متبادلة، والمرجعية دائما تعكس الثقافة السائدة فى المجتمع بين الجماعة البشرية، والمعول عليه فى تكشف المرجعية السائدة بين الناس فى الجماعة المعنية، هو بالواقع الفعلى لحقيقة ما ينتشر لدى الناس ويسود من أصول فكرية وثقافية ومعتقدات ذائعة بين الناس وتتغلغل فى نفوسهم وعقولهم بما يشكل دوافعهم وكوابحهم الذاتية والجماعية، وهى كشأن اللغة عنصر مهم وحاسم تنبنى به قوة التماس لدى الجماعة البشرية المعنية. وهى كشأن اللغة فى الجماعة لا تختارها من بدائل تقف على ذات المستوى من الأفضلية والترجيح، وإنما هى تحيط بالجماعة بوصفها من أسس نسيجها المعنوى، وهى قد تتطور عبر المراحل التاريخية وقد تتغير فى الكثير من مفرداتها بحكم التبادلات الثقافية مع الجماعات الأخرى فيدخلها جديد ويزوى منها قديم، ولكنها كشأن اللغة أيضا لا توضع موضع الاختيارات الإرادية مع غيرها من الثقافات كشأن السلع التى تعرض فى واجهات المحال التجارية.

 

وإذا سأل سائل نفسه، ما أساس التزامى بقرار للدولة، أو بحكم صدر علىّ من محكمة، أو بأمر صدر به قانون معين، فيقال له إنه الدستور، فيرد وما أساس التزامى بنص الدستور، فلا تبقى إجابة عنه إلا أن الأساس هو موافقة الجماعة البشرية التى يحيى السائل بينها، على هذا التنظيم الذى صدر بموجبه هذا أمر الالتزام المذكور، وهذه الموافقة الجمعية لا ترد إلا بموجب التشكل الثقافى الذى يسود فى هذه الجماعة، وبه يتشكل نظرها لما هو الخير وما هو الشر وما الحسن وما القبيح.

 

وإذا نظرنا فى المرجعية السائدة فى الغرب، نلحظ أن ثمة حديثا عما يسمى «القانون الطبيعى» وأنه الأصل المرجوع إليه أساسا للإجابة عن الأسئلة السابقة، ويبقى السؤال عما هو القانون الطبيعى، ونجد فى الكتابات الغربية أنهم يعرفونه مثلا بأنه «مجموعة المبادئ الأصلية الأزلية، هو القيم والمبادئ والأصول التى يتضمنها الضمير الإنسانى أو التى توصى بها الفطرة، وهو المبادئ المتضمنة فى الجماعة البشرية» وقد ساد هذا المفهوم فحل محل المرجعية الكنسية الدينية التى كانت سائدة قبله هناك فى القرون الوسطى.

 

وفى علوم القانون يقابلنا مفهوم مهم مؤثر جدا فى تصرفات المتعاملين وهو مفهوم «النظام العام» الذى يمكن به إبطال أى تصرف يتراضى عليه المتعاملون مع بعضهم البعض، ومفهوم النظام العام هو ما يمثل مجموعة المبادئ والقيم التى تسود الجماعة فى مرحلة تاريخية معينة.

 

وهذان المفهومان عن القانون الطبيعى أو النظام العام وما يماثلهما فيهما من التجريد ما يمكن من تطبيقات شديدة التعارض فى المبادئ الإنسانية التى يمكن استخلاصها، وهى كلها من صنع الإنسان الذى يدعى أنه يملك الحقيقة المطلقة، رغم أن الإنسان دائما ابن وقت معين ومرحلة تاريخية معينة ونوع جماعة سياسية تسكن اقليما معينا، كما أنه ابن مصالح قد تثقل عليه فكره. ويكفى القول إن هذه المفاهيم شديدة التجريد أخرجت النقائص من النظم الاقتصادية، من الرأسمالية إلى الاشتراكية والشيوعية على ما بينها من تضاد، ونقائص من النظم السياسية من الديمقراطية إلى النازية والفاشية على ما بينها من تضاد.

 

وأنا لا أقصد هنا التمييز والقول بأن ما لدينا خير مما لديهم، بل إن كل ما أقصده هو أن أوضح للقارئ أنه ليس من حق أحد ينتمى إلى أى من هذين المفهومين أو ما يماثلهما من المفاهيم الوضعية أن يتعالى علينا، ولا أن يزعم أنه يملك الحقيقة لا مطلقة من دوننا، لمجرد أن الغالبية الغالبة من شعبنا تفتش عن مرجعياتها وتعتمدها من داخل تراثها الثقافى، وأن علينا فى مواجهة بعضنا البعض أن نتواضع كثيرا، وأن ينظر كل منا للآخر الذى هو منا أيضا فى نطاق التمييز بين تفاصيل الأحكام التى يمكن أن تعالج بها أدواء مجتمعاتنا.

 

وما يتعين الجزم به أنه يستحيل فى نشاطنا السياسى والاجتماعى وبناء مؤسساتنا ونظم معاملاتنا، يستحيل أن نجردها من المرجعية الثقافية، كما يستحيل أن تكون هذه المرجعية غير صادرة عن الأصول الثقافية السائدة لدى الجماعة السياسية المعنية. وأنه بذات القدر من الاستحالة لا يمكن لذوى المرجعية الثقافية المعنية، أيا كانت أن يغفلوا عن الآثار الدنيوية للأفكار والثقافات، لأن المرجعيات الثقافية تتميز بأنها يمكن أن تنحذر منها وتتفرع الحلول المتنوعة المتوافقة لكل عصر ومصر، وأن من يتعمد إغفال الآثار الدنيوية المناسبة لما يحيى فيه من عصر ومصر إنما يكون ذلك منه موقفا دنيويا مخالفا للصوالح العامة التى تناسب الجماعة المعنية.

 

وأن الفكر المرجعى المستند إلى الدين، متهم من غير ذويه بأنه ينكر شئون المصالح الدنيوية، وهو اتهام لا يقوم فى أساسه ولا لدى الغالبية الغالبة من مفكرى هذا المجال، حتى فى العصور قبل العصر الحديث. ونلتقط مثلا حديث العز بن عبدالسلام الذى عاصر بداية عصر المماليك «وهو العصر الذى يسميه البعض عصر التخلف» يقول «التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد فى دنياهم وأخراهم، والله غنى عن عباده ولا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين». كما نلتقط من حديث الإمام أبى إسحق الشاطبى الذى جاء بعد العز بنحو قرن ونصف القرن فى ذات العصر ما يقول فيه «كل حكم شرعى ليس بخالٍ من حق الله تعالى وهو جهة التعبد، كما أن كل حكم شرعى فيه حق للعباد إما عاجلا أو آجلا، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد» كما نعرف عن الإمام الطوفى الحنبلى ما مفاده أن النصوص تخصص بالمصالح. وأن ذكر هذه الأمثلة أريد بها الإيضاح أن المرجعية الدينية لدى المؤمنين بها ليس فيها الفصل بين صلاح الدنيا والدعوة له وبين العبادة، وأن الإيمان أبدا مقترن بعمل الصالحات.

 

وأن منا من يستند فى مرجعيته عن حقوق الإنسان إلى نص البيان العالمى الصادر من الأمم المتحدة بأن جميع الناس يولدون أحرارا متساوين فى الكرامة والحقوق، فلماذا لا يقبل مواطن له يقول ذات المعنى مستندا إلى نص عبارة عمر بن الخطاب، ولماذا تقوم الفرقة بين الاثنين، وكذلك بالنسبة للقول عن حرية الفكر والاعتقاد وأنه لا إكراه فى الدين، وبالنسبة للوفاء بالعهود.

 

وهكذا. أنا أقصد من ذلك أنه من غير المجدى لنا بوصفنا جماعة وطنية أن نتحارب هكذا فى إطار كليات مجردة تماما لا تتحدث إلا عن «المدنية» و«الدينية»، وأنه يتعين أن نتجاوز هذا المستوى التجريدى إلى مستويات أقرب إلى التفريعات المصلة بالشئون والمسائل الحياتية، وأن نستفيد من التفريعات الخاصة بالمرجعيات السائدة فى مجال الحقوق العينية الملموسة أو ذات المساس بالأوضاع المعيشية.

 

إن «المرجعية» بوصفها مفهوما ثقافيا تفرض نفسها شئنا أم أبينا على جميع المؤسسات والسلطات وقيم السلوك ونظم المعاملات، وهى لا نختارها من مرجعيات عديدة معروضة علينا، وإنما هى ما يتعلق بالشأن الثقافى الحاصل وبالواقع الفكرى السائد لدى الجمهرة الغالبة من المواطنين فى كل عصر ومصر، هى ما يؤمن به الشعب فى عمومه ويتخلل العقول والأذهان فى الحياة البشرية الوطنية، وهى ما يحفظ قوة التماسك لهذه الجماعة المعنية.

 

وإذا كانت «المدنية» فى الاستخدام الجارى الآن مقصود بها لدى من يستخدمونها ويدعون إليها الاهتمام بالصالح الدنيوى للجماعة الوطنية، فهى طبعا لابد منها لانتظام الجماعة، وإذا كانت «الدينية» فى الاستخدام الجارى الآن تعنى الأصول الثقافية المرجوع إليها مما يسود لدى الجماعة البشرية الوطنية ويحفظ لها قوة تماسكها فهى لازمة وضرورية أيضا. ويكون جهدنا كله لا فى إثارة التعارض بينهما، ولكن فى استخلاص التوافق بينهما ليصير شيئا واحدا. وعندئذ نفيق من وهم أن إبريق جلال الدين الرومى إبريقان، وننجو من خطر كسر أحدهما فلا يبقى الآخر.

 

أختم حديثى بقول آخر لهذا الشاعر الكبير، فهو يقول: إن العالم مصنوع من المتناقضات، وأن الحياة تتأتى من السلام بين المتعارضات، وأن الموت يكمن فى التحارب بينهما، والحرب المعنية فى ظنى هى إثارة التنافى بين الظواهر وعدم إنعاش وجوه التفاهم والتآزر.

 

الحمد لله

التعليقات